ينطلق المشروع الملكي لإعادة هيكلة الحقل الديني بالمغرب من اعتبار "الدين حداثة عريقة... والحداثة مقدسا معاصرا".ذلك أن الانطلاق من اعتبار "الدين حداثة عريقة" يعني أن الدين هو من حرر الناس من عبادة الظواهر الطبيعية والسحر والشعوذة وعبادة الأصنام، والدين هو من أخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ... أما الانطلاق من كون "الحداثة مقدسا معاصرا" فيعني أن الحداثة هي من تُحرر الإنسان من تبني أفكار التطرف والغلو التي تمس جوهر الدين ...
إن أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس استند في رؤيته الثاقبة لمشروع الإصلاح الديني على ثلاثة أركان: الركن الأول يتمثل في إعادة هيكلة وزارة الأوقاف بإحداث المندوبيات الجهوية والإقليمية للشؤون الإسلامية، والركن الثاني في الأوقاف بإحداث مؤسسة حماية مالية الوقف والاستثمار فيه، فيما يهم الركن الثالث المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية.
كما يجب الانتباه إلى أن مخطط التأهيل المحلي للمساجد حقق مبدأ العمل التشاركي القريب من المواطن وعمل القرب بين العالِم والمواطن بشكل سلس وسهل ودائم ومتصل، وجعل مسألة ضبط الخطاب الديني داخل المساجد ممكنة وسهلة ومطابقة للثوابت الدينية للمملكة: عقيدة أشعرية وفقها مالكيا وسلوكا صوفيا، كل هذا تحت مظلة وإمارة المؤمنين الجامعة لهذه الثوابت والساهرة عليها.
كما أن ميثاق العلماء، من حيث هو عقد يربط بين العلماء والإمامة العظمى التي تحفظ لهذه الأمة بيضتها ووحدتها العقدية والمذهبية، يهدف إلى توحيد الخطاب الديني بالمغرب وتأهيل القيمين الدينيين علميا ومنهجيا، لتكون لهم القدرة على مواجهة أفكار التطرف والتشويش الدخيلة على ثوابت الدين الإسلامي السمح.
ومن اهم آليات تأهيل الحقل الديني بالمغرب، كذلك، الوزارة التي تسهر على الجانب الإداري والتنظيمي للحقل الديني، والمجالس العلمية، التي أوكل لها جلالة الملك، بصفته الرئيس المباشر لها، الانخراط في صلب المشروع الحداثي الديمقراطي للمملكة، والهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء التي أصبحت الفتوى بفضلها مُنظمة، ومن اختصاص هذه الهيئة العلمية المكونة من 15 عالماً،والتي لها من الكفاية العلمية والفقهية ما يؤهلها للاهتمام بشؤون وقضايا الأمة المغربية ومراعاة مصالحها وأحوالها في كل الفتاوى التي تصدر عنها.
ومن هذه الآليات كذلك الرابطة المحمدية للعلماء التي تضطلع بالبحث في العقيدة الأشعرية والفقهالمالكي والتصوف السني، وتعمل على إحياء التراث العلمي والثقافي والصوفي، ودار الحديث الحسنية، التي تم تأهيلها لتصبح معهدا يشمل البرامج الحديثة في المقررات الدراسية كإدخال اللغات الحية والعلوم الاجتماعية ضمن برامجها الدراسية،مما سيؤهل هذا المعهد لتخريج علماء قادرين على مسايرة المشروع الحداثي للمملكة. ينضاف إلى ذلك مركز تكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، ومؤسسة محمد السادس لطبع المصحف الشريف التي تُــعنى بالطبع والإخراج الجديد للمصحف المحمدي والكتب والمتون التي أنتجها كبار علماء المملكة في العقيدة والفقه والتصوف، ومؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للقيمين الدينيين التي تهتم بالأوضاع الاجتماعية للقيمين الدينيين...
ثمأيضاً مدارس التعليم العتيق التي عرفت تحديثا في العمق، من خلال تأسيس دُور ومدارس التعليم العتيق وتقنينها بشكل حديث على غرار المؤسسات التعليمية التابعة لوزارة التربية الوطنية... كما أصبح المسجد قِــبلة للتعلم والقراءة والكتابة للنساء والرجال، اذ أن النساء أكثر حضورا في دروس محو الأمية ودروس الوعظ والإرشاد. كما أصبح المسجد مدرسة لتعلم القرآن حفظا ورسما وتجويدا. كما أن معهد محمد السادس للقرآن الكريم يضطلع بتكوين وتأهيل وتخريج طلبة باحثين في القرآن وعلومه.
ومن أهم آليات تأهيل الحق الديني هو الفضاء الإعلامي والتواصل الذي عرف حضوراً قوياً وتواصلاً كبيراً، عبرإحداث آليتين إعلاميتين للمساهمة في تأهيل الحقل الديني، وهما إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم، وقناة محمد السادس للقرآن الكريم، حيث حققتالمؤسستان الإعلاميتان المذكورتان نجاحا كبيرًا، ولازالت تحققه سنة بعد أخرى، من خلال الإقبال المتزايد عليهما من طرف المواطنات والمواطنين .
وحري بنا كذلك تسجيل انخراط المرأة العالِمة في مشروع تأهيل الحقل الديني...حيث أثبتت قدرتها واستحقاقها للأمانة التي أناطها بها أميرالمؤمنين، لا سيما في خطابه يوم 30 أبريل 2004، والذي أمر فيه جلالته بضرورة إشراك المرأة العالِــمة في تأهيل المجتمع دينيا وتربويا ودعويا، مُضيفا أنها اليوم حاضرة بقوة داخل المسجد وداخل المجالس العلمية والمؤسسات التربوية والتعليمية، وفي جل المنابر الإعلامية.
أما بخصوص التأثيرات الإيجابية للإصلاح الديني بالمغرب على العديد من البلدان، فنؤكد أن مشروع تأهيل الحقل الديني بالمملكة شكل ويُشكل تجربة فريدة ومتميزة يمكن لهذه البلدان الاقتداء بها، لمواجهة الأفكار الهدامة والمتطرفة.
ونلاحظ، بهذا الصدد، نموا مطردا للدبلوماسية الدينية بالمغرب منذ سنة 2009، عبر مجموعة من القرارات منها إحداث أمير المؤمنين، في شهر شتنبر من سنة 2009، المجلس العلمي الأوروبي، الذي أوكل له جلالته صلاحيات الحفاظ على هوية الجالية المغربية وتعليمها الضروري أمور دينها، وكان ذلك بمثابة قرار مهم في مجال الدبلوماسية الدينية المغربية بأوروبا. ثم إن قرار إحياء الروابط الروحية بين الزوايا الدينية في الساحل الإفريقي وإمارة المؤمنين شكل أيضا استمرارا لدينامية الدبلوماسية الدينية، التي تُــوجت بحفل توقيع اتفاقية للتعاون في المجال الديني مع دولة مالي تنص على تكوين 500 إماماً. ونشير أيضا إلى أن المغرب يتقاسم مع موريتانيا ومالي وكوت ديفوار والسنغال والنيجر وأغلب دول الساحل الإفريقي نفس الرصيد الثقافي الروحي منذ اثني عشر قرن تقريبا.
إن الدور الكبير الذي تضطلع به الدبلوماسية الدينية في منطقة الساحل شكل محور اهتمام كبير في الجولات الهامة التي قام بها جلالة الملك بدول افريقيا، حيث توج ذلك بإحداث مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة سنة 2014، والتي جاء في أدبياتها وأهدافها ضرورة تفعيل التعاون الديني بين المغرب وباقي دول الساحل، والعمل على تقوية الحضور الروحي بدول الساحل للحد من خطر التطرف والإرهاب والغلو ومواجهة التيارات الهدامة التي تُصَــدِّرُها النماذج الدينية المتطرفة وتهب عواصفها من البلدان التي تزرع النعرات داخل الدول الأخرى وتسعى الى تصدير نماذجها الدينية للسيطرة على دول الساحل الإفريقي، ومن تم التحكم في خيراتها ونهب ثرواتها وخلق التفرقة والحروب بين مواطنيها .
هكذا يتأكد المتتبع من أن النموذج الديني المغربي ينطلق من تكريم الإنسان واحترام العقل، لأنه مناط التكليف ومواجهة كل أفكار الغلو والتطرف بنداء العقل والحكمة والتبصر... وبالعقل يراجع المشروع الديني المغربي كل القراءات الخاطئة للدين الإسلامي... ويعتمدقواعد دينية تجعل العقل والنقل في ميزانٍ متساوٍ لا تعارض بينهما،فلا إفراط في إعمال العقل، ولا تفريط في التشدد في الدين، لأنه من شد في الدين غلبه ....
بكل ما تقدم، وأمام تراجع النموذج السلفي الوهابي الجهادي، وانحباس النموذج الشيعي،وفشل تجربة الإخوان في تدبير الشأن العام إثرما يُدعى بالربيع العربي...يظل النموذج الديني المغربي النموذج الديني الوحيد الذي نجح في محيطه القاري والإقليمي والدولي، وأصبح مطلوبًا من طرف معظم الدول الإفريقية والأوربية والخليجية... لهذا أوردنا في عنوان هذه المقالة ما يُفيد، عن حق، نجاحه وعالميته. وهو ما يعنيأن الحاجة ماسة،اليوم وغداً، إلى عولمته التلقائية، لما فيه خير الجميع، وذلك ليس بمنطق التصدير المتعسف، وإنما بناءً على الطلب المتزايد عليه، واستناداً إلى جاذبيته ونجاعته ورغبة العديدين في التعرف عليه والاقتداء به والاهتداء باعتداله وتسامحه وانفتاحه، بالنظر إلى نجاح أسسه وآلياته في مواجهة التطرف والغلو في مهدهما التربوي والأخلاقي والديني والقيمي....
والحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده.