إلى متى يبقى العسكر يغتصب شرعية الشعوب العربية؟


علي الادريسي
الأربعاء 21 أغسطس/أوت 2013



بين الديمقراطية السياسية وديمقراطية المزاج التحكمي

يحضرني بمناسبة أحداث العداء المتبادل في مصر بين أنصار قوة الشرعية وأنصار شرعية القوة، وهدر دم جزء من الشعب المصري، من قبل شركاء الوطن الواحد وفرقاء السلطة والتحكم، ما جاء في كلمتي الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي والرئيس الفرنسي الحالي هولاند على إثر إعلان النتائج الأولية لانتخابات الرئاسة. وقد كانت حملتهما الانتخابية ساخنة جدا، لو حدث مثلها في أي بلد عربي لأدت إلى ما يحدث الآن في مصر وفي غيرها من "اقطار" عالم العرب.

فماذا قال الأول وماذا قال الثاني لأنصار حزبيهما ومناصريهما عقب ظهور النتائج الأولية من الدور الثاني لتلك الرئاسيات؟

قال ساركوزي، وهو يشكر أنصاره وكل من وقف إلى جانب برنامجه الانتخابي، ويعترف في الوقت نفسه بميل مؤشر الفوز إلى هولاند: "لقد اختار الشعب الفرنسي من يرأس فرنسا. وسنحترم اختياره، وأنا أتحمل مسؤولية ما حدث، كما لا ينبغي أن نعتبر الطرف الفائز عدوا، بل هو مجرد خصم سياسي".

أما هولاند الفائز بالرئاسة فقد توجه إلى أنصاره معلنا أمام الملأ "سأكون رئيسا لكل الفرنسيين، بغض النظر عن اختلاف توجهاتهم السياسية، وإني أضمن لهم جميعا حقوق المواطنة والتمتع بكل ما تخوله لهم قوانين الجمهورية من مرافق وخدمات".

استحضرت هذه الواقعة الديمقراطية، وأنا أتابع التراجيديا المصرية، بعد اصطفاف بعض اللبراليين والعلمانيين والسلفيين الوهابيين وبقايا دولة مبارك وابنه جمال، والحالمين بعودة "ديمقراطية ومنهجية ستالين" مجددا، إلى جانب العسكر في انقلابهم الجديد على قواعد اللعبة الديمقراطية في مصر. ويتذكر الجميع أن انتخابات الرئاسة المصرية والفرنسية حدثت في حيز زماني متقارب جدا (ما بين أواخر أبريل وأوائل مايو 2012).

فشتان ما بين من يحترم قواعد اللعبة السياسية الديمقراطية وبين من يقرر مزاجه أنه اللاعب الوحيد الذي يحق له أن يؤول تلك القواعد وفق المزاج والهوى، معلنا أن الشعب أخطأ في التأويل واللعب، ولذا وجب إقصاؤه من اللعبة وتعويضه بأولئك الذين يزعمون أنهم هم الطليعة الذين يمثلون إرادة الشعب والشرعية البديلة!!

أما الجماهير التي صوتت لغيرهم في الانتخابات فهم مجرد غوغاء ودهماء "خُطفت" أذهانهم وعقولهم من طرف " الإخوانيين الظلاميين".

للتذكير فإن ما علّل به أنصار الانقلاب العسكري في مصر مواقفهم من الانقلاب على شرعية صندوق الانتخابات لا يختلف كثيرا عما علل به ما يسمى "المجتمع المدني" وأحد "الديمقراطيين اللبرايين" في الجزائر سنة 1992 حين أسقطهم الشعب في أول تشريعيات نزيهة في هذا البلد، ومنح الفوز للجبهة الإسلامية للإنقاذ، فصرخ "الديمقراطي" ومن معه معلنا أنه "أخطأ في اختيار الشعب المؤهل للديمقراطية". فكان ما كان من إلغاء اختيار الشعب الجزائري مقبل الجيش، ومن حمام العنف والدم الذي خلف أكثر من 200000 قتيل و...

هل الانقلابات العسكرية هي البديل السياسي الوحيد للعرب؟

وإلغاء قواعد اللعبة الديمقراطية يتكرر هذه المرة بشعارات لم يعد يؤمن بها إلا الراسخون في فوائد ريع الانقلابات العسكرية، التي بدأت تغزو هذه الخريطة البشرية منذ 1949، (حصل 42 انقلابا فعليا لحد الآن). وكنا نعتقد أن نسمات الديمقراطية بدأ يصل أريجها إلى شعوب لطالما اشتاقت إليها وتغنت بأمل تحقيق المواطنة القائمة على الحرية والعدالة والعيش الكريم، كما اعتقدنا أنه ليس من إنصاف التاريخ أن تستثنى شعوب بكاملها عن تقرير مصيرها السياسي عبر الاختيار الحر للبرامج المقدمة لها عبر انتخابات حرة نزيهة، من أجل أن تسجل حضورها، وتؤكد وجودها في عصر إنسانية القرن الواحد والعشرين، أسوة بشعوب المعسكر الشرقي التي تحررت من نير الستالينية، وأقطار جنوب أوروبا التي سبق لها أن تحررت من دكتاتورية الجنرالات، وشعوب أمريكا الجنوبية التي نجح تمردها على شريعة العسكر، وعلى مكر أمريكا التي حاولت إخضاع تلك الشعوب لمنطق حظيرة جمهوريات الموز... كما تحرر الشعب التركي من استبداد الانكشارية الجديدة التي أسسها أتاتورك تزامنا مع ظاهرة استالين.

انعقد الأمل على حراك الشارع العربي منذ 17 ديسمبر 2010 حين انطلقت من مدينة سيدي بوزيد التونسية شرارة رفض القمع والاستبداد الشرقي الذي طال أمده في هذه الرقعة من العالم. واستبشر الناس الطيبون بأن الجيش المصري عرف أخيرا أن موقعه لا يكون إلا بجانب شعبه، وأنه يرفض أن يستمر دوره في حماية الطغاة بدل من حماية الحدود والدفاع عن الوطن.

أيمكن أن تكون الديمقراطية فجرا كاذبا عند العرب؟

وما أقصر الحلم بأمل التغيير، فبعد سنتين ونصف السنة مما سمي "فجر الديمقراطية العربية"، تبين أنه كان فجرا كاذبا. وكل من يتابع ما يجري الآن في الأقطار التي زارها ذلك الفجر يكاد يتيقن بأن العرب ظاهرة مستعصية عن إدراجها في منحنى تطور العالم وتبدل الأحوال، بل قد يتيقن بأن عدم تدخل الجيش المصري لمنع وقمع حراك الشعب المصري فيما سموه "ثورة 25 يناير 2011" لم يكن يتعلق بتغيير الاستراتيجية، بل كان عقابا لحسني مبارك العسكري، الذي فكر في توريث الحكم لابنه جمال، وهو ليس عسكريا. وكان حافظ الأسد أكثر دهاء ومكرا منه حين ألحق ابنه بشار بالجيش، ثم تخطى كل المراتب العسكري لتمنح له رتبة فريق في الجيش يوم وفاة والده.

الفجر الكاذب وكشف الغطاء

مما لاشك فيه أن الفجر الكاذب كانت له بعض الفوائد، فلا وجود لجريمة كاملة، فقد كشف أن الذين يزعمون الانتماء إلى الحداثة عجزوا عن إقناع شعوبهم بما يزعمون ويعتقدون، ففضلوا الاحتماء بدبابات العسكر، وتبني سيادة القوة بدل سيادة الشعب النتجة عن اخياره الحر. ويبدو أن المنتمين لهذه الحداثة المرتاحين لموسيقى أحذية الجيش الغليظة (Rangers de l’armée) أضحت لديهم قناعات و"امتيازات حداثية" استخلصها المؤرخ السياسي الفرنسي كَي بريفيليي (guy perville) في كتابه عن الطلبة الجزائريين في الجامعة الفرنسية إبان الاستعمار الفرنسي، بكون فئة منهم انسلخوا عن أصولهم الثقافية والاجتماعية، بل "اعترفوا بوحشية تلك الأصول وأعلنوا صراحة تنكرهم لها" (ص 129 من النسخة العربية).

ومن الأمور الهامة التي كشفها كذلك الانقلاب الجديد للعسكر في مصر أن كثيرين من أصحاب النزعة القومية والعروبية لا يزالون يستظلون بخوذات العسكر، ولم يراجعوا أدبياتهم التي أكد التاريخ أنها لا تبتعد كثيرا عن الأدبيات القوميين الألمان والطليان الذين انضووا تحت لواء النازية والفاشية وتلحفوا لعنة الإنسانية والتاريخ...

لكن الأمر الأهم المكتشف في هذا الانقلاب العسكري هو دخول السلفية الوهابية دائرة العداء للديمقراطية كمسلك ومنهج لممارسة الحكم، فقبل أن يعلن الملك السعودي عبد الله تأييده الكامل للانقلاب العسكري في مصر، ويغدق عليه ملايير الدولارات، ( عكس ما كان زمن انقلاب عبد الناصر ورفاقه في سوريا والعراق واليمن فسبحان مبدل الأحوال)، كان أحد شيوخ الوهابية، وهو عبد الرحمان البراك قد أفتى بـ"أن الانتخابات حرام شرعا؛ هي أمر دخيل على المسلمين، وتشبّهٌ بالكفار... وأنها تضمن المساواة بين العلماء والجهال، والرجال والنساء. وهذا يخالف العقل والشرع" (نقلا عن جردة "القدس العربي" عدد 17 ـ 1 ـ 2013).

وهناك أكثر من مؤشر على أن حلبة الصراع قد انتصبت على طول خريطة الشعوب الإسلامية بين السلفية الوهابية من جهة، وبين باقي النزعات السنية وتيارات الإسلام السياسي من جهة ثانية. وأرجو أن أكون مخطئا.

لكن ما يمكن أن يكون شبه مؤكد في المدى المتوسط على الأقل أن المواجهة قادمة وتكون أخطر مما فعله ويفعله العسكر، لأنها ستعتمد على وثوقية الرأي والرؤية؛ هذه الوثوقية أو الدغمائية يتميز بها شيوخ السلفية الوهابية. فهم يصفون أنفسهم بأنهم وحدهم من يقوم بـ"حراسة التوحيد"، (انظر مؤلف الشيخ ابن باز في هذا الادعاء)، دون غيرهم الذين يعتبرونهم غير موحدين.

ويمكن أن يكون الصراع حينئذ أكثر تدميرا من الصراع العسكري المستمر منذ 1949 بحواشيه من المدنيين المتزلفين، وبين الشعب التواق إلى التحرر والعدالة والكرامة. وسيزداد أواره بمجرد ظهور بوادر عودة الدفء إلى العلاقات الأمريكية الإيرانية، وهو أمر غير مستبعد خلال الرباعية الأولى لرئاسة روحاني ...

وفي هذا السياق يمكن إعادة قراءة جملة وردت في خطاب رئيس أمريكا السابق، بوش الابن، سنة 2003، بمناسبة الذكرى العشرين لتأسيس "الصندوق القومي للديمقراطية" حين تساءل: "هل تقع شعوب الشرق الأوسط بشكل ما خارج نطاق تأثير الحرية؟ هل حُكم على الملايين من الرجال والنساء والأطفال العيش في ظل الاستبداد بسبب التاريخ والثقافة، هل وحدهم دون سواهم الذين لن يعرفوا الحرية ولن يحصلوا إطلاقا حتى على فرصة أن يكون لهم رأي في المسألة"؟

مما لاشك فيه أن الأمريكيين وغيرهم يعرفون عن طبيعة الأنظمة العربية أكثر مما نعرف، وهم بطبيعة مصالحهم ومصالح حلفائهم في المنطقة يساعدون بطرائقهم المختلفة من أجل استمرار هذه الأنظمة، ويوظفون أوضاعها وعلاقتها بشعوبها من أجل تحقيق استراتيجياتهم في المنطقة وتحقيق "الشرق الأوسط الجديد". وهذا دورهم، ومن حقهم أن يفعلوا ذلك.

أين يكمن الحل؟

لكن ما دورنا نحن المنتسبون إلى هذه الرقعة الجغرافية والكتلة البشرية، هل نكتفي بإلقاء اللوم على غيرنا والعيب فينا، هل يكفي أن تُشحن عواطف الناس بشعارات سجعية جميلة المفردات والنغم، لكنها تبقى عديمة التأثير في تغيير الواقع، أو الدعوة إلى رسوم الدين، والاكتفاء بإعلان إخلاص النية؟

في السياسة، وفي كل ما يتعلق ببناء مستقبل أفضل، لا يكفي أن نقول "النية أبلغ من العمل"؛ لأن الخطأ يطال العمل وليس النية. والعمل له قواعده وشروطه. ومن أخل بشروط العمل وقواعده تخلى عنه المستقبل، وأضحى مجرد وسيلة في يد غيره يتشكل وفق أهدافه، ينفذ مآربه دون وعي منه. ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن التاريخ تصنعه الأفكار الأصيلة والأعمال البديعة النافعة للبشر، أما الانفعالات فتجعل صاحبه يتصرف دون مقاصده حتما. وأول هذه القواعد والشروط في الجانب السياسي أن تكون الشرعية والسيادة للأمة، ويكون عكس ذلك، مهما يكن مصدره وتعليله وتسويغه، باطلا.

مقالات ذات صلة