الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر


محمد الحنفي
الأربعاء 10 أغسطس/أوت 2016










كثيرا ما تملأ أسماعنا مقولة "الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر" فنضطر إلى القول بأن الأمور ستسير في الطريق نحو سلامة المجتمع من كل الأمراض الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، لكونها تتنافى مع تحقيق كرامة الإنسان التي هي الملاذ الذي تسعى البشرية إلى الوصول إليه . غير أننا نسقط في متاهة اللاتحديد فلا ندري ماذا نعني "بالمعروف" ، ولا ماذا نعني " بالمنكر" نظرا لعمومية اللفظين ولنسبية المدلول ، كما لا ندري من هو " الآمر" ولا من هو الناهي ؟ وهل يمكن لكل إنسان وكيفما كان مستواه أن يقوم بعملية الأمر وبعملية النهي ؟
إننا أمام إشكالية ستبقى قائمة – كما كانت – منذ وجد مفهوم "المعروف" و مفهوم" المنكر" وهذان المفهومان يقتضيان منا معالجة جديدة مخالفة لما ورد في التفاسير المختلفة للقرآن الكريم، وفي كتب الفقه وفي العديد من الكتب التي تسمي نفسها إسلامية ، نظرا لما لحق هذين المفهومين من تحريف يستهدف مصلحة الحكام من جهة ومصلحة فقهاء الظلام و مؤدلجي الدين الإسلامي ، لأنه حسب هؤلاء على تنوعهم وتلونهم , فالمعروف هو ما ناسب خدمة مصالحهم الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية . والمنكر هو كل ما ناهض تلك المصلحة وعرقل خدمتها . ولذلك نجد أن هؤلاء يوظفون كل أشكال الإرهاب المادي والمعنوي لتحقيق " المعروف" والمحافظة على وثيرة أدائه ، ولمنع المنكر الذي يعرقل أداء المعروف. وحتى نكون في عمق الصورة ، فإننا نتناول هذا الموضوع من خلال تشريح مفهوم المعروف ، ومفهوم المنكر , والغاية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ونسبية المعروف ونسبية المنكر، وعلاقة المعروف والمنكر بالقيم السائدة في المجتمع والغاية من ادلجة المعروف والمنكر ، ومعيار الادلجة ، وضرورة تحديد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و آفاق التوظيف الإيديولوجي للمعروف والمنكر .
وما العمل من اجل جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في خدمة المجتمع ؟
ونحن عندما نتناول هذه الفقرات فلأجل أن نقف بالتحليل الملموس لواقع" الأمر بالمعروف" و"النهي عن المنكر" حتى نتبين أن هذا المفهوم الذي استهلك كثيرا لقرون كثيرة لازال يراوح مكانه، ولازال لم يتحدد بعد حتى يأخذ طريقه إلى التمهيد لتجسيد القيم النبيلة التي تجعل الحاجة إلى الأمر"بالمعروف" والنهي"عن المنكر" غير واردة لالتزام الناس بالمسلكية الهادفة إلى تحقيق كرامة الإنسان . فتحديد المفهوم، لا إلغاؤه صار شرطا لتجنب الخلط والتضليل حتى يتبين للناس ما يجب عمله ، وما هو البرنامج الذي يجب اتباعه لتقويم المسلكية العامة، وما هي الأسس التي يجب اعتمادها لوضع ذلك البرنامج. لأن زمن الأمر والنهي الذي كان سائدا في المجتمع المتخلف والتقليدي ، والطفولي لم يعد واردا في زمن صار فيه التعلم يقطع أشواطا كبيرة ومتعددة المستويات ، ومختلفة النسب ، فما صار واردا هو الإعداد التربوي للأجيال وفق برنامج محدد وواضح المعالم والبنود ، والمراحل ، والأهداف الإجرائية والعامة ، والغايات الكبرى وعلى جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية.

مفهوم المعروف ومفهوم المنكر :
إننا إذا أردنا آن نقف على حقيقة مفهوم المعروف ومفهوم المنكر علينا أن نفرغهما من مضمونهما الديني الذي حكمهما منذ نزول القرءان والى يومنا هذا. ذلك المضمون الذي اكسبهما إمكانية استغلالهما عن طريق ادلجتهما من قبل مؤدلجي الدين الإسلامي سواء كانوا مسيطرين على أجهزة الدولة أو كانوا يسعون إلى السيطرة عليها.وسواء عاشوا في الزمن الماضي أو في الحاضر . كما يجب أن ننطلق من كون مفهوم المعروف ، ومفهوم المنكر هما مفهومان نسبيان ، وليسا مطلقين حتى نتبين أن مدلولهما يختلف من زمن إلى زمن آخر ، ومن مكان إلى مكان آخر . بالإضافة إلى أن مدلولهما لا يرتبط بالممارسة الفردية المعزولة، بقدر ما يرتبط بها في علاقتها بالممارسة العامة للمجتمع.ولذلك نجد أن مفهوم المعروف يستدرجنا إلى القول بأنه كل ما تعارف الناس على قبول فعله والقيام به انطلاقا من الشروط الموضوعية القائمة في بلد معين وفي زمن معين، فادا تغيرت الشروط ، وتغير المكان و الزمن ، فان ما يصطلح على تسميته بالمعروف قد يصير غير معروف ، إن لم يصر منكرا.وحسب هذا الفهم الذي نرجحه فان المعروف لا يكون واجبا، و لا يقوم به الناس استجابة لأمر معين... بل يقومون به باختيارهم انطلاقا مما هو سائد من عادات وتقاليد و أعراف في بلد معين، وفي مجتمع معين، وفي زمن معين لان العادات والتقاليد والأعراف تختلف باختلاف البلدان والمجتمعات و الأزمنة .
و المعروف يعتبر معروفا أيضا لكونه يخدم مصالح المجتمع، ويلبي حاجاتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية كما هي متعارف عليها انطلاقا من الشروط الذاتية ، والموضوعية لمجتمع معين ، وفي بلد معين وفي زمن معين حتى يلعب دوره في عملية التطور الشاملة لمجمل حياة الناس، ويساهم في عملية الانتقال من تشكيلة اقتصادية اجتماعية إلى تشكيلة اقتصادية اجتماعية أخرى قد تختلف فيها علاقات الإنتاج التي تؤدي إلى اختلاف العادات والتقاليد و الأعراف ، فيتغير مضمون المعروف لان ما كان يناسب التشكيلة الاجتماعية السابقة لا يناسب التشكيلة الاجتماعية اللاحقة.
أما المنكر فهو اسم مفعول من أنكر ينكر إنكارا بمعنى اقر بعدم معرفته بشيء معين ، ولعدم صلاحيته للوجود ولذلك فالناس لا يقومون إلا بالأفعال التي يعرفونها ، أما الأفعال التي لا يعرفون عنها شيئا، فيتجنبون القيام بها . وبالنسبة للمفهوم المتداول فالمنكر كل ما اتفق الناس على عدم القيام به لعدم مناسبته لهم، أو لكونه يقف وراء إحداث أضرار اقتصادية و اجتماعية معينة في مجتمع معين و في بلد معين و زمن معين. و انطلاقا من العادات و التقاليد و الأعراف السائدة في ذلك المجتمع. و انطلاقا من هذا التحديد فالمنكر مسألة نسبية كما هو الشأن بالنسبة للمعروف، لأن ما كان منكرا في بلد معين و في زمن معين قد لا يكون كذلك في زمن آخر في نفس البلد لاختلاف الشروط الموضوعية التي تحكمت في قيام ذلك المفهوم، و في تحوله.
أما المفهوم الديني للمعروف و المنكر فيتصف بالاطلاقية و لا يعترف بتغير الأمكنة و الأزمنة. كما لا يعترف بالشروط الموضوعية، فما ناسب ما جاء في النص الديني فهو معروف أو منكر، و ما لم يناسب ما جاء في النص الديني فهو ليس معروفا، أو ليس منكرا. فهو يخضع لدينامية أخرى إنها دينامية التجربة. و النص الديني الذي أريد له أن يكون مطلقا، هو نفسه الذي يعترف بنسبية الأشياء، و إلا فلماذا أسباب النزول؟ و لماذا الناسخ و المنسوخ ؟ لماذا نجد في القرآن مثلا : قول الله " و من الثمرات و النخيل و الأعناب تتخذون منه سكرا و رزقا حسنا" و قول الله " لا تقربوا الصلاة و انتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون" و قول الله "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون" فالنسبية في هذه الأقوال حاضرة و لا ينكرها إلا متعصب.
و الاطلاقية التي أريد للنص الديني أن يتصف بها هي التي تعطيه إمكانية التحول إلى سلطة قاهرة على يد من ينصبون أنفسهم رجالا للدين، و الذين يختلف فهمهم للنص الديني من زمن إلى آخر و من مكان إلى آخر مما يؤكد تلك النسبية و يكرسها.
و تلك السلطة التي صارت سلطة مطلقة هي التي اعتمدها بعض الناس فحولوا مفهوم المعروف و مفهوم المنكر إلى تعبير عن المصالح الطبقية لطبقة معينة، أو لمجموعة من الطبقات الاجتماعية حتى يرتبط المعروف بما يخدم مصالح تلك الطبقة أو هذه ، و المنكر هو ما لا يخدم تلك المصلحة. و المعروف في النص الديني يرتبط بالأمر ، والمنكر يرتبط بالنهي . فما هو الأمر ؟ و ما هو النهي ؟
إن الأمر بصفة عامة هو مجرد صيغة يمكن أن تفيد معاني مختلفة باختلاف السياق الذي وردت فيه، و يذهب الأصوليون (علماء الأصول ) الذين يشتغلون على علم أصول الفقه أن الأمر إذا ورد في القرآن أو في النص الديني يفيد معنى الوجوب، و الوجوب حسب هؤلاء هو كل ما يجازي القائم به و يعاقب تاركه.
و كذلك الشأن بالنسبة للنهي، فهو مجرد صيغة يمكن أن تفيد معاني مختلفة بحسب السياق الذي يرد فيه و يرى الأصوليون أن النهي في النص الديني و في القرءان يفيد معنى وجوب عدم القيام بالفعل موضوع النص و حسب هؤلاء الأصوليين فالنهي هو كل ما يجازي المرء على تركه و يعاقب على فعله.
و نظرا لطبيعة الأمر و النهي في النص الديني حسب ما يراه الأصوليون، فإن الذين ينصبون أنفسهم "رجال الدين" يستغلون هذه الطبيعة لفرض سيادتهم على المجتمع باسم الدين الأمر الذي يحول الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلى مجرد وسيلة لتحقيق مصالح طبقية معينة، و لفرض التقرب من الحاكمين المؤدلجين للدين الإسلامي، فيتحول الأمر بالمعروف و النهي و المنكر إلى وسيلة لتكريس الاستبداد بالمجتمع. و إرهاب الناس بواسطة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الذي يتحول إلى مجرد تعبير عن مصالح الطبقة الحاكمة. و بالنسبة لمؤدلجي الدين الإسلامي يصير الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر تعبيرا أيديولوجيا مساهما بشكل كبير في تجسيد المصلحة الإيديولوجية لمختلف التيارات المؤدلجة للدين بصفة عامة، و المؤدلجة للدين الإسلامي بصفة خاصة . و لتصير ادلجة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وسيلة لانتاج استبداد يميني متطرف بالمجتمع.
و حتى نتجاوز إشكالية تحديد المفهوم ، فإن الخلاصة التي يمكن أن نخرج بها تتحدد في :
1) أن مفهوم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مفهومان نسبيان.
2) أن مفسري النص الديني يعملون على تكريس إطلاقية المفهومين، و كأن الواقع ثابت لا يتغير.
3) أن هذين المفهومين يستغلان لبسط سلطة رجال الدين في المجتمع، و لاستغلال تلك السلطة لحماية المصالح الطبقية، و تنمية تلك المصالح.
4) أن هذين المفهومين يصيران وسيلة لتكريس الاستبداد بالمجتمع.
5) أن مؤدلجي الدين الإسلامي يحولون مفهومي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلى ممارسة أيديولوجية تستغل لنسج استبداد متطرف بديل بالمجتمع.
و في نظرنا فالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يجب أن يتحول إلى ممارسة تربوية على حقوق الإنسان الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية في إطار مجتمع حر و ديمقراطي و عادل تشرف على تدبيره دولة الحق و القانون، فيصير مفهوم المعروف هو كل ما تلاءم مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، و المنكر هو كل ما لم يتلاءم مع تلك المواثيق من دستور و قوانين اجرائية تشرف أجهزة الدولة على تطبيقها في الحياة العامة، باعتبارها دولة الحق و القانون. لتنتفي بذلك الحاجة إلى الأمر و الحاجة إلى النهي، لأن المتشبع بالتربية على حقوق الإنسان يعرف ماله فيسعى إلى التمتع به، و ما ليس له فيعمل على تجنبه. و لأن دولة الحق و القانون تشرف على تطبيق القوانين المتلائمة مع المواثيق الدولية.

الغاية من الأمر بالمعروف :
و الأمر بالمعروف بالنسبة للعادات و التقاليد و الأعراف السائدة في مجتمع معين و في بلد معين، و في مرحلة تاريخية معينة يهدف إلى تحقيق إعادة إنتاج نفس القيم السائدة المتعارف عليها، و القائمة على وجود تشكيلة اقتصادية و اجتماعية و ثقافية معينة. هذه التشكيلة التي تفترض أنها مستمرة ولا تتغير أبدا، و أن استمرارها يقتضي إعادة إنتاج القيم المناسبة لها. فإذا تغيرت، تغيرت العادات و التقاليد و الأعراف، و تغيرت تبعا لذلك القيم السائدة. و انطلاقا من مفهوم التشكيلة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية، نجد أن ما كان يناسب التشكيلة المشاعية من قيم لا يناسب التشكيلة العبودية التي تختلف قيمها عن التشكيلة الإقطاعية التي تنتج قيما اختلفت عنها التشكيلة الرأسمالية التي تتناقض قيمها مع التشكيلة الاشتراكية التي تعتبر بداية لانتاج القيم المتطورة في اتجاه تحقيق المرحلة الشيوعية التي تتميز بإنتاج القيم الإنسانية الراقية و الأكثر تطورا. و لذلك فخطورة العادات و التقاليد و الأعراف تأتي من كونها تعتبر نتيجة للتحول الذي تعرفه التشكيلة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و لهذا كانت الغاية من الأمر بالمعروف هي إنتاج القيم أو إعادة إنتاج القيم المتناسبة مع تلك العادات و التقاليد و الأعراف لضمان استمرار تشكيلة اقتصادية اجتماعية معينة، حتى إن لم تعد صالحة للاستمرار و العمل على مقاومة إمكانية سيادة قيم تتناسب مع تشكيلة اجتماعية ثقافية نقيضة باعتبار القيم الجديدة منكرا.
أما على مستوى النص الديني فإن الأمر بالمعروف يهدف إلى تحقيق إعادة إنتاج القيم المتناسبة مع روح النص الديني باعتباره نصا مطلقا، و باعتبار القيم التي تناسب روحه قيما مطلقة يجب أن تسود في جميع الأزمنة، و في جميع الأمكنة حتى و إن كان هذا التصور يتناقض مع نسبية النص الديني التي أشرنا إلى بعض دلائلها، و حتى إن أخذنا بنسبية النص الديني، فإن القيم المتجددة و المتطورة تعبر عن روح النص الديني المتجددة بدورها.
غير أن الذين ينصبون أنفسهم أوصياء على الدين، فيتحولون بسبب ذلك إلى "رجال الدين" فإنهم يعتبرون أن الغاية من الأمر بالمعروف هي إعادة إنتاج القيم التي تخدم مصالحهم الطبقية في علاقتهم مع الجماهير الشعبية من جهة، و في علاقتهم مع الطبقة الحاكمة من جهة أخرى، فإذا كانت القيم المعاد إنتاجها لا تخدم تلك المصالح اعتبرت منكرا تجب محاربته.
و بالنسبة للطبقة الحاكمة فإن الأمر بالمعروف يهدف إلى إنتاج أو إعادة إنتاج القيم التي تؤدي إلى تأبيد سلطة تلك الطبقة. فإذا كانت القيم المنتجة أو المعاد إنتاجها لا تحقق ذلك اعتبرت منكرا.
و معلوم أن الطبقة الحاكمة تعمل على استئجار من يروج لثقافة إنتاج قيم تأبيد سيطرتها و هؤلاء المستأجرون هم الذين يسمون أنفسهم برجال الدين الذين يقومون بادلجة الدين من اجل تحقيق إنتاج القيم التي تؤبد سيطرة الطبقة الحاكمة.
أما مؤدلجوا الدين الإسلامي بالخصوص على اختلاف توجهاتهم و ألوانهم فإنهم يسعون إلى جعل الأمر بالمعروف يحقق غاية إنتاج القيم المؤدية إلى تحقيق استبداد بديل بجميع مناحي الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية في أفق قيام دولة يمينية متطرفة يسمونها "الدولة الإسلامية"، و هذه الغاية تقتضي تعميق ادلجة الدين الإسلامي، و التماس مثال للتجارب المغرقة في ادلجة الدين الإسلامي إلى درجة الظلامية من اجل الوصول إلى الاستبداد بالمجتمع كغاية قصوى باعتبار المستبدين الجدد يخلفون الله في الأرض.
و في نظرنا فإن الغاية من الأمر بالمعروف يجب أن تستهدف إنتاج القيم المعبرة عن مساهمة الأفراد و الجماعات و المجتمعات في تطوير المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، و في أفق السعي إلى تغيير التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية بتشكيلة أرقى تحظى فيها كرامة الإنسان بالتحقق على جميع المستويات و في جميع مناحي الحياة، لأن القيم التي لا تعمل على تطوير المجتمع و على تطوره، فإنها تعمل على تخلفه و تراجعه إلى الوراء. و بالتالي فإن المستفيد من التطور و التطوير هو الإنسان الذي ينفتح على العالم، و يستفيد منه و يفيد في تحقيق كرامة البشرية بتحقيق مجتمع الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية.
و انطلاقا مما رأينا، فإن الأمر بالمعروف ليس إلا نصيحة بتمثل القيم الإيجابية في المجتمع كما تقرها العادات و التقاليد و الأعراف. و كما هي مساعدة على الانتقال بالمجتمع إلى المرحلة الأرقى التي تقتضيها مصلحة البشرية أفرادا وجماعات ومجتمعات حتى تتجاوز البشرية كل الأزمات التي تحول دون استدامة كرامتها التي ستصير غير قابلة للهدر أبدا في المجتمع الحر و الديمقراطي و العادل الذي هو الأمل الذي ناضلت من اجل تحقيقه البشرية منذ الزمن القديم و إلى يومنا هذا. و ستناضل إلى أن يتحقق.

الغاية من النهي عن المنكر :
و كما رأينا في الغاية من الأمر بالمعروف، فإن الغاية من النهي عن المنكر، يقتضي منا أن نسجل أن المنكر مسألة نسبية تختلف باختلاف العادات و التقاليد و الأعراف التي تختلف حسب الأمكنة و الأزمنة و حسب التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية في تطورها، و في تمرحلها انطلاقا من خصوصية كل مجتمع على حدة. و انطلاقا من ذلك ، فإن المنكر يتحدد انطلاقا من الشروط الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية السائدة في بلد معين و في زمن معين. و انطلاقا من هذا الاختلاف الموضوعي لمفهوم المنكر، فإن الغاية منه أيضا تختلف تعبا لاختلاف العادات و التقاليد و الأعراف حسب الأزمنة و الأمكنة، و طبيعة المجتمعات و حسب التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية في تطورها. و انطلاقا من الشروط الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية في بلد معين و في زمن معين.
و لذلك نجد أن الغاية من النهي عن المنكر في المجتمع المشاعي تتحدد في محاربة كل القيم التي تحد من ممارسة المشاعة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية حتى لا يبرز في الأفق ما يؤدي إلى الحد منها، و القضاء عليها، و سيطرة البعض على الطبيعة والمجتمع والحيلولة دون أن يمارس الناس كامل حريتهم على الأرض يأخذون من الطبيعة ما يشاؤون، و في المجتمع حيث يمكن أن يربطوا العلاقة التي يشاؤون دون حسيب أو رقيب.
كما أن الغاية من النهي عن المنكر في المجتمع العبودي يتمثل في محاربة كل القيم التي تؤدي إلى الحط من قيم الأسياد و جعل العبيد يثورون ضد تكريس العبودية ، حتى يستمر استغلال الأسياد للعبيد ، وحتى تستمر قيمة الأسياد في الارتفاع و يستمر انحطاط العبيد لأنه في المجتمع العبودي لاشيء موجود اسمه المساواة التي يجب اعتبارها منكرا في مجتمع الأسياد.
وفي نفس السياق فإن النهي عن المنكر في المجتمع الإقطاعي يقتضي محاربة الحد من استغلال الإقطاعيين للاقنان ومن التمتع بخيرات الأراضي الواسعة التي يملكها الإقطاعيون لان الحد من ذلك الاستغلال ومن الاستفادة من الخيرات التي يحرم منها الاقنان . فمن المنكر الذي يجب النهي عنه أن يشعر القن بأن الأرض يجب أن تكون له ، لأنه هو الذي يعمل فيها ويرتبط بها ، أو على الأقل أن يصير حرا على الأرض التي يعمل فيها ، وان يتمتع بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية والسياسية ، لأن تلك الحرية تعتبر منكرا يجب النهي عنه لأنه يمس بسلامة النظام الإقطاعي.
وعندما يتعلق الأمر بالمجتمع الرأسمالي فان الغاية من النهي عن المنكر تتجسد في المحافظة على ملكية الطبقة الرأسمالية البورجوازية لوسائل الإنتاج، باعتبار تلك السلطة عنوان السيادة الرأسمالية البورجوازية. ولذلك فمن المنكر أن يتمتع العمال باعتبارهم مشغلين لوسائل الإنتاج بحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية والمدنية والسياسية، حتى يستمر استغلالهم لصالح مالكي وسائل الإنتاج في ظروف قمعية احسن من اجل الزيادة في مستوى فائض القيمة لتزداد بذلك استفادة البورجوازية على جميع المستويات ، ولتبقى الطبقة العاملة غير قادرة على رفع رأسها أمام الطبقة البورجوازية .
أما المجتمع الاشتراكي فإن الغاية من النهي عن المنكر فيه تقتضي الحفاظ على نمط الإنتاج الاشتراكي والسعي إلى تطويره في اتجاه تحقيق المرحلة الأرقى . فكل ما يشكك في نجاعة النظام الاشتراكي، وفي جعل هذا النظام ديمقراطيا لضمان استمراره وتطوره يعتبر منكرا. وعودة المجتمع الرأسمالي يعتبر منكرا ، ونشر القيم المتخلفة والرجعية يعتبر منكرا. ولذلك فالنهي عن منكر من هذا النوع يحقق غاية سلامة النظام الاشتراكي من الأمراض التي تنخر كيانه.
وبالنسبة للمجتمع الشيوعي المحتمل تحقيقه ، فان النهي عن المنكر يحقق غاية المحافظة على سلامة هذا المجتمع من عودة سلطة الدولة باعتبارها أداة السيطرة الطبقية والحاجة إليها في المجتمع الشيوعي المستقبلي غير واردة لانتفاء وجود الطبقات ، ولارتفاع مستوى الناس إلى حكم أنفسهم بأنفسهم .وهو ما يعني تحقق الديمقراطية في أعلى مستوياتها الاجتماعية والاقتصادية والمدنية والسياسية.
وبالنسبة للتوجهات السياسية فإننا نجد :
إن الغاية من النهي عن المنكر بالنسبة لليمين المتطرف تتمثل في إقصاء ونفي كل ما يتعارض مع ادلجة الدين بصفة عامة ، و ادلجة الدين الإسلامي بصفة خاصة .إلا أن النهي عن المنكر يتحول هو نفسه إلى مقولة إيديولوجية يعتمدها اليمين المتطرف لإيهام الناس أن هذا اليمين هو وحده الذي يستطيع القضاء على كل أشكال المنكر –كما يراها اليمين المتطرف- و إنشاء مجتمع خال منها ، تحكمه دولة اليمين المتطرف "الدولة الإسلامية" التي ليست بدورها إلا مقولة أيديولوجية، لأن الدولة هي جهاز قمعي وليست كيانا يؤمن أو يكفر بالدين الإسلامي حتى تكون هناك - وعلى يد هذا اليمين المغرق في ادلجة الدين الإسلامي- دولة إسلامية .
وبالنسبة للحزب الإقطاعي باعتباره حزبا يمينيا ، فإن النهي عن المنكر- كما يراه أعضاء هذا الحزب – يحقق غاية تتمثل في تمهيد الأرض و إعداد المجتمع لتحقيق المجتمع المحكوم بالنظام الإقطاعي الذي يعمل على حماية مصالح الإقطاعيين. ولذلك فكل الأفكار والإيديولوجيات التي تدخل في صراع مع أيديولوجية الحزب الإقطاعي تعتبر منكرا تجب محاربته لتحقيق غاية الحزب الإقطاعي .
وان الغاية من النهي عن المنكر بالنسبة للحزب البورجوازي التابع هي بناء اقتصاد رأسمالي تابع للنظام الرأسمالي العالمي من خلال المؤسسات المالية الدولية التي تغرق البلاد بالديون ، حتى ينشغل بخدمة الدين، وتزداد أرباح البورجوازية التابعة ، وكل ما يؤدي إلى وضع حد للتبعية وتحرير الاقتصاد الوطني منها يعتبر منكرا ينهى عنه الحزب البورجوازي التابع لتامين مستقبل البورجوازية التابعة .
وان الحزب البورجوازي يعتبر أن الغاية من النهي عن المنكر تتمثل في القضاء على كل ما يتعارض مع حرية الاستثمار والتراكم الرأسمالي الوطني الذي يجعل تلك البورجوازية كمثيلاتها في البلدان المتقدمة على جميع المستويات الصناعية والتجارية و الخدماتية و البنكية. ولذلك فالدعوة إلى التوزيع العادل للثروة وتحويل ملكية وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة يعتبر منكرا تجب محاربته حفاظا على مصالح البورجوازية الاجتماعية والاقتصادية والمدنية والسياسية.
وان حزب البورجوازية الصغرى يرى أن الغاية من النهي عن المنكر تتمثل في إزالة كل العوائق التي تحول دون تحقيق تطلعات البورجوازية الصغرى المتمثلة في التحاق هذه البورجوازية بالطبقة الأعلى سواء تعلق الأمر بالبورجوازية أو بالبورجوازية التابعة. وعلى هذا الأساس فالمنكر هو كل ما تعارض مع تحقيق التطلعات وعلى جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والمدنية والسياسية، و ما تعارض مع تحقيق تطلعات البورجوازية الصغرى تجب محاربته حماية لمصالحها المختلفة.
وإن حزب الطبقة العاملة يعتبر أن الغاية من النهي عن المنكر- كما يفهمه هذا الحزب- تتمثل في إنضاج الشروط الموضوعية المؤدية إلى جعل ملكية وسائل الإنتاج الرأسمالية البورجوازية ملكية جماعية . وهو يعتبر أن كل ما يؤدي إلى إلغاء الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج وكل ما يعرقل النضال من اجل سيادة الملكية الجماعية لتلك الوسائل يعتبر منكرا تجب محاربته حماية لمصالح الطبقة العاملة التي هي مصالح المجتمع ككل .
وبالنسبة لتوجه اليسار المتطرف نجد أن غايته من النهي عن المنكر تتمثل في إقصائه لكل التوجهات التي ترى في مزايداته مجرد تشويش على اطروحات حزب الطبقة العاملة و سائر الديموقراطيين الحقيقيين حتى يتم فرض اعتباره هو التوجه الوحيد الذي بيده تحقيق التطلعات البورجوازية الصغرى لليسار المتطرف. ولذلك، فاليسار المتطرف هو مجرد تعبير عن تطلعات البورجوازية الصغرى ولكن بطريق مختلف .ولذلك فالمنكر هو كل ما تعارض مع تحقيق تلك التطلعات وبالطريق المختلف ، وما تعارض مع تلك التطلعات تجب محاربته للمحافظة على مصالح اليسار المتطرف على جميع الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والمدنية والسياسية، حتى يستمر اليسار المتطرف في التواجد والنمو .
وعلى مستوى آخر فإن النهي عنه يصير تعبيرا عن حماية مصالح الأشخاص الدين ينصبون أنفسهم متكلمين باسم الدين بصفة عامة، وباسم الدين الإسلامي بصفة خاصة سواء في علاقتهم مع الطبقة الحاكمة، وفي علاقتهم مع الجماهير الشعبية الكادحة. وهؤلاء الذين يسمون أنفسهم "برجال الدين"، و تسميهم الطبقة الحاكمة ب"العلماء" يعتبرون أن كل ما تناقض مع مصالحهم المختلفة منكرا ، و لا علاقة لهذا المنكر بالأخلاق العامة لأن الأخلاق العامة نفسها ليست إلا تعبيرا عن المصالح الطبقية من خلال القيم التي تتحلى بها كل طبقة اجتماعية على حدة انطلاقا من أيديولوجيتها و من طبيعة مصالحها الطبقية.
و إذا كانت هذه الفئة التي تدعي أنها تتكلم باسم الدين تسعى إلى حماية مصالحها، فإنها تسعى في نفس الوقت إلى تحقيق غاية أخرى بالنهي عن المنكر. و هذه الغاية هي حماية مصالح الطبقة الحاكمة التي تدفع هؤلاء إلى ادلجة الدين لصالحها لتضليل الناس و جعلهم يعتقدون أن الطبقة الحاكمة تحكم باسم الله فيقبلون كل تصرفاتها و مواقفها على أنها من إرادة الله.
و بالنسبة لمؤدلجي الدين الإسلامي فإن غايتهم من النهي عن المنكر تتجلى في حماية مصالحهم المتمثلة في إعداد الناس و تجييشهم لمحاربة كل من خالفهم من اجل التأسيس لاستبداد بديل لاستبداد الطبقة الحاكمة، و الوصول إلى إلغاء كل أشكال التنوير القائمة من المجتمع. و القضاء على السلطة المستبدة القائمة و تأسيس سلطة اكثر استبدادا تساعد مؤدلجي الدين الإسلامي على تسخير كل شيء لخدمة مصالحهم.
و في رأينا فإن الغاية من النهي عن المنكر ترتبط بطبيعة القهم الذي نعطيه للمنكر، و بطبيعة الطبقة الاجتماعية المنتمية إلى تشكيلة اقتصادية اجتماعية معينة في مرحلة تاريخية معينة و في مكان معين، و بطبيعة الشروط الموضوعية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية التي تحكم الفهم، و تحكم قيام طبقة معينة و انسجاما مع هذا التصور فإن الغاية تتمثل بالخصوص في حماية المصالح الفردية و الجماعية و الطبقية. و أن اعتبار الغاية دينية ليست إلا ممارسة أيديولوجية تأتي امتدادا لأدلجة الدين الإسلامي لصالح طبقة معينة، أو لصالح المؤدلجين أنفسهم إذا كانوا يشكلون تيارا سياسيا قائما على ادلجة الدين. و بالتالي فإن المنكر ليس مفهوما دينيا صرفا، بقدر ما هو إنتاج اجتماعي، و أن الغاية منه ما هي إلا ممارسة اجتماعية تبتدئ و تنتهي في المجتمع قبل أن ترتبط بالغيب المرتبط بالدين، لا تحقق الغاية منه إلا في الحياة الأخرى. و ما دامت الغاية من النهي عن المنكر ما هي إلا ممارسة اجتماعية، فإنها في نفس الوقت ممارسة أيديولوجية معبرة عن مصالح طبقية معينة. و لا داعي لأن نسجنها في القارورة الدينية التي تعطي للمدعين اعتبار أنفسهم انهم وحدهم الذين يعرفون ما في تلك القارورة. و بناء على تلك المعرفة، فإنهم ينوبون عن الله في الأرض و يفعلون ما يشاؤون بالمجتمع باسم الدين، الأمر الذي لا يجب أن يكون مقبولا، لأن زمن الرسالات انتهى. و أن فهم النص الديني ليس وحيا ينزل من السماء بقدر ما هو عملية نسبية ترتبط بالشروط الموضوعية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية التي تحكم المتعاملين مع النص الديني في كل زمان و في كل مكان. و إلا فلماذا نجد هذا الاختلاف في الفهم الذي يمتد على مدى الأزمنة، و على مدى الأمكنة، و على مدى الأشخاص المتعاملين مع النص الديني.

يتبع

مقالات ذات صلة