كثيرة هي المنظمات الدينية السرية التي قامت بأدوار طلائعية خلال مرحلة الحرب الباردة، وتمّ استخدامها ترياقاً واقياً ضدّ غواية الشيوعية السوفيتية، وذات يوم مضطرب، امّحت "إمبراطورية الشر" من خارطة الوجود، وعندما لم يجد "جنود الله" أنفسهم أمام العدو الذي جهّزوا له، تفرّقت بهم السبل بين طريقين؛ طريق من ارتدّ سلاحه على نحره، فأرغى وأزبد وقتل وشرّد، ثم فجّر وانفجر، وطريق من اختار العمل المدنيّ وفق نفس طويل؛ وعن هذا الأخير سنتحدّث.
أغلب الحركات الدينية التي اختارت العمل المدني، مثل الأبوس داي والعائلة، والدعوة والتبليغ والزوايا الصوفية، لم تعد تطالب بالسلطة ولا تطمح إلى بلوغها، وإنّما أمست تكتفي بما تراه أهمّ وأدْوَم، وهو السّيطرة على قنوات الضّغط والحقول السرية للتأثير على السلطة، ذلك أنّ التجربة أقنعتها بأنّ السلطة تظلّ في كلّ أحوالها، نسبية، مؤقّتة ومُعرّضة للضغط والرّقابة، لا سيما وأنّ الديمقراطية قد جعلت مراكز القرار السياسيّ مُوَزّعة، بين أطراف وجماعات ضغط مُتجاذبة ومُتنابذة، وغالباً ما تتلاشى القدرة على اتخاذ القرار الديمقراطي، في رحلة البحث المضني عن التوازنات، وبالجملة فإنّ الحركات الدينية، تأخذ بعين الاعتبار، ملاحظات أفلاطون حول الهشاشة الأصلية للديمقراطية.
لقد لاحظت تلك الحركات الدينية، كيف أنّ الديمقراطية أضعفت، في واقع الحال، فعالية رجل السلطة وجعلت إنجازاته قابلة لأن تتعثّر وسط دروب ومسالك من التوازنات المُعقّدة، وأدركت بأنّ العديد من الإيديولوجيات لم تنهر إلاّ لأنّها راهنت على السيطرة على السلطة.
هكذا تحوّل طموح الكثير من الحركات والشبكات الدينية في العالم، إلى جهة السّيطرة على المجالات التي تضمن تأثيراً دائماً على السلطة، وصرنا نلاحظ اليوم الكثير من الحركات الدينية في العالم، تتحاشى أن تصبح مُجرّد أحزاب سياسية تتناوب على سلطة مُحاطةٍ بآليات المُراقبة، وفضلت أن تتّخذ شكل جماعات ضغط تخترق الجيش أحياناً، كما هو حال الجماعات الإسلامية في باكستان والجماعات اليهودية في إسرائيل، أو تخترق الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، كما هو حال الطوائف المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد بدأت كثير من الحركات الدينية، تتحوّل إلى مُنظمات غير حكومية، تخترق المجتمع المدني العالمي، وتعمل أحياناً، بالشراكة مع الأمم المتحدة ومع أهم هيئاتها ومُؤسساتها، وذلك تحت عنوان؛ المُساعدات الإنسانية، وهو ما انتهى إلى أزمة الحياد الديني لكل من المُساعدات الإنسانية والأمم المتحدة، ومن أبرز المنظمات الدينية والمُعتمدة من طرف الأمم المُتحدة اليوم، نذكر منظمتين:
1/ المُنظمة الدّولية للرّؤية العالمية World Vision؛ وتُعدّ من بين أقوى وأشهر الشبكات الدّولية العالمية، تأسّست عام 1950 بالولايات المتحدة الأمريكية، تعمل بالشراكة مع أهم المنظمات التابعة للأمم المتحدة، مثل اليونيسيف، المُنظمة العالمية للصحة والمُنظمة الدولية للشغل، وتعدّ أيضاً، من أهمّ المُنظمات الدينية المُؤثرة في الوكالة الدّولية للتنمية والتابعة لوزارة الخارجية الأمريكية. وهي تعكس نموذجاً قويًاّ لاتجاه الحركات الدينية العالمية نحو السيطرة على المُجتمع المدني وأسواق المال والإعلام.
2/ التضامن المسيحي العالمي International Christian Solidarity؛ وقد تأسست عام 1977، من طرف الباستور هانز ستوكلبوركر، وهي تمتلك اليوم وسائل هائلة للتدخل الإنساني في أكثر من مكان في العالم، حيث أنها تتوفر على المئات من سيارات الجيب والعشرات من الطائرات العمودية، فضلاً عن آلاف المُتطوعين، وتعترف المنظمة بأنها، وضمن أنشطتها الإنسانية، تقوم بتوزيع آلاف النسخ من الكتاب المقدّس، وتنشط أساساً في دول مثل السّودان، الصين، مصر، إيران والعراق.
تمثل كل من المُنظمة الدّولية للرّؤية المسيحية ومُنظمة التضامن الإنساني العالمي، نموذجين بارزين من بين حوالي خمسين منظمة إنسانية ذات طابع ديني معتمدة من طرف الأمم المتحد
ة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يهدّد جوهر العمل الإنساني ويمسّ القدرات الحيادية لدى المُتدخلين وسط الحروب والنزاعات، لا سيما حين تتخذ هذه النزاعات طابع حروب دينيةٍ، كما هو الحال في أبرز مناطق التوتر في العالم؛ الشرق الأوسط، البلقان، القوقاز، والقرن الإفريقي. وهو ما يعني أننا نحتاج إلى مُراجعة ميثاق الأمم المتحدة، وقوانين المنظمات العاملة بها، بما يعني التصريح بمبدأ العلمانية. إنّ وجود منظمات تبشيريّة وأخرى دعويّة، تعمل تحت إشراف الأمم المتحدة، أو إحدى هيئاتها، يعكس أزمة الحياد الديني داخل المنتظم الدّولي، أزمة تُضاف إلى معضلة وجود مؤسسات دينية ضمن الدّول الأعضاء في الأمم المتحدة، مثل فرسان مالطا، والفاتكان.
مِن المُفترض أن تكون الأمم المتحدة هي الجهة المُخوّل لها التدخّل في النزاعات الدولية، ومن الواجب أن تتحلّى بالحياد بين كافّة الأطراف المتنازعة، أما وأننا في عالم يتميّز اليوم، بالحروب الدينية الطاحنة، فإنّ حياد الأمم المتحدة سيكون بالأولى، حياداً دينياً أيضاً، وهو الشرط الأساس الذي من شأنه أن يحفظ لها مشروعية حقّ التدخل.
يَستتبع ذلك، أن تكون الجهات المعتمدة من طرف الأمم المتحدة، في مَناطق النزاع والتوتر، والمكلّفة بمساعدة الضحايا أو بالتوسط لدى المتنازعين، هي الأخرى مُحايدة دينياً، على خلفية ميثاق جديد للأمم المتحدة، ينص على مبدأ العلمانية.
يُمكننا أن نُحصي من بين مجموع المنظمات الإنسانية المُعتمدة من طرف الأمم المتحدة، حوالي خمسين منظمة دينية، حاملة لرموز دينية مثل الصليب الأحمر والهلال الأحمر، أو حتى أنها تحمل أسماء دينية، أو أنها تمزج بين الأهداف الإنسانية والأهداف الدينية، وهو الأمر الذي من شأنه أن يتسبب في أزمة الحياد الديني للمساعدات الإنسانية للأمم المتحدة، إن لم ينته الأمر إلى أزمة مشروعية التدخل نفسها.
لقد بدأ دور المُنظمات غير الحكومية داخل الأمم المتّحدة، خلال الآونة الأخيرة، يشهد نوعاً من التفوّق على دور الدّول، في مجال المساعدات الإنسانية، والواقع أنّنا اليوم، لم نعد نتحدّث عن الدّول المانحة، وإنّما بدأ معظمنا يرى أنه من الأفضل أن نتحدث عن الجهات المانحة، هكذا من دون أي تحديدٍ مُسبق لطبيعة هذه الجهات، طالما أن الأمر لم يعد هذه المرّة، مقتصراً على الدّول، ولا بالأحرى متعلقاً بها.
كان من نتائج انسحاب الدّول عن مجال المساعدات الإنسانية لفائدة المنظمات الإنسانية، أن خسرت المساعدات الإنسانية طابعين رئيسيين:
فمن جهة أولى نجدها قد خسرت طابعها المؤسساتي والذي كان يميزها من قبل، وربّ قائل يقول بأنّ الإحسان يستدعي العفوية، التلقائية والحرية، وأنّ المال يبلغ إلى مثواه بسرعة ويصل إلى المحتاجين بمرونة، كلما كان متخلصاً من الإجراءات الإدارية للدّول وللمؤسسات الرسمية، لكن المُؤكد، أن المساعدات قد تكون أسرع في الوصول، بيد أنها تصبح في المقابل، تحت رحمة المبادرات العفوية، وفي مهبّ المزاج العامّ للمُحسنين الدّوليين.
ومن جهة ثانية، فإن المساعدات الإنسانية قد خسرت طابعها التنموي، والذي ارتبطت به، منذ كانت ترعاها الدّول. ذلك أن هذه المساعدات الدّولية قد انحازت بقوّة وكثافة، نحو الإحسان الاستعجالي لفائدة إطعام أو إيواء بعض ضحايا الحروب والكوارث لبعض الوقت، وذلك على حساب كل استراتيجية تنموية بعيدة أو متوسطة المَدى.
لقد أصبح مُقتضى ما تتنافس حوله المُنظمات الإنسانية، هو التقاط صور للدعاية الإشهارية: فأنت ترى في ملصق طفلة مالية تعانق محفظتها المدرسية وهي تواجه المحسنين الدّوليين بابتسامة بريئة وتقول: "شكراً لكم". وفي مُلصق آخر تسوق امرأة نيجيرية عنزتها في أرض جرداء، وهي تقول للمحسنين الدّوليين: "شكراً لكم". وهكذا تصبح صور الدعاية الإحسانية بديلاً عن واقع التنمية الفعلية والمُستدامة.
إن اختزال التنمية في مجرّد مبادرات إحسانية، قد ساهم في تضاعف دَور المنظمات الدينية داخل مجموع المنظمات الإنسانية، بل إنها اليوم أقرب إلى كسب الرهان الإحساني في زمن خسرت فيه عديد المنظمات الإنسانية الرهان التنموي، بل تحوّل العمل الإنساني وتمّ اختزاله في مجرّد عمل إحساني.
لقد تدخلت منظمة التضامن المسيحي الدّولي، بقوّة في إقليم دارفور غرب السودان، وارتبط وجودها هناك بفضيحة شراء الأطفال بدعوى تحريرهم من العبودية، وتنادى كافة أعضاء طائفة السيونتولوجيا من أجل الذهاب إلى المناطق التي ضربها زلزال تسونامي في جنوب شرق آسيا، وعُرف أعضاء الطائفة هناك، بارتدائهم لباساً خاصاً أصفر اللون، كانوا يزعمون تقديم المُساعدات النفسية للناجين، على أنّها مساعدات لا علاقة لها بعلم النفس أو التحليل النفسي اللذين تحاربهما الطائفة بشراسة. ولا غرابة أن يتحوّل العراق اليوم، إلى ساحة تغلي بالمنظمات الدينية الدّولية والعالمية من معظم الديانات تقريباً، وهي تتكالب على بقايا حضارة وجدت قبل الإسلام وقبل المسيحية وقبل الديانات السماوية بآلاف السنين.
أغلب الحركات الدينية التي اختارت العمل المدني، مثل الأبوس داي والعائلة، والدعوة والتبليغ والزوايا الصوفية، لم تعد تطالب بالسلطة ولا تطمح إلى بلوغها، وإنّما أمست تكتفي بما تراه أهمّ وأدْوَم، وهو السّيطرة على قنوات الضّغط والحقول السرية للتأثير على السلطة، ذلك أنّ التجربة أقنعتها بأنّ السلطة تظلّ في كلّ أحوالها، نسبية، مؤقّتة ومُعرّضة للضغط والرّقابة، لا سيما وأنّ الديمقراطية قد جعلت مراكز القرار السياسيّ مُوَزّعة، بين أطراف وجماعات ضغط مُتجاذبة ومُتنابذة، وغالباً ما تتلاشى القدرة على اتخاذ القرار الديمقراطي، في رحلة البحث المضني عن التوازنات، وبالجملة فإنّ الحركات الدينية، تأخذ بعين الاعتبار، ملاحظات أفلاطون حول الهشاشة الأصلية للديمقراطية.
لقد لاحظت تلك الحركات الدينية، كيف أنّ الديمقراطية أضعفت، في واقع الحال، فعالية رجل السلطة وجعلت إنجازاته قابلة لأن تتعثّر وسط دروب ومسالك من التوازنات المُعقّدة، وأدركت بأنّ العديد من الإيديولوجيات لم تنهر إلاّ لأنّها راهنت على السيطرة على السلطة.
هكذا تحوّل طموح الكثير من الحركات والشبكات الدينية في العالم، إلى جهة السّيطرة على المجالات التي تضمن تأثيراً دائماً على السلطة، وصرنا نلاحظ اليوم الكثير من الحركات الدينية في العالم، تتحاشى أن تصبح مُجرّد أحزاب سياسية تتناوب على سلطة مُحاطةٍ بآليات المُراقبة، وفضلت أن تتّخذ شكل جماعات ضغط تخترق الجيش أحياناً، كما هو حال الجماعات الإسلامية في باكستان والجماعات اليهودية في إسرائيل، أو تخترق الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، كما هو حال الطوائف المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد بدأت كثير من الحركات الدينية، تتحوّل إلى مُنظمات غير حكومية، تخترق المجتمع المدني العالمي، وتعمل أحياناً، بالشراكة مع الأمم المتحدة ومع أهم هيئاتها ومُؤسساتها، وذلك تحت عنوان؛ المُساعدات الإنسانية، وهو ما انتهى إلى أزمة الحياد الديني لكل من المُساعدات الإنسانية والأمم المتحدة، ومن أبرز المنظمات الدينية والمُعتمدة من طرف الأمم المُتحدة اليوم، نذكر منظمتين:
1/ المُنظمة الدّولية للرّؤية العالمية World Vision؛ وتُعدّ من بين أقوى وأشهر الشبكات الدّولية العالمية، تأسّست عام 1950 بالولايات المتحدة الأمريكية، تعمل بالشراكة مع أهم المنظمات التابعة للأمم المتحدة، مثل اليونيسيف، المُنظمة العالمية للصحة والمُنظمة الدولية للشغل، وتعدّ أيضاً، من أهمّ المُنظمات الدينية المُؤثرة في الوكالة الدّولية للتنمية والتابعة لوزارة الخارجية الأمريكية. وهي تعكس نموذجاً قويًاّ لاتجاه الحركات الدينية العالمية نحو السيطرة على المُجتمع المدني وأسواق المال والإعلام.
2/ التضامن المسيحي العالمي International Christian Solidarity؛ وقد تأسست عام 1977، من طرف الباستور هانز ستوكلبوركر، وهي تمتلك اليوم وسائل هائلة للتدخل الإنساني في أكثر من مكان في العالم، حيث أنها تتوفر على المئات من سيارات الجيب والعشرات من الطائرات العمودية، فضلاً عن آلاف المُتطوعين، وتعترف المنظمة بأنها، وضمن أنشطتها الإنسانية، تقوم بتوزيع آلاف النسخ من الكتاب المقدّس، وتنشط أساساً في دول مثل السّودان، الصين، مصر، إيران والعراق.
تمثل كل من المُنظمة الدّولية للرّؤية المسيحية ومُنظمة التضامن الإنساني العالمي، نموذجين بارزين من بين حوالي خمسين منظمة إنسانية ذات طابع ديني معتمدة من طرف الأمم المتحد
ة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يهدّد جوهر العمل الإنساني ويمسّ القدرات الحيادية لدى المُتدخلين وسط الحروب والنزاعات، لا سيما حين تتخذ هذه النزاعات طابع حروب دينيةٍ، كما هو الحال في أبرز مناطق التوتر في العالم؛ الشرق الأوسط، البلقان، القوقاز، والقرن الإفريقي. وهو ما يعني أننا نحتاج إلى مُراجعة ميثاق الأمم المتحدة، وقوانين المنظمات العاملة بها، بما يعني التصريح بمبدأ العلمانية. إنّ وجود منظمات تبشيريّة وأخرى دعويّة، تعمل تحت إشراف الأمم المتحدة، أو إحدى هيئاتها، يعكس أزمة الحياد الديني داخل المنتظم الدّولي، أزمة تُضاف إلى معضلة وجود مؤسسات دينية ضمن الدّول الأعضاء في الأمم المتحدة، مثل فرسان مالطا، والفاتكان.
مِن المُفترض أن تكون الأمم المتحدة هي الجهة المُخوّل لها التدخّل في النزاعات الدولية، ومن الواجب أن تتحلّى بالحياد بين كافّة الأطراف المتنازعة، أما وأننا في عالم يتميّز اليوم، بالحروب الدينية الطاحنة، فإنّ حياد الأمم المتحدة سيكون بالأولى، حياداً دينياً أيضاً، وهو الشرط الأساس الذي من شأنه أن يحفظ لها مشروعية حقّ التدخل.
يَستتبع ذلك، أن تكون الجهات المعتمدة من طرف الأمم المتحدة، في مَناطق النزاع والتوتر، والمكلّفة بمساعدة الضحايا أو بالتوسط لدى المتنازعين، هي الأخرى مُحايدة دينياً، على خلفية ميثاق جديد للأمم المتحدة، ينص على مبدأ العلمانية.
يُمكننا أن نُحصي من بين مجموع المنظمات الإنسانية المُعتمدة من طرف الأمم المتحدة، حوالي خمسين منظمة دينية، حاملة لرموز دينية مثل الصليب الأحمر والهلال الأحمر، أو حتى أنها تحمل أسماء دينية، أو أنها تمزج بين الأهداف الإنسانية والأهداف الدينية، وهو الأمر الذي من شأنه أن يتسبب في أزمة الحياد الديني للمساعدات الإنسانية للأمم المتحدة، إن لم ينته الأمر إلى أزمة مشروعية التدخل نفسها.
لقد بدأ دور المُنظمات غير الحكومية داخل الأمم المتّحدة، خلال الآونة الأخيرة، يشهد نوعاً من التفوّق على دور الدّول، في مجال المساعدات الإنسانية، والواقع أنّنا اليوم، لم نعد نتحدّث عن الدّول المانحة، وإنّما بدأ معظمنا يرى أنه من الأفضل أن نتحدث عن الجهات المانحة، هكذا من دون أي تحديدٍ مُسبق لطبيعة هذه الجهات، طالما أن الأمر لم يعد هذه المرّة، مقتصراً على الدّول، ولا بالأحرى متعلقاً بها.
كان من نتائج انسحاب الدّول عن مجال المساعدات الإنسانية لفائدة المنظمات الإنسانية، أن خسرت المساعدات الإنسانية طابعين رئيسيين:
فمن جهة أولى نجدها قد خسرت طابعها المؤسساتي والذي كان يميزها من قبل، وربّ قائل يقول بأنّ الإحسان يستدعي العفوية، التلقائية والحرية، وأنّ المال يبلغ إلى مثواه بسرعة ويصل إلى المحتاجين بمرونة، كلما كان متخلصاً من الإجراءات الإدارية للدّول وللمؤسسات الرسمية، لكن المُؤكد، أن المساعدات قد تكون أسرع في الوصول، بيد أنها تصبح في المقابل، تحت رحمة المبادرات العفوية، وفي مهبّ المزاج العامّ للمُحسنين الدّوليين.
ومن جهة ثانية، فإن المساعدات الإنسانية قد خسرت طابعها التنموي، والذي ارتبطت به، منذ كانت ترعاها الدّول. ذلك أن هذه المساعدات الدّولية قد انحازت بقوّة وكثافة، نحو الإحسان الاستعجالي لفائدة إطعام أو إيواء بعض ضحايا الحروب والكوارث لبعض الوقت، وذلك على حساب كل استراتيجية تنموية بعيدة أو متوسطة المَدى.
لقد أصبح مُقتضى ما تتنافس حوله المُنظمات الإنسانية، هو التقاط صور للدعاية الإشهارية: فأنت ترى في ملصق طفلة مالية تعانق محفظتها المدرسية وهي تواجه المحسنين الدّوليين بابتسامة بريئة وتقول: "شكراً لكم". وفي مُلصق آخر تسوق امرأة نيجيرية عنزتها في أرض جرداء، وهي تقول للمحسنين الدّوليين: "شكراً لكم". وهكذا تصبح صور الدعاية الإحسانية بديلاً عن واقع التنمية الفعلية والمُستدامة.
إن اختزال التنمية في مجرّد مبادرات إحسانية، قد ساهم في تضاعف دَور المنظمات الدينية داخل مجموع المنظمات الإنسانية، بل إنها اليوم أقرب إلى كسب الرهان الإحساني في زمن خسرت فيه عديد المنظمات الإنسانية الرهان التنموي، بل تحوّل العمل الإنساني وتمّ اختزاله في مجرّد عمل إحساني.
لقد تدخلت منظمة التضامن المسيحي الدّولي، بقوّة في إقليم دارفور غرب السودان، وارتبط وجودها هناك بفضيحة شراء الأطفال بدعوى تحريرهم من العبودية، وتنادى كافة أعضاء طائفة السيونتولوجيا من أجل الذهاب إلى المناطق التي ضربها زلزال تسونامي في جنوب شرق آسيا، وعُرف أعضاء الطائفة هناك، بارتدائهم لباساً خاصاً أصفر اللون، كانوا يزعمون تقديم المُساعدات النفسية للناجين، على أنّها مساعدات لا علاقة لها بعلم النفس أو التحليل النفسي اللذين تحاربهما الطائفة بشراسة. ولا غرابة أن يتحوّل العراق اليوم، إلى ساحة تغلي بالمنظمات الدينية الدّولية والعالمية من معظم الديانات تقريباً، وهي تتكالب على بقايا حضارة وجدت قبل الإسلام وقبل المسيحية وقبل الديانات السماوية بآلاف السنين.