الجعجعة و«الطْحين»


نور الدين مفتاح
الاثنين 23 يناير 2023



لابأس أن نعيد أن للمغرب والمغاربة حاجة دائما لحدث صاخب نعتقد دائما أنه سيشكل تحولا تاريخيا في حياتهم، وما أن تتوالى الأيّام، حتى يخبو الحدث، وتضمحل الفضيحة، وتتلاشى قضية الرأي العام، وينسى الجميع ما جرى دون نسيان الحاجة إلى قنبلة أخرى تملأ الفناجين وتشغل الناس إلى حين. وباستثناء الإنجاز الملحمي لأسود الأطلس في مونديال قطر، […]


لابأس أن نعيد أن للمغرب والمغاربة حاجة دائما لحدث صاخب نعتقد دائما أنه سيشكل تحولا تاريخيا في حياتهم، وما أن تتوالى الأيّام، حتى يخبو الحدث، وتضمحل الفضيحة، وتتلاشى قضية الرأي العام، وينسى الجميع ما جرى دون نسيان الحاجة إلى قنبلة أخرى تملأ الفناجين وتشغل الناس إلى حين.

وباستثناء الإنجاز الملحمي لأسود الأطلس في مونديال قطر، وهو زرع بجذور، فإن ما يمرّ علينا كل أسبوع مذهل. وآخر العنقود ما يقع مع الوزير العجيب عبد اللطيف وهبي والمباراة الغريبة للمحاماة، وتصريحاته الأكثر إثارة، والدوش البارد الذي فتحه بيان جمعية هيئات المحامين على رؤوس الشعب الغاضب، وهو الشعب الذي أصبح يختزله رمزيا الفايسبوك. نكاد في هذه المهمة الإعلامية المجتمعية التي نقوم بها من أجل الرأي العام للبحث عن معنى بين ثنايا الوقائع أن نتحول إلى أضحوكة، لأن المعنى من الأصل أصبح أندر من التبر في التراب.

عموما، ما يجري من تدافع مجتمعي أصبح مطبوعا بالكثير من الفقاعات والكليشيهات والمسرحة للقضايا المصيرية، حتى أن التواصل صار أهم من الموضوع، وصورة لنشاط أو توقيع تصبح هي نهاية المشروع وليس بدايته، بل إن التواصل بدوره انقلب على رأسه وأصبح المسؤولون في وسط هذه الجلبة يخبطون ويخلطون، واختلط بالفعل الحابل بالنابل.

وحتى عندما أقام الكثيرون صلاة الجنازة على الصحافة التقليدية التي يزاولها المحترفون، خرجوا قبل أيام ليقولوا في دراسة للمؤشر العربي لسنة 2022 إن نصف المغاربة لا يثقون في المؤثرين، والغريب أن نفس المؤشر لو قلب اللوحة لوجد أن أغلبية المسؤولين أصبحوا يثقون في المؤثرين (وهم غير مؤثرين حسب المؤشر) ويجاملون الإعلام الذي وصلت مشاكله العويصة إلى البرلمان لمحاولة إيجاد حل لتفادي إفلاسه عموميا كان أو خاصا.

وباستثناء مشروع الحماية الاجتماعية الذي يسير بخطى حثيثة لحد الآن ووفق الآجال المرسومة، فإن الكثير من القضايا التي تطفو على سطح الاهتمام الوطني ما تكاد تعلَن ويسخن المسخنون حولها الطرح، من أصحاب المراصد والمراكز الدراسية، حتى تذوب في الكأس، وتسكب. من يتحدث عن الرأسمال اللامادي؟ من يتذكر النموذج التنموي الجديد؟ من يتذكر مغاربة العالم؟ من يسأل عن المعطلين؟ أين المدونة؟ أين خريف الغضب على أثمنة المحروقات؟ ماذا فعل ربّ العزة بمحطة لاسامير؟ أين التحقيقات التي قيل إنها ستفتح في عشرات الملفات المتفجرة في فناجين الصفحات الفايسبوكية والتكتوكية والهتشكوكية؟ أين أهوال الحرب الروسية على أوكرانيا وتأثيرها على المملكة؟ أين وأين وأين…؟

أين يكمن المشكل إذن، من خلال هذه الثرثرة على ضفاف البلاد؟ المشكل أنه في الدول المتقدمة، يعتبر التداول في الشأن العام، والصراع على الأولويات، والخلاف السياسي مثل مباريات كرة القدم، هي قبل أن تكون مشوقة تشدّ المتابع، فهي شفافة ولها أهداف واضحة محددة في المرمى. ولذلك، عندما يطرح هناك مشكل التقاعد مثلا، ويصبح قضية رأي عام، فإنه يُحسم بالأغلبية وبالعمق، وعلى عشب وسائل الإعلام الاحترافية. وعندما يكون هناك تجاوز، أو اختلال، أو مسّ بقيمة من قيم المجتمع، فإن مناعة الجسم المجتمعي تنتفض، وتنفجر النقاشات بعمقها اللازم، ويؤخذ هذا بعين الاعتبار من طرف من يملكون السلطة باسم من انتخبهم، ولا يُـقعدون الدنيا إلا بعد أن يحل المشكل، بل يصبح الحل تراكما في سجل الاجتهاد، وقد يختار الناس أن يغيروا الحلول في قضايا الهوية مثلا أو العقوبات السالبة للحرية أو التخلي عن بعض الحقوق السيادية أو التمييز الإيجابي في حق فئة أو في الامتيازات الضريبة أو في القوانين الناظمة للمهن. هناك فعلا سلط تحكم ولكنها تنصت ولها حدود، وفي هذه البيئة فقط يمكن أن نتحدث عن سلطة رابعة راشدة محترَمة ومحترمة، لها بالفعل تفويض من الرأي العام لتمارس الرقابة الصادقة على من يدبرون الشأن العام، ولتكون منتدى الحوار والنقاش للعب مباراة حامية بكرة الحجج والإقناع وخضوع الأغلبية للأقلية.

نحن لا نبخس ما يجري عندنا، ولكن هناك من الناحية السوسيولوجية شيء ما ليس على ما يرام. فإضافة إلى القضايا التي تصعد إلى عنان السماء ثم تسقط كريشة بعد حين، هناك ضعف فظيع في النقاش العمومي وداخل المؤسسات التمثيلية. وإذا كان التعميم مصيبة، فإن المشكل أن الاستثناء لا يعالج المشكل، وأحايين كثيرة تكون المقترحات والمشاريع التي تهم معيش المغاربة مُهمة، ولكن قليلون من يقرأونها، وجزء ممن يقرأها لا يستوعبها، وأغلب من يتحدث عنها لا هو قرأها ولا هو استوعبها، وأما جل من ينصت أو يحاور أو يدون، فإنه غالبا ما سمع عن، وعن… لتكبر سلسلة العنعنات، ويتيه الجوهر، ونصبح في عرس القشور نرقص وندور.

إن البلاد لا يمكن أن تسير هكذا بلا منطق ولا عمل، نحن نرى مشاريع وازنة، وصورة المغرب تتغير، إلا أن هناك أعمدة في المملكة تحمل، وأعمدة محمولة، ومن النعوش عندنا هو التداول في الفضاء العام. إن المنجز الحقيقي لا يفسَّر، حتى لا أقول لا يسَوق، والجزئي يصبح صاخبا، والذاتي يتحول إلى موجة تجرف حبة رمل الموضوعي، والشخصنة تقتل العام المفيد، وتصيد الهفوات الصغيرة مهما كانت مشروعة يقتل المحاسبة على الكوارث التدبيرية.

هناك مشكل في السياسة في البلاد، وهناك مشكل في الإعلام، وهناك مشكل في القيم، وهناك مشكل في التعبئة، وهناك فراغ ناتج عن تعانق هذه المشاكل لا ينتج إلا محطة نيتفليكس يومية للأفلام الأبوكاليبسية على صفحاتنا وأثيرنا وشاشاتنا وحيطاننا مع الاحتياط من التعميم. ولكن، هذا الصخب العارم ثقيل، والجعجعة كطبول الحرب ولا طحين، هناك فقط «الطحين» باللسان الدارج، وحتى هو افتراضي فيه لعبة تقتل ضحكا، بحيث إن مطحون اليوم يصبح طاحنا غدا، والدائرة تدور وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. إنها قيامة التواصل العام في مملكة الأحلام، فاللهم حسن الختام.

مقالات ذات صلة