وأخيرا تصاعد الدخان الأبيض من مدخنة المملكة، وخرجت الأسماء والوجوه التي تحمل صفة وزيرات ووزراء في الحكومة الثانية والثلاثين للسيد عزيز أخنوش. وقد كان رجل الأعمال الثري وفيا لطابعه اللاسياسي أو اللاحزبي حتى وإن كان رئيس حزب كبير. وجاءت الحكومة تكنوقراطية بشكل فاجأ ربما حتى الحلفاء الجدد أنفسهم وأعضاء الأحزاب الثلاثة المشكلة لأكبر تحالف حكومي في تاريخ المملكة.
كان الأمر مفاجئا، لأن العديد من الوزيرات والوزراء تم صبغهم في آخر لحظة بألوان حزبية، ولأن العديد من الكفاءات داخل الأحزاب المتحالفة تم إقصاؤها فقط لأنها وجوه معروفة أو لأنها ليست عضوا في نادي النجمات الذهبية: الانتماء للهولدينغات الكبرى أو لجنة النموذج التنموي أو ماجاورهما.
فحتى حزب الاستقلال الذي يتوفر على واحد من أكبر مشاتل الكفاءات المتحزبة، وهو رابطة الاقتصاديين الاستقلاليين خرج من الحكومة بمشاركة باهتة، بدءا من نصف الحقيبة المسندة للأمين العام السيد نزار البركة إلى استوزار استقلاليين بالصباغة. ونفس الشيء بالنسبة للسيد عبد اللطيف وهبي الذي مازال صدى قسمه، باستحالة الاشتغال كأمين عام لحزب في حكومة تحت إمرة أمين عام آخر، يتردد صداه، فإذا به يقبل بوزارة مفرغة من محتواها وهي العدل بعدما استقلت النيابة العامة عن الحكومة.
هناك كفاءات طبعاً، ولكن، لنحذر من خطاب تحويل الكوادر الوطنية إلى خوارق في مجال مليء بالصعوبات وحاد المنزلقات. إن فكرة السياسة في الأصل هي جعل الخبراء في خدمة الأولويات والبرامج التي يسطرها ويشرف عليها السياسيون لا العكس الذي نراه اليوم في هذه الحكومة التي كانت مهووسة في تشكيلها بنوع من الإبهار الشكلي في الذهاب إلى الأقصى للقطيعة مع الأسماء المعروفة على الساحة الوطنية والحزبية، وجمع الكثير من الأطر التي اشتغلت في هولدينغات أثرياء الحكومة لمحاولة تحويل الجهاز التنفيذي إلى مجلس إدارة توخيّا للنجاعة. وقد كانت وزيرة الاقتصاد والمالية الحالية نادية فتاح العلوي مديرة مالية بشركة التأمين التابعة لمولاي حفيظ العلمي، ووزيرة السياحة والصناعة التقليدية فاطمة الزهراء عمور مديرة للتواصل في مجموعة «أكوا» التابعة لعزيز أخنوش، ووزير الصناعة والتجارة السيد رياض مزور كان مدير ديوان مولاي حفيظ العلمي، ووزير الفلاحة والصيد البحري السيد الصديقي كان كاتبا عاما لدى أخنوش. والوشائج داخل هذه التركيبة كثيرة ومتمحورة حول المال والأعمال والقرب من أثرياء الأحرار الذين لهم تصور خاص للشأن العام وهو التدبير وليس الحكم، وهذا أعطى هذه الوصفة التي لم ترض عموما المتحالفين أنفسهم، كما أسلفنا باستثناء السيد الرئيس.
ولا تغفل بالطبع إرادة الدولة الواضحة في جعل تقرير النموذج التنموي الجديد برنامجا استراتيجيا للبلاد، ولهذا تم ضم رئيس لجنة هذا النموذج السيد شكيب بنموسى شخصيا إلى الحكومة في وزارة وازنة هي التعليم والرياضة، واثنين من أعضائها واحد في التعليم أيضا مكلف بالسلك العالي وواحدة مكلفة بالانتقال الطاقي كورش سيادي حيوي بالنسبة للمملكة. وتماشيا مع الطبيعة الدستورية الحالية التي تضمن هندسة مؤسساتية تقودها ملكية تنفيذية، فقد حافظت جل الأسماء على مناصبها في ما يعرف بوزارات السيادة، وهؤلاء لم يشملهم معيار أخنوش في التجديد الجذري ولا في التصور التدبيري المقاولاتي للعمل السياسي، فهناك وزير عمر أكثر من عشرين سنة وما يزال السي توفيق يقود الإصلاح الديني في المملكة لأنه وزير «أمير المؤمنين»، ورئيسه مطمئن لحصيلته بغض النظر عن سنه أو أقدميته.
هذا من ناحية الشكل، أما من حيث الجوهر فقد فوجئت شخصيا مفاجأة سارة وأنا أرى أن البرنامج الحكومي قد تم تصديره بقضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان والسعي لتحسين صورة المغرب، والتعامل مع المنظمات الوطنية والدولية المهتمة بحرية التعبير ومحاربة الفساد، وقد كان هذا الغائب الأكبر في برنامج الحمامة الضاحكة وحبذا لو تم البناء على هذا الشق الهام لتحقيق انفراج يكون فأل خير على الجميع. وأما ما تبقى من البرنامج فيمكن اعتباره مبنيا على عمودين: عمود النموذج التنموي الجديد، وعمود الإصلاحات الكبرى المؤجلة منذ 2011 بسبب الخلاف الإيديولوجي مع حزب العدالة والتنمية الذي قاد منذ ذلك الوقت وطيلة عشر سنوات الحكومة في إطار تشنج سياسي لا تخطئه العين.
ولابد من التذكير أن أحد أهم مفاصل برنامج حكومة أخنوش المتعلق بالدعم المباشر للأسر المعوزة، كان أخنوش نفسه قد اشترط على ابن كيران – حسب هذا الأخير- في 2016 ألا يباشر هذا الورش كي يشارك في الحكومة، وقصة البلوكاج معروفة والتي أسقطت زعيم الإسلاميين ليخلفه سعد الدين العثماني.
هذا الإصلاح الذي مهّدت له المملكة بضبط سجل اجتماعي وطني بسبب جائحة «كوفيد 19» -وهو عمل جبّار- قد يكلف سنويا 20 مليار درهم، هي ما تضخه الميزانية لحد الآن في صندوق المقاصة، والمؤكد أن الحكومة ستتخلى عن دعــــم الغـــاز وربــما يصل ثمن البوطاغاز إلى 120درهما إذا ما توصلت الأسر المصـــنفة معوزة بما يناهز الألف درهم شهريا.
هذه القضايا الملموسة غرقت في الكثير من التنميقات اللغوية في البرنامج الحكومي المعروض أمام مجلس البرلمان، من مثل الدولة الاجتماعية. والواقع أن مثل هذا الإصلاح الذي بدأت إرهاصاته منذ حكومة عباس الفاسي كان يجب أن نكون قد قطعنا فيه أشواطا لولا دروب السياسة الوعرة، واليوم لا مفر من الحسم بعدما كشفت جائحة كورونا عن هول الخصاص والفوارق مما يهدد الاستقرار في البلاد.
خلا البرنامج الحكومي من الأرقام والمواعيد رغم أن هذه حكومة التكنوقراط، فكم ستكلف هذه الإصلاحات الطموحة التي تتوخى جبر الضرر الاجتماعي ميزانية الدولة؟ نحن أمام أوراش فرعونية من الحماية الاجتماعية إلى تثوير قطاع الصحة فالتعليم، ثم خلق أكثر من مليون منصب شغل وخلق طبقة فلاحية متوسطة والزيادة في أجور الموظفين. فمن أين سيأتي رئيس مجلس الإدارة الحكومية بالموارد؟ وكيف سيدبر الاحتجاجات الطبيعية الناجمة عن ضرورة مباشرة أولويات وتأجيل مطالب فئات وقطاعات؟ والمشكل الخطير في هذا الورش الطموح والضروري هو تحديد المعوز والفقير بحيث إن من يحصل على الحد الأدنى للأجر قد يكون خارج التصنيف، فهل سيقوى المواطن البسيط بدخل لا يتجاوز 3000 درهم على تحمل تحرير أسعار المواد المدعومة لحد الآن؟
إن البلد محدودة الموارد، والدخل القومي لا يتجاوز المائة مليار دولار إلا بقليل، والمشكل ليس في البرنامج الطموح أو الكفاءات «الخارقة» ولكن في القدرة السياسية على تنزيل الإصلاحات دون أحلام ولا أوهام، ولا خلط بين مسؤولية الحكم ومهارات التدبير.
سيكون الاختبار عسيرا بالنسبة للسيد أخنوش ومن معه، وسيمتحنون في مواجهة الشعب ولهيب الخصاص. والمشكل الأكبر في هذه الحكاية هي النماذج التي تسيطر اليوم على مقاليد التحكم في الجماعات والجهات والمؤسسات المنتخبة، غالبيتهم مركب مصالحي مخيف موكول له تنزيل أكبر مشروع إصلاحي في العهد الجديد. والخوف كل الخوف أن يفترس المصالحي الإصلاحي، ويتم افتراس النموذج التنموي والطبقة المتوسطة والمعوزة، فلا سلطة مضادة اليوم لهذا المد الهادر. ولهذا نسأل الله اللطف في ما ستأتي به الأيام والسلام