بعد أسبوع ستجرى الانتخابات التشريعية والجماعية والجهوية بالمغرب.
وهي انتخابات تشبه الماء، لا من حيث شفافيته، بل لإنها مثله بلا طعم ولا لون، وإن كانت برائحة تزكم الأنوف.
عادة تكون الانتخابات التشريعية بأفق التداول السلمي على السلطة، وهو الأمر المتعذر في بلدنا، باعتبار أن نظامنا السياسي لا يسمح للحكومة إلا بممارسة أقرب للتدبير منه إلى ممارسة السلطة.
وإذا كانت استراتيجية النضال الديموقراطي التي رفعتها مجموعة من القوى السياسية اليسارية أساسا (وإن كان حزب العدالة والتنمية كذلك قد ضمنها أوراقه في مؤتمره ما قبل الأخير) تعني من بين ما تعنيه: القبول المؤقت بالسقف الذي يحد من إمكان التداول السلمي على السلطة، مع العمل على توسيع الهوامش الديموقراطية من منطلق حصر اختصاصات كلا من المؤسستين الملكية والحكومية. فإن الواقع الحالي يبين أن الحكومة قد تنازلت عن اختصاصاتها المحدودة مكرهة، وأننا بصدد سلطوية تحتقر المؤسسات التمثيلية، مع ملاحظة قابلية الأحزاب للعب في مساحات محددة يتم تقليصها دوريا.
وهذا يعني أن ما سمي استراتيجية النضال الديموقراطي قد تحولت إلى قبول طوعي بأداء الأدوار التي تحددها الجهة الماسكة بالسلطة والثروة وقنوات التحكم والضبط والإكراه.
ومن هذا المنطلق فإن مخرجات العملية الانتخابية لا تفيد سوى في تحديد الأحزاب التي ستؤثث كراسي الحكومة للتوقيع على ما تحدده جهات أخرى غير قابلة للمحاسبة أو المراقبة.
وحتى على هذا المستوى الضيق، وحتى لو ارتكنا إلى السردية التي تقول بأن الذهاب إلى صناديق الاقتراع رغم كل هذه النواقص/ النواقض هو تمرين على تفعيل آلية محاسبة على الأقل من ساهموا في أجرأة تدبير السياسات العمومية (لا وضعها)، فإن فرية القاسم الانتخابي توجه صفعة قوية لكل حالم بإمكان توسيع الهوامش من مدخل الانتخابات بشكلها الحالي.
صحيح أن أعدادا كبيرة من المغاربة تقاطع الانتخابات، ولكن صحيح كذلك أن الانتخابات في السنوات الأخيرة تفرز خريطة تعبر بشكل أو بآخر على اختيارات المواطنين الذين توجهوا نحو الصناديق.
بمعنى أنه إذا كانت المؤسسات التمثيلية لا تعكس حقيقة اختيارات أغلبية المواطنين، فإنها في مستوى أدنى تعكس اختيارات الفئة الناخبة.
اليوم، وضد كل المواضعات العالمية، سنكون أمام برلمان يضم الكثير ممن عاقبتهم الفئة الناخبة.
إن احتساب القاسم الانتخابي على أساس عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية وحده كاف لتبرير مقاطعة الانتخابات.
وإن كل الذين قبلوا بهذا القاسم، سواء صراحة عبر التصويت عليه، أو ضمنا عبر قبول المشاركة في الانتخابات على أساسه هم شركاء في ضبط مخرجات العملية الانتخابية على هوى السلطوية.
فأن تتساوى أحزاب في الحصول على مقعد واحد في دائرة انتخابية مع العلم أن الحزب الأول حصل على ما فوق 40 ألف صوت، والثاني لم يحز سوى خمسة آلاف صوت هو العبث بعينه. وهو سرقة مكشوفة لأصوات الناخبين، بغض النظر على من سيفوز بذلك المقعد أكان من حزب إداري أو مرشح يساري على لوائح الفيديرالية أو الحزب الاشتراكي الموحد.
إن بلدنا للأسف تتدعم فيها يوما بعد آخر أسس سلطوية تغلق كل منافذ الهوامش التي كانت تسمح لاختيارات مضادة لها بالتعبيرعن ذواتها.
فبعد التحكم في الحقل الصحفي عبر اعتقال مجموعة من الأصوات المغايرة، ودفع مجموعة من المقاولات الصحفية التي كانت تحتضن ما تبقى من هوامش مختلفة عن السائد ولو في حدود دنيا.
وبعد التحكم في الحقل المدني عبر استنبات إطارات جمعوية ملحقة وريعية، والتضييق على الجمعيات المستقلة عن الدولة، وضرب الحق في التنظيم سواء عبر منع تسلم وصولات التأسيس أو تجديد المكاتب، أو عبر الحل.
وبعد ضرب الحق في الاحتجاج السلمي، واستغلال جائحة كورونا لاستكمال حلقة منع التعبيرات الاحتجاجية في الشارع.
بعد كل هذا، جاء دور استرداد الدولة لما سبق أن قدمته من إصلاحات همت العملية الانتخابية، وهي إصلاحات على علتها ومحدوديتها كانت على الأقل تمثل تقدما بالقياس مع الانتخابات التي كانت قائمة وفق نمط الاقتراع الفردي في دورة حاسمة وحيدة.
إنها انتخابات لا تعبر حتى عن اختيارات الفئة القليلة التي ستتوجه نحو الصناديق.
إن السياقات الحالية الحقوقية والسياسية والانتخابية كانت تقتضي من القوى الديموقراطية حتى تلك التي حسمت في خيار المشاركة الانتخابية منذ زمن، وليس المقاطعة فقط، أن تعلن نقطة نظام واضحة في وجه النظام السياسي السلطوي.
نقطة نظام تعلن فيها أنها لا يمكن أن تزكي ديموقراطية الواجهة في ظل الاستمرار في الاعتقال السياسي وتكبيل حرية الرأي والتدوين وضرب الحق في التنظيم والحق في الاحتجاج السلمي.
نقطة نظام في وجه قوانين انتخابية تجعل العملية الانتخابية متحكم فيها قبلا.
نقطة نظام في وجه المقاربة الأمنية في التعاطي مع الشأن العام.
نقطة نظام في وجه تغول زواج السلطة بالثروة.
وأخيرا وبكل ألم أقول: لم تقدم الدولة أي تنازل ولو شكلي على مستوى الحقوق والحريات يبرر المشاركة في ديموقراطية الواجهة، فيما ساهم رفاق لنا في شرعنة العبث، ولو أنهم كانوا غير مهيئين حتى لهذا العبث. والطريقة التي تم تشكيل اللوائح وفقها كانت الدليل الأبرز.