بؤس المعارضة السلطوي


خالد رحموني
الخميس 23 يناير 2014



بؤس المعارضة السلطوية: حنين للاستبداد، وتكريس للغنيمة في السياسة

يشكل تلازم العمل السياسي المعارض –كما تجلى في هذه المرحلة بالذات-مع مفردات الازمة السياسية العامة بالبلاد السابقة لدستور 2011 ، تلك الازمة التي جعلت الشارع المغربي بكليته ينتفض ضد الفساد والاستبداد رافعا شعارات تطالب بالقطع مع رموزه والتخلص منهم، والعمل على تفكيك اقتصاد الريع وبنيات التحكم في الرقاب والعباد والبلاد،

وكذا كثافة طلب بعض مكونات تلك المعارضة غير الديمقراطية على تحصين رموز وبنيات الفساد العمومي السابق، مع ما رافق ذلك من العمل على حماية أطرافه ازاء أي رقابة شعبية حالة أو مسائلة برلمانية محتملة، والتحصن بمواقع منيعة للحيلولة دون أداء كشف الحساب لصالح الشعب،

وأيضا تقصدها المحافظة على جمود الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي على حاله والامعان في شده الى الخلف، مع حرصها على تأبيد وضع الجمود تلك لكي لا يصل الاصلاح لمداه ولا تصل ثمراته للشعب، امعانا منها-المعارضة- لكي لا يحدث أدنى تغيير لصالح الشعب، مع اصرارها على الابقاء على الانتفاع من مغانم ومكاسب المرحلة السابقة على الاصلاح والحراك الشعبي المطالب باقرار الاصلاحات العميقة،

وأيضا الحنين الى اعادة انتاج الاستبداد، والتربح من المنافع العامة والاستقواء بالضجيج والصراخ العاري عن الفعل مع توظيف وسائل الاعلام في التضليل والالهاء وتزييف المعارك الحقيقية، وممارسة السياسة في غياب الجمهور، وربط السياسة بمنطق الغنيمة ونفي قيمة المبادئ بما ينفي روح المصداقية عن العمل العام،

تشكل كل تلك الخصائص وجملة تلك الملامح باجتماعها معمارا مميزا لما نحن بصدده ، بل انها تقدم لنا تعريفا دقيقا لما يمكن أن نسميه : معارضة سلطوية، تلك المعارضة التي كانت بالامس –في مجمل مكوناتها-جزءا من التدبير التحكمي السلطوي للشأن العام ماسكة بناصية مناطق النفوذ ومفاصل الدولة والمجتمع، قبل أن تندلع رياح الفورة الاجتماعية وينقدح لهيب الاحتجاجات المطالبة باقرار تغيير شامل يطال السياسات والاختيارات، متجها لتكريس دولة الحق الدستوري والسياسي والعدل الاجتماعي والكرامة الانسانية والمواطنة الكاملة .

1- هاجس الغنيمة يغلب على منطق التسوية.. لماذا ؟

هناك أمر شديد الخطورة بات يبسط هيمنته على المشهد السياسي برمته، بشقيه الحزبي والحكومي، وهو يطرح الكثير من التساؤلات والإستفهامات، يتعلق الامر باستشراء خطابات الكراهية وفشو خيارات الاقصاء وتغدية غرائز الانتقام والتشفي من الخصوم السياسيين المتحصنين بمواقع الاصلاح الديمقراطي والموجودين في قاطرة التدبير الحكومي الحالي .

والملاحظ، أن النقاش العام داخل المجتمع –في الاونة الاخيرة- بدأ ينزاح ويتنكب عن جادة الصواب وعن عنوان المرحلة، ممثلة في تصحيح المسار الديمقراطي بالعمل الجاد لتحقيق أهداف العدالة الاجتماعية والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي،

يرتسم أمامنا-إذن- مشهد سياسي عام تغلب عليه حسابات السوق في الربح الحزبي أو الفئوي الضيق بكل مفرداته والياته وتجلياته، ويهيمن عليه منطق الغنيمة السياسية أكثر من هاجس البحث عن مخارج وحلول موضوعية ومعقولة للمشكلات القانونية والسياسية والاقتصادية المطروحة في جدول أعمال البلاد، والتي تحفظ لنا الامان المدني والتقدم الديمقراطي.

فكأن عقارب الساعة ستتوقّف عند القادم من المبادرات الاصلاحية التي تتطلب مسؤولية وطنية أوفى والتزاما نضاليا أعمق، لذلك يبدو الجميع داخل القوى السياسية الحقيقية دخل البلد، خصوصا من مكونات المشهد الحزبي المؤسساتي في حالة استنفار قصوى، والجميع إلا القليل من ذات النخب الذي يعدّ على أصابع اليد الواحدة يسابق الزمن والتاريخ والجغرافيا السياسية من أجل احتياز مقاعد ومواقع في الغنيمة السلطوية، ولسان حالهم يقول: من امتلك المجالس والمواقع امتلك البلد برمتها ومستقبلها.

ولذلك يشهد وطيس الجدل حمية غير معقولة في كل مرة يحصل فيها اختلاف في التقدير والتفكير والتدبير، سواء فيما بين أعضاء المجتمع أو بينه وبين مؤسسات الدولة، إلى الحدّ الذي جعل الاختلاف هو القاعدة، والتوافق هو الاستثناء.

2- كيف حصل ذلك الانزياح، حنين الى الاستبداد

لقد خرجت البلاد-لتوها- من نموذج للتحكم السلطوي مورس فيه الإقصاء والحرمان السياسي والاستبعاد الديمقراطي لقوى شعبية حية من مجريات العملية السياسية، وهيمن خلاله خطاب التنافي بين المختلفين وتكرس الاستثناء من المشاركة في الدولة والمجتمع بكل مكوناته، وكان الجميع يتمنى اندحار هذا النمط من التحكم، ويبشر الأصدقاء والفرقاء بالحرية والتوافق الشراكة في القرار السياسي والوطني،

وعندما انزوى خلعاء السلطوية المتنفذة وبعض من رموزها وتخفوا عن الانظار، خصوصا في مغرب ما بعد 20 فبراير 2011، استبقى البعض من نخب التسلط والتحكم حقدا دفينا ادخروه لمرحلة تستقر فيها الاوضاع ويستتب الجو لخيار الاصلاح في ظل الاستقرار، أو هم الان في أسوأ الاحوال لا يزالون على عهدهم بالمكر والخديعة لبني وطنهم، فهم يحاولون بث نفس التشكيك في المنجز الوطني الديمقراطي والانتقالي، ويتحركون من أجا ارباك الصيغة الاصلاحية القائمة بذات الآليات التي كانت تحرك النمط التسلطي السابق عن الانتقال السياسي والدستوري الجديد، و الذي جاء محمولا على رياح التغيير الديمقراطي الموعود، لا لشيء سوى أنهم يحنون الى اعادة دفة الامور الى سابق عهدهم في الاستبداد والفساد، بل يتوقون ليوم تعود فيه عقارب الساعة للخلف، لكن عبثا يحاولون،

3- التحكم يطل برأسه من جديد، بين الشراكة والاقصاء

لقد بات الإقصاء اديلوجا للتحكم الجديد بادوات جديدة، وقد غدا عنوانا لتفكير البعض من نخب المرحلة في مظلوميتهم السياسية المدعاة، ممن طالهم قمع سابق وتم إقصاءه وتهميشه خلال سنوات التحكم المظلمة،-أقصد بعض القوى والاحزاب التي ناضلت ضد القهر ذات يوم من تطورنا السياسي- وهذا أمر غريب ومستهجن، لقد أضحى هؤلاء يطالبون بممارسة الظلم والاستثناء والاستبعاد بل والاستئصال والحل ضد قوى سياسية ووطنية، وهذة المحاولات التسخينية غايتها اخراج العدالة والتنمية من التدبير العمومي واقصائه بادوات خشنة من دفة صناعة القرار السياسي.

هكذا وجدنا أنفسنا أمام عملية مقيتة تستهدف استبدال مقولات التوافق والشراكة واللقاء الديمقراطي بين قوى الاصلاح في المرحلة، بمفاهيم التفرد والانكار التام وممارسة التحكم المضاد ونسف استقلالية القرار و الارتباط المقيت بالإدارة، وقد استلّت -هذه القوى وقياداتها -تعبيرات مجردة من قبيل الظلامية والرجعية والانتكاسة وغيرها، مقابل احتكارها لقاموس بديل يصادر قيم الحداثة والعلمانية والتقدمية الديمقراطية لصفها وهي منها أبعد، متهمة العدالة والتنمية بكل منكر مستقذر، حيث أصبح المرء منا لا يعرف من يقف على خط الحداثة ومن هو متموقع ضدها أو خلفها، من يناضل من أجل الاصلاح الديمقراطي ومن يمعن في الفتل في حبل الاستبداد والتحكم والسلطوية الجديدة .

الأخطر من كل ذلك، أن البعض ذهب إلى حدّ تقسيم المجتمع اديلوجيا إلى مجموعتين متناحرتين متنافرتين، وتصنيف مستقبل البلاد إلى مشروعين متنابذين لا يلتقيان –حسب زعمهم- أحدهما تقدمي والاخر رجعي، رغم أن الخارطة السياسية على الأقل تتوفر على مساحة أوفر بإمكانها أن تقدم لنا مشروعات متمايزة مجتمعيا وسياسيا ، وهو يعمل بكل الاساليب لتهييج ذلك الصراع والفراق على أساس هوياتي لا ديمقراطي،

وهنا السؤال الموجع الذي يلاحقنا دوما. لمصلحة من يجري اختزال المشهد السياسي المغربي في هكذا تصنيفات حدية وطرفية، هي أقرب للإيديولوجيا منها للتناول السياسي المجتمعي؟ ولماذا يحرص البعض من الطبقة السياسية على استعادة مشكلات الماضي والنفخ في خلافاته وتثوير ملابساته التاريخية، ويريد أن يرمي بها في الوضع المغربي الراهن المختلف، والذي يفترض أن يكون متعددا لصالح كل البلاد بتنوعها الفكري والسياسي ومستقبلها وأجيالها؟

إن هذا الخطاب يخفي شيئا أخطر وأكثر رعبا، وهو ممارسة البعض مهمة الوصاية على المجتمع كل المجتمع، بل هو يختزن حنينا لخيارات التحكم والزبونية والفساد العمومي، و هو يكثف ضرباته قصد محاولة الدفع بالوضع السياسي والمجتمعي العام إلى أسوإ الاحتمالات المفضية الى الفتنة والاثارة وبث الكراهية، بدل التأسيس على المشترك الوطني والبحث عن عوامل التوافق والالتقاء.

4- أزمة العمل السياسي المعارض،

كثير من الذين يدمنون الحديث في كل الاحوال ودائماً ومنذ سنين مديدة، عن أزمة السلطة والنظام والحكم، عليهم أيضاً أن وفي ذات الافق أن ينتبهوا إلى أزمة أعمق وأدق، وهى أزمة المعارضة بكل مكوناتها وقواها، ولا نحتاج إلى رصد وقائع تثبت ذلك فاحصائها لا يقدر ولا يعد حصرا ورصدا.

إذ الحكم الديمقراطي الرشيد العادل لا ينضبط أو يستوي إلا فى وجود معارضة سياسية رشيدة ومنظمة وقادرة وحية ومستقلة عن مراكز الجمود السلطوي.
وقد ظلت أزمة المعارضة تتصاعد حتى صارت كامنة فى بعض العناصر التالية:

• أنها تنشغل بمنطق الغنيمة ونيل القربى من ذوي النفوذ والكراسى، والسلطة داخل أحزابها أكثر من انشغالها بالتعامل اليومى والنضال القاعدي الموصول بالجمهور والناس والمتقصد مباشرة مهام التأطير السياسي والفكري والتوضيح الاديلوجي مع نخبها القائدة وقاعدتها الوفية والجماهيرية.

• أنها معارضة مكونة من تشكيلات النخبة أكثر منها ذات أفكار وبدائل وبرامج مصنوعة من هموم وأحلام الشارع والناس عموما.

• أنها تنطلق من موقع التسويات وتبادل المنافع والمواقع وتكون بذلك قابلة للبيع والشراء فى أول حالة مغازلة سياسية من قبل النظام السياسى الحاكم وقوى الضغط السلطوي.

• هى أن صراعاتها الداخلية فيما بينها أضعاف أضعاف مشاكلها أو صراعاتها مع نظام التحكم والسلطوية، وتلك فى رأيى أخطر مشاكلها.
بوصلة المنافسة الشريفة والخصومة المعقولة مفقودة فى معظم الأحيان مع الكثير من قوى المعارضة العزيزة عن الرصد، كما تنضح بذلك مجمل الوقائع في مشهدنا السياسي الموبوء.

5- منطق الغنيمة وقيمة المبادئ في السياسة

واليوم، اقتربت بعض مكونات المعارضة المؤسساتية فى البلد منذ عدة شهور من فشلها في حملات التهييج والتحشيد وارادة الاعطاب والتعويق لدينامية اطلاق مسلسل الاصلاحات الكبرى، والذي انطلق بالتحديد بعد تشكيل الحكومة –المنبثقة عن الانتخابات غير المطعون في صدقيتها السياسية- منذ ذلك الحين إلى أن تتشكل وتلتف كتكتلات سياسية هجينة فاقدة البوصلة والاتجاه،أهمها : القوى المحافظة التاريخية ممثلة فى حزب الاستقلال-بصيغته الجديدة- بزعامة بديلة عن النمط التاريخي للزعامة الحزبية، والقوى اليسارية والاشتراكية ممثلة فى الاتحاد الاشتراكي أساسا، ثم القوى المؤتلفة حول الواجهة السياسية للدولة العميقة مجسدة في حزب الجرار، مع قوى سياسية أخرى معزولة عن الدينامية السياسية المعاصرة ممثلة في بعض الحركات الاحتجاجية ذات الطابع الاجتماعي وكذا تلك المجسدة لمعارضة سياسية ذات لبوس صوفي ومتشكلة في جماعة العدل والاحسان بزعامة جديدة تبحث لنفسها عن أفق سياسي بديل وآخر في مرحلة ارتباك الوضع القائم في دول الربيع العربي،

وهنا لا يفوتنا التذكير ببعض المكونات المجهرية، المعزولة والمحدودة التأثير من تلك الحساسيات السياسية ذات الافق اليساري –الاشتراكي الموحد- وبعض التنظيمات الحركية المسيسة وغير المسيسة-السلفيين مثلا -.

هذه القوى حصّلت زعامتها ورمزيتها فى مرحلة لاحقة عن اللحظة الانتخابية بكل أطوارها ومراحلها الجزئية الأخيرة.

باختصار، أريد أن أقول إن هذه القوى-في مجملها- ثبت بالدليل الملموس أنها ذات رصيد شعبى محدود التأثير على ميزان القوى القائم، وقدرتها على الحشد والتعبئة منحصرة، إن لم أقل مخجلة وهي –حقا وصدقا –مثيرة للشفقة.

فمقياس نجاح أو فشل هذه القوى هو قدرتها على الاندماج والتنسيق والتواصل وبناء رصيد نضالي جماهيري مسؤول وذو مصداقية وامتداد شعبي معتبر، بهدف تكون جبهة معارضة حقيقية –لا مجازية- توازن قوى الاصلاح الديمقراطي وفي طليعتها العدالة والتنمية الموجود الان في موقع التدبير الحكومي للسياسات العمومية.

بالنظر لكل ذلك، فانه من المتوقع أن يكون التنسيق السياسى بين مكونات المعارضة المؤسساتية فى اللحظة الانتخابية كالعادة أكثر تنظيماً، والمتوقع-مع اقتراب موعد النزال الانتخابي- أيضاً أنه حينما تأتى ساعة الجد ويتم طرح الأسماء والبرامج-ان وجدت - فإن منطق الخلاف حول الغنائم والمواقع والمنافع هو الذى يمكن أن يحسم الصراع لصالح قوى الاصلاح، وهو بالذات ما سيكون له الفضل في قصم ظهر قوى تلك المعارضة الجديدة البعيدة عن نبض الشارع وقضايا الناس ومعاناتهم.

هل ستكون هذه القوى على مستوى الحدث الاصلاحي والديمقراطي والانتقالي الذي تحب لبه البلد،أم سنعود إلى مربع رقم واحد وهو أن خلاف الأنصار والمشايعين وزبناء المنافع سيكون أشد ضراورة من الخلاف مع الخصم السياسى المعلن، الذي يتجسد بالنسبة اليها في هذه الحالة-في قوى الاصلاح الديمقراطي-؟

6- إنها أزمة الفاعلين فى الحياة السياسية،

فرق كبير بين من أسس على قاعدة فكرة اصلاحية، ومن مهر وجوده وكيانه بالمنافع ومراكز النفود، فرق بين منطق الغنيمة والزبائنية وبين منطق ممارسة العمل العام انطلاقا من رصيد للقيم معتبر،

اننا مطالبون-أكثر من أي وقت مضى- بالبحث عن التسويات التاريخية الممكنة من أجل انجاح مسار الاصلاح الديمقراطي العميق للدولة وانهاض المجتمع، قبل اللهاث الارعن وراء غنيمة قد لا تجود بها الايادي السلطوية الظاهرة والخفية من خلال نسف وانهاك مخرجات صناديق الاقتراع ممثلة في الصيغة الديمقراطية للانتقال السياسي، اقو لان الكثيرين من الذين تربحوا من المرحلة السابقة يحنون الى سالف عهد التفرد بالسلطة والتحكم في المنافع العمومية بعيدا عن الرقابة الشعبية،

من اجل ذلك فان المرحلة الراهنة تقتضي عقلا سياسيا تجميعيا، يراهن على تحويل الاختلاف إلى توافق، والتصادم إلى التقاء، والصراع إلى حالة من التعاون، والإقصاء إلى مشاركة.
فهل ترتقي الأطراف الممثلة في المؤسسات السياسية والدستورية القائمة المنبثقة عن دستور 1يوليوز 2011 إلى مستوى هذا التحدي التاريخي،

وكما يقول أرنولد توينبي : أن الحضارات تبنى بمنطق التحدي والاستجابة، وليس بمقولات النفي والإلغاء والاقصاء والاستبعاد، فما بالنا بالدول والتجارب السياسية والنهضات المجتمعية في المراحل العصيبة من تطورها التاريخي، وخصوصا في لحظة الانتقال الديمقراطي المعطوب والجاري في هته المرحلة من تطور أمتنا؟

مقالات ذات صلة