يلتئم ببلادنا هذه الأيام ما يسمى ﺑ"المؤتمر عن تجديد الفقه السياسي الإسلامي". وتقام هذه التظاهرة تحت إشراف شخصية (يوسف القرضاوي) مثيرة للجدل وأحدث استقدامها إلى تونس ضجة كبيرة. ونغتنم هذه الفرصة للتذكير مجددا بأنّ التجديد في الفكر الإسلامي عموما، ليس حكرا لا على الفقه كمدخل للتجديد،
ولا على المشايخ كمؤسسين له وفاعلين فيه. كما ننبه إلى أنّ الاستمرار في الاحتكار، مثلما يفهم من عقد مؤتمر كهذا، إنما هو تثبيت لاستمرارية الوضع السائد منذ عهود وعقود و المتسم بالتخلف الاجتهادي وبما يفرزه هذا التخلف من إعادة إنتاج للرجعية بمختلف أصنافها.
فالمعروف عن الفكر الإسلامي في العصر الذهبي للأمة أنه كان ينبثق عن علماء موسوعيين يجمعون بين الدراية بشؤون الدنيا والمعرفة بمسائل الدين. لقد كان الكندي (ق 9م) حافظا للقرآن وفي الوقت ذاته ضالعا في علم النفس والموسيقى والطب والفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلسفة والفلك والمنطق والموسيقى. وكان ابن رشد (ق12م) فيلسوفا وطبيبا وقاضيا وفلكيا وفيزيائيا، وفي الوقت ذاته فقيها. وكان ابن خلدون (ق14 و15 م) فلكيا واقتصاديا ومؤرخا وعالم رياضيات واستراتيجيا وعسكريا وفيلسوفا ورجل دولة، ويعتبر مؤسسا لعلم الاجتماع، فضلا عن كونه كان حافظا للقرآن ولغويا وفقيها. والسؤال الذي يتعين طرحه في هذه الحقبة: من هو يوسف القرضاوي مقارنة بهؤلاء حتى يشرف على مؤتمر عن تجديد الفقه السياسي؟ وإن لا تصح المقارنة بدعوى أننا في عصر مختلف عن العصر الذهبي، فهل يصح غض الطرف عن أهمية الفكر الموسوعي والاختصاص العلمي في مجال النهوض بالفكر الإسلامي عموما؟
إنّ مقارنة بسيطة بين منهجية الفكر الغربي (اليهومسيحي) المعاصر ومنهجية الفكر الإسلامي المعاصر تؤكد لنا أنّ الكنيسة، المعروفة تاريخيا بانغلاقها على نفسها من حيث انفرادها بسلطة الحوكمة الدينية، هي التي نراها خرجت إلى الشارع إن صح التعبير. بينما يتبين لنا من خلال نفس المقارنة أنّ الإسلام، المعروف عنه بأن لا "كنيسة" فيه، قد أقيمت له "كنيسة"، وهي التي تتجسد في المؤتمرات مثل الذي نتحدث عنه. على سبيل المثال نذكر أنّ الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (الأب) قد "أفتى" باسم الرب لما يسمى ﺑ"عاصفة الصحراء" ولضرب العراق في سنة 1991، قبل أن يأتي دور جورج بوش الابن ﻟـ"يفتي" هو بدوره باسم الرب لضرب أفغانستان واحتلالها ثم لاحتلال العراق في سنة 2003. والحال أنّ لا الأب ولا الابن كان كاهنا أو قديسا أو البابا. وعلى سبيل الذكر أيضا، نلاحظ أنّ سياسيين أمريكيين من أمثال ماكين و ليبرمان يمارسون صلاحيات فقهية في تجديد وفي تطبيق الفكر السياسي اليهومسيحي ذات آثار مباشرة على سياسة بلادهم وعلى واقع البلدان التي يطبقون فيها هذا الفكر المجدد. كما يمارس الفرنسي برنار هنري ليفي منذ مدة ما يسمى بالفلسفة الجديدة ويطبقها من أجل مزيد من تجزئة الوطن العربي وكسر أواصر التعاون بين المجتمعات العربية. ويأتي التجديد الغربي أيضا من عند البريطاني برنارد لويس الذي يهدف إلى تفتيت العالم العربي الإسلامي ودعم سياسات كبرى مثل المشروع الأمريكي الامبريالي "الشرق الأوسط الكبير". بينما في المقابل نسجل تورط الفكر الإسلامي المعاصر في حبس الإسلام في ندوات ومؤتمرات لا تغني من جوع. بل إن هذه التظاهرات توحي بأنّ هذا الفكر صار يحاكي المنهجية اليهومسيحية الأصلية والتي تتمثل في النأي بالدين عن الواقع المعيش بينما الكل يعلم أنّ الأديان جاءت، على مرّ العصور، لتصلح الإنسانية وفكرها ولتقضي على الفساد بحسب العصر الذي جاءت فيه.
في ضوء هذا لا يسعنا إلا أن نسجل انتقال العقلانية الدينة كضرب من ضروب الواقعية التي أثبتت نجاعتها في تسيير الشأن العام في العصر الذهبي، بفضل الفكر الموسوعي وتقاطع المعرفة الدينية مع المعرفة الدنيوية، من مزية عربية إسلامية إلى خصلة غربية. وبسبب هذا نأمل أن تراجع النخب في بلاد العرب والمسلمين منهجيتها الاجتهادية، وذلك أولا بأن تعود إلى رشدها بعد أن تتخلص من الاستلاب للغرب، وثانيا بتسهيل انفتاح الفكر الديني على العلوم الإنسانية والاجتماعية، وعلى الفنون والآداب، حتى يكون التجديد شاملا، وحتى يكون التجديد في الفقه السياسي ثمرة من بين عديد الثمار الأخرى للتجديد العام، لا محركا معاقا للتجديد، كما تريده لنا الندوات والمؤتمرات.
أخيرا وليس آخرا، رجاؤنا أن يكف المشايخ وكذلك الإعلام في المجتمع العربي الإسلامي عن الاستخفاف بقيمة مثل قيمة المواطنة حيث إنهم يقدمونها من جهة على أنها تجسيد سامٍ للحداثة، لكنهم من الجهة الأخرى يوصدون، بعدوانية غير مسبوقة، الباب الذي يؤدي إلى تحديثها في أصولها الثقافية الدينية. إذن متى سيتفطن المشايخ أنهم يلعبون نفس الدور الذي تلعبه العلمانية المتطرفة، رغم اعتبارهم أنّ هذه الأخيرة خصما لدودا لهم: اختزال الحداثة في اللادين، مما يساهم في إعادة إنتاج الظلام؟
ولا على المشايخ كمؤسسين له وفاعلين فيه. كما ننبه إلى أنّ الاستمرار في الاحتكار، مثلما يفهم من عقد مؤتمر كهذا، إنما هو تثبيت لاستمرارية الوضع السائد منذ عهود وعقود و المتسم بالتخلف الاجتهادي وبما يفرزه هذا التخلف من إعادة إنتاج للرجعية بمختلف أصنافها.
فالمعروف عن الفكر الإسلامي في العصر الذهبي للأمة أنه كان ينبثق عن علماء موسوعيين يجمعون بين الدراية بشؤون الدنيا والمعرفة بمسائل الدين. لقد كان الكندي (ق 9م) حافظا للقرآن وفي الوقت ذاته ضالعا في علم النفس والموسيقى والطب والفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلسفة والفلك والمنطق والموسيقى. وكان ابن رشد (ق12م) فيلسوفا وطبيبا وقاضيا وفلكيا وفيزيائيا، وفي الوقت ذاته فقيها. وكان ابن خلدون (ق14 و15 م) فلكيا واقتصاديا ومؤرخا وعالم رياضيات واستراتيجيا وعسكريا وفيلسوفا ورجل دولة، ويعتبر مؤسسا لعلم الاجتماع، فضلا عن كونه كان حافظا للقرآن ولغويا وفقيها. والسؤال الذي يتعين طرحه في هذه الحقبة: من هو يوسف القرضاوي مقارنة بهؤلاء حتى يشرف على مؤتمر عن تجديد الفقه السياسي؟ وإن لا تصح المقارنة بدعوى أننا في عصر مختلف عن العصر الذهبي، فهل يصح غض الطرف عن أهمية الفكر الموسوعي والاختصاص العلمي في مجال النهوض بالفكر الإسلامي عموما؟
إنّ مقارنة بسيطة بين منهجية الفكر الغربي (اليهومسيحي) المعاصر ومنهجية الفكر الإسلامي المعاصر تؤكد لنا أنّ الكنيسة، المعروفة تاريخيا بانغلاقها على نفسها من حيث انفرادها بسلطة الحوكمة الدينية، هي التي نراها خرجت إلى الشارع إن صح التعبير. بينما يتبين لنا من خلال نفس المقارنة أنّ الإسلام، المعروف عنه بأن لا "كنيسة" فيه، قد أقيمت له "كنيسة"، وهي التي تتجسد في المؤتمرات مثل الذي نتحدث عنه. على سبيل المثال نذكر أنّ الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (الأب) قد "أفتى" باسم الرب لما يسمى ﺑ"عاصفة الصحراء" ولضرب العراق في سنة 1991، قبل أن يأتي دور جورج بوش الابن ﻟـ"يفتي" هو بدوره باسم الرب لضرب أفغانستان واحتلالها ثم لاحتلال العراق في سنة 2003. والحال أنّ لا الأب ولا الابن كان كاهنا أو قديسا أو البابا. وعلى سبيل الذكر أيضا، نلاحظ أنّ سياسيين أمريكيين من أمثال ماكين و ليبرمان يمارسون صلاحيات فقهية في تجديد وفي تطبيق الفكر السياسي اليهومسيحي ذات آثار مباشرة على سياسة بلادهم وعلى واقع البلدان التي يطبقون فيها هذا الفكر المجدد. كما يمارس الفرنسي برنار هنري ليفي منذ مدة ما يسمى بالفلسفة الجديدة ويطبقها من أجل مزيد من تجزئة الوطن العربي وكسر أواصر التعاون بين المجتمعات العربية. ويأتي التجديد الغربي أيضا من عند البريطاني برنارد لويس الذي يهدف إلى تفتيت العالم العربي الإسلامي ودعم سياسات كبرى مثل المشروع الأمريكي الامبريالي "الشرق الأوسط الكبير". بينما في المقابل نسجل تورط الفكر الإسلامي المعاصر في حبس الإسلام في ندوات ومؤتمرات لا تغني من جوع. بل إن هذه التظاهرات توحي بأنّ هذا الفكر صار يحاكي المنهجية اليهومسيحية الأصلية والتي تتمثل في النأي بالدين عن الواقع المعيش بينما الكل يعلم أنّ الأديان جاءت، على مرّ العصور، لتصلح الإنسانية وفكرها ولتقضي على الفساد بحسب العصر الذي جاءت فيه.
في ضوء هذا لا يسعنا إلا أن نسجل انتقال العقلانية الدينة كضرب من ضروب الواقعية التي أثبتت نجاعتها في تسيير الشأن العام في العصر الذهبي، بفضل الفكر الموسوعي وتقاطع المعرفة الدينية مع المعرفة الدنيوية، من مزية عربية إسلامية إلى خصلة غربية. وبسبب هذا نأمل أن تراجع النخب في بلاد العرب والمسلمين منهجيتها الاجتهادية، وذلك أولا بأن تعود إلى رشدها بعد أن تتخلص من الاستلاب للغرب، وثانيا بتسهيل انفتاح الفكر الديني على العلوم الإنسانية والاجتماعية، وعلى الفنون والآداب، حتى يكون التجديد شاملا، وحتى يكون التجديد في الفقه السياسي ثمرة من بين عديد الثمار الأخرى للتجديد العام، لا محركا معاقا للتجديد، كما تريده لنا الندوات والمؤتمرات.
أخيرا وليس آخرا، رجاؤنا أن يكف المشايخ وكذلك الإعلام في المجتمع العربي الإسلامي عن الاستخفاف بقيمة مثل قيمة المواطنة حيث إنهم يقدمونها من جهة على أنها تجسيد سامٍ للحداثة، لكنهم من الجهة الأخرى يوصدون، بعدوانية غير مسبوقة، الباب الذي يؤدي إلى تحديثها في أصولها الثقافية الدينية. إذن متى سيتفطن المشايخ أنهم يلعبون نفس الدور الذي تلعبه العلمانية المتطرفة، رغم اعتبارهم أنّ هذه الأخيرة خصما لدودا لهم: اختزال الحداثة في اللادين، مما يساهم في إعادة إنتاج الظلام؟