لا شيء في قرارات المسؤولين الحكوميين يبشر بدعم مادي منتظر لصالح فئات الشعب المقهورة، من عاطلين وموظفين صغار ومتوسطين. جميع التصريحات التي تصدر عشية الاعلان عن القانون المالي للسنة تبعث بالإشارات إلى أن الحكامة الجيدة والمطلوبة والتي من شأنها الحفاظ على التوازنات المالية الضرورية للمحافظة على استمرار الأمن المالي للدولة، وتحصينه من الأيادي الممدودة إليه لتنهشه من كل المتضررين ماديا من الذين تلقوا الوعود بأن أحوالهم ستتحسن وسيتم إنقاذ ما يمكن إنقاذه لكي لا تفقد الأسر المغربية توازنها الضروري للإبقاء على توازن المجتمع، بما يعنيه من استقرار نسبي لأحوالها الاقتصادية والمعنوية. جميع هذه التصريحات تدعو إلى تهيئ الناس لتقبل سياسة مالية مقبلة لا يمكن أن تغامر بفقد ثقة المراكز المالية العالمية والمحلية من أجل تلبية مطالب اجتماعية على الشعب أن يتفهم عدم الاستجابة لها والحفاظ على صورة المغرب الوفي لالتزاماته وتعهداته في مجال التعامل المالي مع كل تلك المراكز ولعدم رهن مستقبل الأجيال القادمة. إن الجيل الحالي الذي اكتوى ويكتوي بنار سياسة التقشف المزعومة والذي يعتبر نفسه ضحية سياسات الحكومات السابقة التي ظلت على مدى عقود تردد نفس الكلام. جيل لا يعيش رغد العيش الذي وعدوه به في الماضي هو الآن يؤدي الثمن بتأديته، من عسر أحواله، لكل الأقساط الشهرية والسنوية لتسديد ديون الدولة مما اقترضته من مليارات الدراهم أمنت بها الفئة المحظوظة القليلة مستقبلها ومستقبل أبنائها للعيش في رفاهية يمجها منطق العدالة الاجتماعية، بينما الغالبية من الشعب تعيش الحرمان.
إن المواطن العادي لا يفهم ولا يمكن أن يتفهم هذا المنطق الذي تتأسس عليه هذه الحكامة الضرورية للانقاذ والحفاظ على التوازنات، بينما هو يشعر في كل لحظة أنه يفقد توازنه وتوازن الأسرة التي يعيلها أو هو عالة عليها.
المواطن العادي لم يعد قادرا على رؤية التناقض الاجتماعي المتمثل في التمايز بين الفئات الاجتماعية؛ بين فئة وطبقة تكاد تعتقد وتريد أن يعتقد معها الآخرون بأنها خلقت لتكون غنية ومترفة تقتني ما تشاء، ولها القدرة على شراء كل ما ترغب فيه وتعيش حياتها متلذذة بتبذير الأموال بصورة تبعث على التعجب والاندهاش. كيف يمكن أن ينفق شخص ثري أو أحد أبنائه في اليوم أو الليلة ما يساوي قيمة الأجرة الشهرية لعشرة موظفين بالحد الأدنى للأجور، وكيف يمكن تقبل سماع أجور تفوق مائتا ألف درهم وركوب سيارات بثلاث أضعاف القيمة واقتناء ثلاثة مساكن أو أكثر: واحد في المدينة، وآخر على الشاطئ، وثالث جنب ضيعة في البادية، والأسفار والرحلات إلى خارج البلاد هي بعدد زيارات أهل البوادي المساكين لأسواقهم الأسبوعية، ولم يعد يرقهم المنتوج الوطني في التغذية واللباس والأثاث ولهذا أصبح "الشوبينغ" من الخارج عادة متحكمة، أما أعراسهم وحفلاتهم فإنها من العظمة والأبهة و"بَذِرْ ولا تسأل".
وليس ذكر هذا مما يُرد عليه عادة من طرف هؤلاء القوم "اللهم لا حسد" أو أنها فيض من غيض "اشتراكي" أو "شيوعي بئيس"، بل إن ذكره جاء للرد على من يعيشونه وهم الذين يحاولون إقناع المواطن المغلوب على أمره بمزيد من حسن تدبير ما يتقاضاه من حد أدنى للأجر، إن كان له ما يتقاضاه من أجر، بينما هم المبذرون الحقيقيون الذين لا ينتبهون إلى انفصام شخصيتهم، وهم يقولون للمواطنين ما لا يفعلون ولا يستطيعون، ولينظروا إلى معلميهم وأساتذتهم في الدول المتقدمة كيف يحكمون وكيف يعيشون.
يكاد عقل المتأمل في ظروف المغرب الاجتماعية أن يصاب بالذهول حينما تصدمه أحوال الفئتين، الغنية والفقيرة، وما بينهما من فرق وتفاوت واختلاف، ويزداد الذهول ومعه التحسر حين يصل هذا المتأمل بعد البحث في أصول الطبقة الغنية في المغرب إلى حقيقة مفادها أن ما أوصل هذه الطبقة إلى مرتبة الغنى ليس بسبب إرث عن أجداد نبلاء، أو استثمار في آبار النفط، أو غيرها من المعادن النادرة والنفيسة، بل ما أوصلها إلى ما هي فيه هو عملها الإداري وما وفره لها في "ظل اقتصاد الريع" من فرص الغنى عبر التعاطي إلى أسهم العقار بالدرجة الأولى والتربح من خيرات أعماق البحار والاستفادة مما يعقده هؤلاء الذين تولوا أمور تدبير شؤوننا سياسيا وإداريا وقضائيا، مما يعقدونه من صفقات كبرى في كل مجالات التجارة ليلا وليس نهارا، صمتا وليس جهارا.
هؤلاء القوم هم من يستثمرون بواسطة الإدارة والسياسة وبتعاون مع الأبناك في كل مجالات العقار والنقل والصناعة والتجارة الداخلية والخارجية والسياحة والفلاحة والصيد البحري وتربية المواشي والتعليم الخصوصي، وخلقوا لكل هذا أسواقا اقتصادية متنوعة الأنشطة ومتعددة المجالات وغير خاضعة لأي ميكانيزم واضح ومضبوط في إطار نظام اقتصادي ليبرالي مشوه لا يستجيب لمتطلبات النشاط الاقتصادي المشروع والمقنن واحترامه لقوانين التأسيس وشروط العمل والانتاج وقانون الشغل وأداء الضرائب.
لقد تعود الناس رأسماليين وعمال على العيش في كنف اقتصاد كهذا، غير واضح المعالم والحدود. بينه وبين القوانين مسافة يفرضها رجال الأعمال أنفسهم والذين هم أعضاء الحكومة ورؤساء المؤسسات التابعة للدولة أو غير التابعة لها والبرلمانيين ورؤساء الجماعات والمقاطعات. وحتى الأغنياء من أصحاب المقاولات الكبرى والمتوسطة والأراضي الفلاحية الشاسعة تم استدعاؤهم لكي ينخرطوا في النشاط السياسي عبر الانتخابات المحلية والبرلمانية، بل إنهم أخذوا مواقع متقدمة في كل الأحزاب باعتبارهم أعوانا فرضت المرحلة استقطابهم لضمان فوز الحزب بأكبر عدد من المقاعد، وهم في غالبيتهم يعانون فقرا ثقافيا وتدنيا في المستوى التعليمي، بالإضافة إلى عدم تمكنهم من ثقافة جمعوية تضامنية ومواطنة، إلا ما تعلموه وثقفوه في خضم احتكاكهم برجال الدولة والسلطة الذين يعتبرون سندهم وضامنو نجاحهم في مغامراتهم الانتخابية السياسية.
وإذا كان انبثاق هذه النخبة الرأسمالية وتجذرها في عالم المال والأعمال بسبب الانخراط في عالم السياسة والانتخابات والجمعيات الكبرى التي تعلن ولاءها الداعم للدولة وسياستها، فإن جيلا آخر بدأ في الظهور وبدا طموحه في منافسة هذه النخبة في مواقعها، إلا أنه اصطدم بامتلاء حافلة دعم الدولة، فما كان عليه إلا أن امتطى حافلة الدعم من طرف مجتمع الجهل والأمية والفقر، ويتحول إلى تاجر تحت يافطة "الصحوة الاسلامية" المنشودة للمجتمع مقابل اتخاذه سوقا لترويج بضاعته الفكرية المطلوبة والمهربة من الشرق ودول الخليج العربي. وفي ظرف عقدين من الزمن والعمل استطاعت جماعات النشطاء الاسلاميين في مجال المتاجرة بالدين أن تتحول إلى جماعات رأسمالية راكمت رصيدا من الموالين والأتباع سيبوئونها أمكنة ومواقع قيادية في الحزب الإسلامي، وفي مناصب رئاسة الجماعات، وحيازة غالبية المقاعد في البرلمان ومؤسسات العمل الاسلامي الثقافي والخيري وتنظيم الأسفار والرحلات إلى الحج والأماكن المقدسة .
ولا غرابة في أن يصبح إسم "الحاج" مقترنا في أذهان المغاربة بالشخص الميسور الحال القادر على حل المشكلات الاجتماعية للناس الضعفاء.
ولقد استفاق اليوم كل اولائك الموالين والأتباع وأدركوا، وهم يشعرون شعور المغرر به بأن لا فرق بين حزب إسلامي وغيره فيما يتعلق بحل مشاكله الاجتماعية بل ولقد أجبروا على الاقتناع بصواب سياسة الحكامة المالية الضرورية.
إن ما يمكن استنتاجه بعد هذا العرض المتواضع للأصول المادية والمالية لبرجوازيتنا القديمة منها أو الصاعدة، هو أنها المسؤولة عن المدخرات بمسؤوليتها السياسية والإدارية والتشريعية التي تفرض تحملها لمسؤوليتها الأخلاقية تجاه فئات الشعب الحائرة والمقهورة. فهل يكفي إقناع هذه الفئات المنتظِرة من الشعب بأن الحكامة المالية الضرورية المزمع تطبيقها هي الإجراء الحتمي والوحيد في معالجة الخصاص أم أن هناك حكامة أخرى مُغَيبة ومقتولة هي ما يمكن أن نطلق عليها، أمام أزمات ومآسي وانتظارات هذه الفئات المقهورة من الشعب، اسم حكامة الضمير.
إن المواطن العادي لا يفهم ولا يمكن أن يتفهم هذا المنطق الذي تتأسس عليه هذه الحكامة الضرورية للانقاذ والحفاظ على التوازنات، بينما هو يشعر في كل لحظة أنه يفقد توازنه وتوازن الأسرة التي يعيلها أو هو عالة عليها.
المواطن العادي لم يعد قادرا على رؤية التناقض الاجتماعي المتمثل في التمايز بين الفئات الاجتماعية؛ بين فئة وطبقة تكاد تعتقد وتريد أن يعتقد معها الآخرون بأنها خلقت لتكون غنية ومترفة تقتني ما تشاء، ولها القدرة على شراء كل ما ترغب فيه وتعيش حياتها متلذذة بتبذير الأموال بصورة تبعث على التعجب والاندهاش. كيف يمكن أن ينفق شخص ثري أو أحد أبنائه في اليوم أو الليلة ما يساوي قيمة الأجرة الشهرية لعشرة موظفين بالحد الأدنى للأجور، وكيف يمكن تقبل سماع أجور تفوق مائتا ألف درهم وركوب سيارات بثلاث أضعاف القيمة واقتناء ثلاثة مساكن أو أكثر: واحد في المدينة، وآخر على الشاطئ، وثالث جنب ضيعة في البادية، والأسفار والرحلات إلى خارج البلاد هي بعدد زيارات أهل البوادي المساكين لأسواقهم الأسبوعية، ولم يعد يرقهم المنتوج الوطني في التغذية واللباس والأثاث ولهذا أصبح "الشوبينغ" من الخارج عادة متحكمة، أما أعراسهم وحفلاتهم فإنها من العظمة والأبهة و"بَذِرْ ولا تسأل".
وليس ذكر هذا مما يُرد عليه عادة من طرف هؤلاء القوم "اللهم لا حسد" أو أنها فيض من غيض "اشتراكي" أو "شيوعي بئيس"، بل إن ذكره جاء للرد على من يعيشونه وهم الذين يحاولون إقناع المواطن المغلوب على أمره بمزيد من حسن تدبير ما يتقاضاه من حد أدنى للأجر، إن كان له ما يتقاضاه من أجر، بينما هم المبذرون الحقيقيون الذين لا ينتبهون إلى انفصام شخصيتهم، وهم يقولون للمواطنين ما لا يفعلون ولا يستطيعون، ولينظروا إلى معلميهم وأساتذتهم في الدول المتقدمة كيف يحكمون وكيف يعيشون.
يكاد عقل المتأمل في ظروف المغرب الاجتماعية أن يصاب بالذهول حينما تصدمه أحوال الفئتين، الغنية والفقيرة، وما بينهما من فرق وتفاوت واختلاف، ويزداد الذهول ومعه التحسر حين يصل هذا المتأمل بعد البحث في أصول الطبقة الغنية في المغرب إلى حقيقة مفادها أن ما أوصل هذه الطبقة إلى مرتبة الغنى ليس بسبب إرث عن أجداد نبلاء، أو استثمار في آبار النفط، أو غيرها من المعادن النادرة والنفيسة، بل ما أوصلها إلى ما هي فيه هو عملها الإداري وما وفره لها في "ظل اقتصاد الريع" من فرص الغنى عبر التعاطي إلى أسهم العقار بالدرجة الأولى والتربح من خيرات أعماق البحار والاستفادة مما يعقده هؤلاء الذين تولوا أمور تدبير شؤوننا سياسيا وإداريا وقضائيا، مما يعقدونه من صفقات كبرى في كل مجالات التجارة ليلا وليس نهارا، صمتا وليس جهارا.
هؤلاء القوم هم من يستثمرون بواسطة الإدارة والسياسة وبتعاون مع الأبناك في كل مجالات العقار والنقل والصناعة والتجارة الداخلية والخارجية والسياحة والفلاحة والصيد البحري وتربية المواشي والتعليم الخصوصي، وخلقوا لكل هذا أسواقا اقتصادية متنوعة الأنشطة ومتعددة المجالات وغير خاضعة لأي ميكانيزم واضح ومضبوط في إطار نظام اقتصادي ليبرالي مشوه لا يستجيب لمتطلبات النشاط الاقتصادي المشروع والمقنن واحترامه لقوانين التأسيس وشروط العمل والانتاج وقانون الشغل وأداء الضرائب.
لقد تعود الناس رأسماليين وعمال على العيش في كنف اقتصاد كهذا، غير واضح المعالم والحدود. بينه وبين القوانين مسافة يفرضها رجال الأعمال أنفسهم والذين هم أعضاء الحكومة ورؤساء المؤسسات التابعة للدولة أو غير التابعة لها والبرلمانيين ورؤساء الجماعات والمقاطعات. وحتى الأغنياء من أصحاب المقاولات الكبرى والمتوسطة والأراضي الفلاحية الشاسعة تم استدعاؤهم لكي ينخرطوا في النشاط السياسي عبر الانتخابات المحلية والبرلمانية، بل إنهم أخذوا مواقع متقدمة في كل الأحزاب باعتبارهم أعوانا فرضت المرحلة استقطابهم لضمان فوز الحزب بأكبر عدد من المقاعد، وهم في غالبيتهم يعانون فقرا ثقافيا وتدنيا في المستوى التعليمي، بالإضافة إلى عدم تمكنهم من ثقافة جمعوية تضامنية ومواطنة، إلا ما تعلموه وثقفوه في خضم احتكاكهم برجال الدولة والسلطة الذين يعتبرون سندهم وضامنو نجاحهم في مغامراتهم الانتخابية السياسية.
وإذا كان انبثاق هذه النخبة الرأسمالية وتجذرها في عالم المال والأعمال بسبب الانخراط في عالم السياسة والانتخابات والجمعيات الكبرى التي تعلن ولاءها الداعم للدولة وسياستها، فإن جيلا آخر بدأ في الظهور وبدا طموحه في منافسة هذه النخبة في مواقعها، إلا أنه اصطدم بامتلاء حافلة دعم الدولة، فما كان عليه إلا أن امتطى حافلة الدعم من طرف مجتمع الجهل والأمية والفقر، ويتحول إلى تاجر تحت يافطة "الصحوة الاسلامية" المنشودة للمجتمع مقابل اتخاذه سوقا لترويج بضاعته الفكرية المطلوبة والمهربة من الشرق ودول الخليج العربي. وفي ظرف عقدين من الزمن والعمل استطاعت جماعات النشطاء الاسلاميين في مجال المتاجرة بالدين أن تتحول إلى جماعات رأسمالية راكمت رصيدا من الموالين والأتباع سيبوئونها أمكنة ومواقع قيادية في الحزب الإسلامي، وفي مناصب رئاسة الجماعات، وحيازة غالبية المقاعد في البرلمان ومؤسسات العمل الاسلامي الثقافي والخيري وتنظيم الأسفار والرحلات إلى الحج والأماكن المقدسة .
ولا غرابة في أن يصبح إسم "الحاج" مقترنا في أذهان المغاربة بالشخص الميسور الحال القادر على حل المشكلات الاجتماعية للناس الضعفاء.
ولقد استفاق اليوم كل اولائك الموالين والأتباع وأدركوا، وهم يشعرون شعور المغرر به بأن لا فرق بين حزب إسلامي وغيره فيما يتعلق بحل مشاكله الاجتماعية بل ولقد أجبروا على الاقتناع بصواب سياسة الحكامة المالية الضرورية.
إن ما يمكن استنتاجه بعد هذا العرض المتواضع للأصول المادية والمالية لبرجوازيتنا القديمة منها أو الصاعدة، هو أنها المسؤولة عن المدخرات بمسؤوليتها السياسية والإدارية والتشريعية التي تفرض تحملها لمسؤوليتها الأخلاقية تجاه فئات الشعب الحائرة والمقهورة. فهل يكفي إقناع هذه الفئات المنتظِرة من الشعب بأن الحكامة المالية الضرورية المزمع تطبيقها هي الإجراء الحتمي والوحيد في معالجة الخصاص أم أن هناك حكامة أخرى مُغَيبة ومقتولة هي ما يمكن أن نطلق عليها، أمام أزمات ومآسي وانتظارات هذه الفئات المقهورة من الشعب، اسم حكامة الضمير.