حكاية متقاعدي الإنعاش الوطني بالمغرب


بنمحمد عبدالرزاق
الاثنين 11 يوليو/جويلية 2011


من الغرابة أننا لانزال نسمع ونحن نعيش تحولات القرن 21،عن متقاعدين مغاربة أنهوا سنوات العمل بجانب السلطات العمومية ولا يستفيدون من معاشاتهم، إنهم العمال الذين كانوا يشتغلون سابقا في قطاع الإنعاش الوطني، أو ما يصطلح عليه الاقتصاديون بالبطالة المقنعة التي حاولت الدولة المغربية أن تحشر من خلاله هؤلاء في ذلك النفق المظلم الذي يؤدي بهم حتما إلى الإنتحارالبطيء، أو الإعلان عن تأجيل الوفاة، هذا القطاع الذي ضم منذ السنوات الأولى من الاستقلال، الملايين من العمال والعاملات الغير مؤهلين والذين لا يخضعون لأي قانون شغل في العالم ، فلا هم مياومون ولا هم مؤقتون ولا مستخدمون ولا هم أجراء يستطيعون أن يسلكوا الطرق القانونية التي تمكنهم من الدفاع عن حقوقهم المهضومة


فمن باب الإنصاف أن أتحدث اليوم عن متقاعدين مغاربة، يخضعون لأغرب نظام تقاعد في عرفته الإنسانية منذ زمن العبودية. نعم أقولها وأعيدها بأن هؤلاء يخضعون اليوم لأغرب تقاعد لا يمكن أن نجد له نظيرا في العالم، إنهم متقاعدوا الإنعاش الوطني الذين ينهون سنوات عملهم بدون معاشات ولا تعويضات ولا إكراميات، والذين يشتغلون لحدود 80 سنة من عمرهم في جميع الأشغال المحرجة التي توفرها السلطة لهم، ولفترة عمل يومي تتراوح سنواته بين36و40 سنة، دون حقهم في الإستفادة من إجازة المرض أو العطلة أو الإستراحة، وفي النهاية يغادرون عملهم بصمت وبهدوء إلى البيت أو القبر دون أن تقدم لهم السلطات المحلية كلمة شكر على تطوعهم في هذا العمل الذي يعطي لمدننا النقاء والصفاء والجمال، واحترام البيئة والطبيعة ، فكيف لها أن تمنحهم حقوقهم المشروعة.

وليعذرني السيد وزير الداخلية المغربي، إن تجرأت اليوم وطرقت هذا الباب المهجور والمنسي من ذاكرة صناع القرار في بلادنا، فعمال الإنعاش هم مواطنون مغاربة يحملون نفس الجنسية التي تستفيد منها، ويحملون بطاقات تثبت مغربيتهم، لكن جار الزمان عليهم كما جار علينا جميعا، وحرمتهم الدولة من متعة الحياة وأجمل اللحظات مع أسرهم وعائلاتهم، واستغلتهم السلطات المحلية عبر مدن المملكة لعمل أي شيء ، وامتهان كل الحرف القاسية.

كانت بداية عمال الإنعاش الوطني في المغرب كالعبيد، بطاقة الرشم اليومي تثبت شخصيتهم داخل الأوراش، وأعمال يومية شاقة يقابلها كل 15 يوما كيس طحين، وقنينة زيت هدية من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الشعب المغربي، يتفاوت توزيعها بتفاوت ضمير المسؤول المتحكم في توزيع الأرزاق على هؤلاء الفقراء. ليتطور الأمر بعد فضائح السرقات والتلاعبات والاختلاسات في المواد التي كانت توزع على عمال الإنعاش الوطني ويتحول إلى مساعدة مالية زهيدة لا تعكس مجهود هؤلاء، ولا تكفي بالكاد تلبية أبسط المتطلبات في حياتهم.

معظم هؤلاء العمال فضل اللجوء إلى العمل في الإنعاش الوطني، ولو بتلك الشروط المجحفة واللا إنسانية بديلا عن التسول، أو السرقة أو امتهان حرف أكثر انحطاطا للكرامة الإنسانية، وانخرطوا في العمل في كل المجالات ، داخل الإدارات العمومية، يكنسون الطرقات، يعملون في الحدائق العمومية، يعملون في كل مجال يعتبره المسؤولون المحليون أنه عمل خاص بفئة معينة من محتاجي البلاد، وأصناف بشرية أخرى قدر لها ألا تحترم إنسانيتها داخل وطنها خلال عقود من الزمن وإلى اليوم.

ولابد من التذكير هنا أن العديد من المسؤولين الوطنين والمحليين قد راكموا الأموال الطائلة من هذه العملية التي كانت لا تخضع لأية مراقبة، والذين أصبحوا اليوم من كبار المقاولين والسياسيين والخطباء والنصحاء في البلاد بفضل هذه العملية الانتهازية وغيرها، فالنصب والاحتيال وسرقة المال العام مجالات لا حدود لها في بلادنا وهذا أمر أصبح معروفا لدى الجميع.
لكن ما يحز في نفس كل مواطن حر في بلدي، هو أن يحرم هؤلاء العمال الذين قضوا جل أعمارهم داخل مؤسسة الإنعاش الوطني، بقساوتها ولحظات فرحها، من الاستفادة من أية حقوق إنسانية، كيفما كانت قيمتها، تساعدهم على قضاء ما تبقي من حياتهم مع العوز والمرض، وحياة الشيخوخة القاسية.

و ما يحز في النفس أيضا ويدعوا إلى القلق ، هو وجود شريحة واسعة ممن يعمل في هذا القطاع من المتعلمين وحاملي الشهادات العليا والمتوسطة والذين تنطبق عليهم نفس الإجراءات التي تنطبق على باقي العمال في قطاع الإنعاش، فهم في الظاهر يحملون صفة موظفين ، ملتزمون كغيرهم باحترام أوقات العمل، يعملون أكثر من الموظفين الرسميين، وأحيانا في ظروف غير محترمة، ولا تمكنهم ظروفهم الإدارية من الاحتجاج خوفا من فقدان ذلك المنصب الخيالي المسجل في الإدارة بقلم الرصاص......مقابل هذا الحيف نجد أن هناك زوجات وقريبات وخادمات بعض رؤساء المجالس الجماعية، وبعض النواب في البرلمان، وبعض المسؤولين في الوزارات والإدارات العمومية، لم يسبق لهن أن ولجن المدارس التعليمية على الإطلاق، ولم يجلسن ولو مرة واحدة على كرسي الإدارة، وقد تم إدماجهن في سلك موظفي الجماعات المحلية ووزارة التعاون ووزارة الثقافة، في السلم 10و11، ويتقاضين التعويضات والإتاوات وهن قاعدات في منازلهن، ولا يظهرن إلا في المناسبات الرسمية، وفي حفلات النفاق السنوية ليعبرن بدورهن عن إخلاصهن للوطن وللملك ، في حين أن استغلال النفوذ الذي يمارسنه، وأكل المال العام بالطرق الملتوية، يعتبر مظهرا من مظاهر حب الوطن في بلادنا وإخلاصا للملك،( إنهن ما يعرف عند السياسيين والنقابيين والجمعويين بالموظفين الأشباح) .

في يوم 01/07/2011، التقيت صدفة برجل عجوز يجلس على قارعة الطريق ليعيد بعضا من أنفاسه، أخبرني أنه عاد للتو من مركز الاقتراع على الدستور بمدرسة الضيعة النموذجية بفاس بعد أن أدى واجبه لوطن لم يعترف به بعد، عجوز يتراوح عمره بين 80 سنة و90 سنة، أثارني حاله، وظروفه الصحية التي تدعوا إلى القلق، سألته إن كان في حاجة إلى مساعدتي له، ابتسم وشكرني على موقفي الإنساني النبيل، وبعد حديث بسيط متبادل دار بيننا عن الأصل والفصل والعائلة والقبيلة والمدينة والعمل، أخبرته أنني متقاعد من قطاع السكك الحديدية، فسألته عن عمله السابق، فأخبرني أن ظروف الجفاف الذي ضرب المغرب في سنوات السبعينات، أرغمته على الرحيل من القرية إلى المدينة، الشيء الذي جعله يبحث عن العمل في الإنعاش الوطني للحصول على لقمة عيش لعائلته التي تنتظره، رغم الشروط المجحفة التي كان يشترطها مشغلوا الإنعاش الوطني آنذاك.

كان من حظ هذا الرجل أن اختير للعمل داخل أسوار القصر الملكي بمدينة فاس، حيث كان يعمل كل شيء يطلب منه، لكن أغلب الوقت كان يمر العمل في كنس الحدائق الداخلية للقصر وجمع الأوراق الذابلة، ونقش الأزهار والورود ،وجذب الأشجار، ورغم كل هذا العناء اليومي فقد كانت أجرة الإنعاش الوطني ضعيفة للغاية، اللهم إلا المساعدة بكبش عيد الأضحى التي كان مسؤولوا القصر الملكي يقدمونه لجميع العمال الذين يعملون داخله، إنه خروف العيد الذي كان يعتبره العمال بأنه علامة رضي من الملك الراحل الحسن الثاني عليهم وعلى عملهم الجاد، مرت السنوات تطوي السنوات، وهو يعمل داخل القصر، دون تعويضات عائلية، ولا عطلة سنوية، ولا إجازات مرضية، ولا أمل له في الحياة بعد التقاعد، لمدة تفوق 35 سنة، حتى جاء أحد أيام سنة 2005 حيث استدعى هو ومجموعة من العمال من طرف مشغلهم، ليقدم لهم أجرة الأيام التي اشتغلوا بها داخل القصر، وكانت هي الأجرة الأخيرة ، ثم أمرهم بالانصراف إلى بيوتهم، لأنه لم تعد الحاجة إلى عملهم مستقبلا. كان يحدثني العجوز بلهجة كلها أسف وحسرة على تلك السنوات التي ضاعت من عمرهم، وكأن تلك الحادثة وقعت للتو، وذكرني بأنه أحس لأول مرة في حياته بالدونية أمام نفسه، وبالإحراج أمام عائلته التي لازالت تعتمد عليه لأنه هو المعيل الوحيد لها ، والمعتمد عليه لبقائها على قيد الحياة.

حاول الشيخ برفقة مجموعة من زملائه المتضررين لملمت أشيائهم، والاعتماد على الله، باتخاذ مبادرة جريئة والكتابة إلى الجهات المسؤولة لإنصافهم، ورفع الضرر عنهم، خصوصا أن معظمهم أصبح يعاني من أمراض الشيخوخة، والأمراض المزمنة التي لا تساعدهم على متابعة قضيتهم التي تحتاج إلى الجهد والمال والتدخلات وغير ذلك من شروط الإدارة المغربية، لكن محاولاتهم هاته ذهبت سدى، خصوصا أنهم راسلوا والي مدينة فاس ، وعامل الإقليم، والسيد عمدة فاس ورئيس المجلس بلديتها، حيث كان الصمت وعدم الرد هو السمة التي ميزت موقف هؤلاء.
الجميل في أمر هذا العجوز هو تشبثه بالأمل،" حيث قال بالحرف" أعرف أن الملك محمد السادس لو اضطلع على ملف عمال الإنعاش الوطني لأنصفهم، ومنحهم حقهم الإنساني بالحياة في وطنهم بكرامة وعزة كما يعيشها الآخرون."
وقفة سابقة للمتقاعدين أمام البرلمان

مقالات ذات صلة