لا أدري إن كان إسمي يعني لك شيئاً الآن. غير أنه كان وما يزال يعني أشياء كثيرة بالنسبة لأجندتك المجنّدة خلال أولى مراحل تمرّنك على العمل السياسي الميداني. كان ذلك قبل وفاة الملك الرّاحل الحسن الثاني. وقتها وقفنا في وجه بعض طموحاتك الأولية لنزعجك قليلا، ثم تزعجنا كثيراً. كنا نتصرف من حيث لم نكن نحتسب الكلفة، ولم نقدر على تقدير حجم الورطة التي أوقعتنا فيها مصادفات الحراك؛ ربما لأننا كنا شباباً في مقتبل العمر. ومع ذلك، وربّما بسبب ذلك، لم نكن نحسن مواراة الصدق حين نراه.
حاولنا مغالبتك فغلبتنا بالضربات المؤلمة فوق الحزام أحياناً وتحت الحزام أيضاً. لكن من حسن حظك ومن سوء طالعنا نحن الخاسرين لحراك سابق لأوانه أننا لم نكن قد دخلنا عصر الفايسبوك بعد. حتى الهواتف النقالة لم تكن موجودة.
لن أنسى ذلك اليوم الذي بلغك فيه من بعض مُحبي جنابك، بأني أبدد مجهودك الهادف إلى الاستقطاب الانتخابي لتنظيم يساري كان يثير شهيتك، وستلتهم منه الكثير من الأصدقاء الطيبين بعد أن أصبحت موصوفاً برجل الدولة الأقوى ومعروفا بصديق الملك.
كنا نحترمك في حدود أنك إزاء خوض معركة شرسة ضدّ قوى الإقطاع المحلي في المدينة التي قدمت من أجل خوض غمار تجربة ميدانية في تدبير شأنها المحلي، لكنك لم تستسغ لماذا لم نستجب لدعوى مؤازرتك، رغم أننا الخصوم الأكثر جذرية لذهنية الإقطاع.
بعد أن بلغتك الشكوى حول أفعالي، كان لذلك أثر على مجرى حياتي؛ بحيث ضاقت بي سبل العيش الكريم وكدت أخسر كل شيء لولا أني غالبتُ الأقدار في الأخير ومشيت في أفق لم تكن أجندتك لتدركه أو تقدر عليه : إنه طريق الفكر والقلم الحر.
عود على بدء.
عقب قدومك، روّجتَ القول بأنّ القادم إلى مدينتنا الصغيرة لتسييرها سيكون من أبرز رجال الدولة بعد الحسن الثاني. كان رأينا أن هذا الأمر لا يعنينا. بعضنا كان أكثر تطلعاً إذ رأى الفرصة سانحة للرّقص مع الكبار. أما نحن جماعة "الدّراويش"، فقد زهدنا في كل الأحلام المجانية التي وزعتها على الأحياء والأموات معا، وفضلنا أن ننآى بأنفسنا مستندين إلى حزب يساري تم تدميره وإلى صحيفة تقدمية تم توقيفها، قبل أن يصير معظمنا لقمة سائغة بين يديك. آه كم هي قوية تلك الذاكرة الأمنية التي يجيدها بعض رجال الدّولة عندنا. لم أكن عنيداً كما ينبغي ولذلك قبلت أن أعبئ مطبوع طلب الإنتقال إلى مدينة أخرى، عندما فرضت عليّ إدارتي الإقليمية ذلك في ليلة لن أنساها. كنت وحيدا ولم أجد صديقا أستشيره؛ فحتى الهواتف المحمولة لم تكن موجودة بعد. لكني في لحظة خاطفة ارتأيت الانحناء قليلا ريثما أعيد بناء ذاتي في صمت وبنفس طويل. وهكذا كان.
لا أدري إن كانت أسماء ضحايا أجندتك المبكرة ما تزال تعني لك شيئا أم لا. لكن دعني أقول لك الآن بأن بعض توصياتك على هامش بداية دخولك معترك الصراع السياسي، وفي لحظة غضب ربما كانت عابرة أو أنها معبرة، كلفتني وكلفت الكثير من أصدقائي تكالباً سرق منا كل نجاحاتنا المستحقة وأوصد في وجوهنا كل أبواب الرقي الاجتماعي. إلى أن ضاقت بنا السبل ضيقاً شديداً.
خسائرنا الذاتية والأسرية والصحية كانت فادحة في معركة غير متكافئة بين الشباب الذي كناه ورجل الدولة القوي الذي صرته. كنا نخال أن منطق عقلانية الدولة سينتصر في الأخير على نوازع النفس الأمارة بالغضب والثأر والانتقام. هذا لم يحدث. كم هو غريب هذا النفس الطويل للدولة حين تود الثأر من أفراد عاديين وزائلين.
تعرّضنا للأذى بما فيه الكفاية. وأقول الآن : هذا يكفي.
أدرك بأن ذاكرة الأجندة قوية، وبأن حجم التكالب ربما ينتظر مرور هذه العاصفة الثورية، ليعود أكثر حدة وشراسة هذه المرّة.
غير أن انتفاضة شباب الفايسبوك اليوم تؤكد بأننا في هذه الحياة الزائلة هناك ما هو أكبر منا وأعظم شأناً : إنه حركة التاريخ.
هذا مجرّد تذكير، فمعذرة.
*كاتب رأي في صحيفة السفير اللبنانية
حاولنا مغالبتك فغلبتنا بالضربات المؤلمة فوق الحزام أحياناً وتحت الحزام أيضاً. لكن من حسن حظك ومن سوء طالعنا نحن الخاسرين لحراك سابق لأوانه أننا لم نكن قد دخلنا عصر الفايسبوك بعد. حتى الهواتف النقالة لم تكن موجودة.
لن أنسى ذلك اليوم الذي بلغك فيه من بعض مُحبي جنابك، بأني أبدد مجهودك الهادف إلى الاستقطاب الانتخابي لتنظيم يساري كان يثير شهيتك، وستلتهم منه الكثير من الأصدقاء الطيبين بعد أن أصبحت موصوفاً برجل الدولة الأقوى ومعروفا بصديق الملك.
كنا نحترمك في حدود أنك إزاء خوض معركة شرسة ضدّ قوى الإقطاع المحلي في المدينة التي قدمت من أجل خوض غمار تجربة ميدانية في تدبير شأنها المحلي، لكنك لم تستسغ لماذا لم نستجب لدعوى مؤازرتك، رغم أننا الخصوم الأكثر جذرية لذهنية الإقطاع.
بعد أن بلغتك الشكوى حول أفعالي، كان لذلك أثر على مجرى حياتي؛ بحيث ضاقت بي سبل العيش الكريم وكدت أخسر كل شيء لولا أني غالبتُ الأقدار في الأخير ومشيت في أفق لم تكن أجندتك لتدركه أو تقدر عليه : إنه طريق الفكر والقلم الحر.
عود على بدء.
عقب قدومك، روّجتَ القول بأنّ القادم إلى مدينتنا الصغيرة لتسييرها سيكون من أبرز رجال الدولة بعد الحسن الثاني. كان رأينا أن هذا الأمر لا يعنينا. بعضنا كان أكثر تطلعاً إذ رأى الفرصة سانحة للرّقص مع الكبار. أما نحن جماعة "الدّراويش"، فقد زهدنا في كل الأحلام المجانية التي وزعتها على الأحياء والأموات معا، وفضلنا أن ننآى بأنفسنا مستندين إلى حزب يساري تم تدميره وإلى صحيفة تقدمية تم توقيفها، قبل أن يصير معظمنا لقمة سائغة بين يديك. آه كم هي قوية تلك الذاكرة الأمنية التي يجيدها بعض رجال الدّولة عندنا. لم أكن عنيداً كما ينبغي ولذلك قبلت أن أعبئ مطبوع طلب الإنتقال إلى مدينة أخرى، عندما فرضت عليّ إدارتي الإقليمية ذلك في ليلة لن أنساها. كنت وحيدا ولم أجد صديقا أستشيره؛ فحتى الهواتف المحمولة لم تكن موجودة بعد. لكني في لحظة خاطفة ارتأيت الانحناء قليلا ريثما أعيد بناء ذاتي في صمت وبنفس طويل. وهكذا كان.
لا أدري إن كانت أسماء ضحايا أجندتك المبكرة ما تزال تعني لك شيئا أم لا. لكن دعني أقول لك الآن بأن بعض توصياتك على هامش بداية دخولك معترك الصراع السياسي، وفي لحظة غضب ربما كانت عابرة أو أنها معبرة، كلفتني وكلفت الكثير من أصدقائي تكالباً سرق منا كل نجاحاتنا المستحقة وأوصد في وجوهنا كل أبواب الرقي الاجتماعي. إلى أن ضاقت بنا السبل ضيقاً شديداً.
خسائرنا الذاتية والأسرية والصحية كانت فادحة في معركة غير متكافئة بين الشباب الذي كناه ورجل الدولة القوي الذي صرته. كنا نخال أن منطق عقلانية الدولة سينتصر في الأخير على نوازع النفس الأمارة بالغضب والثأر والانتقام. هذا لم يحدث. كم هو غريب هذا النفس الطويل للدولة حين تود الثأر من أفراد عاديين وزائلين.
تعرّضنا للأذى بما فيه الكفاية. وأقول الآن : هذا يكفي.
أدرك بأن ذاكرة الأجندة قوية، وبأن حجم التكالب ربما ينتظر مرور هذه العاصفة الثورية، ليعود أكثر حدة وشراسة هذه المرّة.
غير أن انتفاضة شباب الفايسبوك اليوم تؤكد بأننا في هذه الحياة الزائلة هناك ما هو أكبر منا وأعظم شأناً : إنه حركة التاريخ.
هذا مجرّد تذكير، فمعذرة.
*كاتب رأي في صحيفة السفير اللبنانية