سعيدة المنبهي: كتبت من السجن “إذا أهداني السجانون للموت.. تذكروني بفرح”
تخلد الحركة الحقوقية المغربية يوم الأحد الحادي عشر من ديسمبر من كل سنة ذكرى استشهاد المناضلة سعيدة المنبهي في السجن بعد إضراب عن الطعام استمر لأزيد من أربع وثلاثين يوما، لا يزال اسم سعيدة المنبهي واحدا من الأسماء التي ألهمت أجيالا من المناضلات والمناضلين، لا تزال أيقونة لمرحلة كفاح وقف في وجه الشمولية والاستبداد بكافة عناوينه وبجميع تشكلاته وتمظهراته، كانت ولا تزال رمزا للحركة الطلابية المغربية وما قدمته من شهداء في سبيل الدفاع عن حقوق المستضعفين.
ولدت سعيدة المنبهي في حي شعبي من أحياء مدينة مراكش في شهر سبتمبر من سنة 1952، بعد حصولها على الباكالوريا التحقت بشعبة الأدب الإنجليزي بكلية الآداب بالرباط، وناضلت في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (أوطم) و تزامنت هذه الفترة (1972-1973) مع الحظر التعسفي للمنظمة الطلابية من طرف الدولة المغربية.
التحقت بعد ذلك بالمركز التربوي الجهوي وتخرجت أستاذة بالسلك الأول بعد سنتين من التكوين، ودرست اللغة الإنجليزية بإحدى المؤسسات بمدينة الرباط حيث ناضلت في صفوف الإتحاد المغربي للشغل ثم انضمت لمنظمة “إلى الأمام” الثورية .
اختطفت سعيدة المنبهي في 16 يناير 1976 بمعية ثلاث مناضلات أخريات بعدما داهم زوار الليل بيتها كبلوا يديها ووضعوا عصابة على عينيها، وقضت 3 أشهر بالمركز السري “درب مولاي الشريف” الشهير باحتضان أخطر جرائم التعذيب في عهد الملك المغربي الراحل الحسن الثاني، حيث كانت تتعرض لأبشع أشكال التعذيب الجسدي والنفسي، ثم نقلت في شهر مارس إلى السجن المدني بالدار البيضاء، ليحكم عليها بخمس سنوات سجنا سجنا نافذة بتهم عديدة من ضمنها المس بأمن الدولة، بالإضافة لسنتين “لإهانة القضاء” وفرض عليها مع رفيقتيها رفيقتيها فاطمة عكاشة وربيعة لفتوح العزلة بالسجن المدني بالدار البيضاء.
خاضت سعيدة المنبهي بمعية عدد من المعتقلين والمعتقلات مجموعة من الإضرابات عن الطعام توجت بالإضراب اللامحدود عن الطعام وذلك لسن قانون المعتقل السياسي وفك العزلة عن الرفيقات وعن المناضل إبراهيم السرفاتي، وهو الإضراب الذي دام 34 يوما نقلت بعدها إلى المستشفى، ومنع عنها تناول الماء والسكر، لتفارق وبسبب الإهمال الحياة يوم 11 ديسمبر 1977 بمستشفى ابن رشد بالدار البيضاء وهي في سن 25 سنة لتخط بدمائها آخر قصائد الوفاء “سأموت مناضلة”.
لم يكن السجن ليحد من عزيمة سعيدة المفعمة بالثورية، قاومت برودة الأرض التي تلتحفها في زنزانتها وعوضته بدفيء ما كانت تكتبه من شعر، كانت تؤمن أن تحرر المرأة لن يتأتى إلا بانخراطها في النضال التحرري العام من طوق الديكتاتورية والاستبداد والاضطهاد. كانت على اتصال بالسجينات في السجن حتى المعتقلات منهن ضمن قضايا الحق العام للتعرف على أوضاع اعتقالهن، اقتربت ممن احترفن الدعارة وأنجزت تحقيقا ودراسة عن الأسباب الحقيقية الاجتماعية والمادية التي دفعتهن لذلك بل وكتبت من أجلهن قصيدة “فتيات اللذة”، واعتبرتهن نساء مضطهدات من محيطهن ومن قبل الرجال المستغلين لأجسادهن من قبل النظام السياسي الذي ألقى بالمجتمع في أحضان البؤس والفقر وبالتالي من الطبيعي أن تكون هناك دعارة، مادامت هناك أزمة على جميع المستويات.
لا زالت كلماتها حاضرة في وجدان كل حر، ولا زالت رسائلها إلى والدتها وأفراد عائلتها تتردد على ألسنة من عرف سعيدة المنبهي عن قرب. كتبت لوالديها من جحيم الاحتجاز “أبواي الأعزاء” في الوقت الذي سأقضيه بعيدة عنكما أرجوكما ألا تتألما من أجلي، إن حياتي كما قلت لكما في رسالتي السابقة تستمر وتستمر، لاشيء يخيفني.. إن شعوري نحوكم يزداد تأججا ، إلا أنني لاحظت لدى أمي لحبيبة في الزيارة شيئا من القلق وأريد من جديد أن أتوجه إليها لكي تعيد ثقتها بي، وبالمستقبل المشرق، أمي يجب أن تثقي أن وجودي في السجن لايعني بالضرورة حرماني من الحياة، إن حياتي لها عدة معان، إن السجن مدرسة وتكملة للتربية، لهذا أريد منك وكما عهدناك دائما أن تكوني شجاعة، قادرة على مواجهة كل متاعب الحياة”.
لا يزال الجميع يستحضر أدبها الثوري وكلماته ذات الوقع الذي يؤجج المشاعر: “تذكروني بفرح فأنا وإن كان جسدي بين القضبان الموحشة فإن روحي العاتية مخترقة لأسوار السجن العالية وبواباته الموصدة وأصفاده وسياط الجلادين الذين أهدوني إلى الموت. أما جراحي فباسمة، محلقة بحرية، بحب متناه، تضحية فريدة، وبذل مستميت” تقول سعيدة التي اغتيل فيها الأمل من أجل إشراقة وطن.
تقول الباحثة هند عروب في قراءة للشعر الثوري للسجينة الراحلة “إن للحب حضور لافت على مدار القصائد والرسائل، فبه قاومت وتماسكت إلى أن رحلت. فحبها لعائلتها فردا فردا، كان متفجرا في الرسائل وتفاصيل أحاديث هذه الرسائل”، ثم تضيف “لا ننكر أن دور العائلة جلي في مد جسور الرسالة، الشيء الوحيد الذي يصبر المعتقلين ويشد أزرهم. كانت سعيدة تتحدث مع أخواتها عن كيفية تربية الأولاد ومعاملتهم، عن ذكرياتها مع إخوتها ووالديها، عن أحوالها داخل السجن، حنينها واشتياقها لتقبيلهم. والجميل في رسائلها أنها هي من كانت تطمئنهم عليها”.
في نفس اليوم بعد 23 سنة… نـجـيــة أدايـــا
شاءت الصدفة والقمع المسلط على الحركات الاحتجاجية المناضلة أن تجمع روحين ثائرتين في نفس التاريخ مع فرق 23 سنة، حين التحقت نجية أدايا برفيقتها على درب الخلود سعيدة المنبهي، حين كانت الأولى تشارك في وقفة تخلد لاستشهاد الثانية بعد سنة ونيف فقط من تولي الملك محمد السادس عرش والده الراحل الحسن الثاني، وليكون يم 11 دجنبر في كلا العهدين عنوانا للمرأة المناضلة من أجل تحررها وتحرر المجتمع.
ولدت الشهيدة نجية أدايا سنة 1966 بزاوية سيدي عبد السلام القريبة من مدينة إفران، وتدرجت في تعليمها من هناك إلى أن حصلت على الباكلوريا ثم على شهادة الإجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة مولاي اسماعيل كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس سنة 1993، ثم على دبلوم في شعبة الإعلاميات بالمعهد العالي للتكنولوجيا التطبيقية بإفران.
عرفت الشهيدة نجية أدايا كمناضلة في إطار الإتحاد الوطني لطلبة المغرب طيلة السنوات الممتدة من 1987 إلى سنة 1993 تاريخ حصولها على شهادة الإجازة، لتواصل مسيرتها النضالية بعد ذلك بانتمائها للجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين بالمغرب في نهاية نفس السنة.
تحملت الشهيدة نجية عدة مسؤوليات تنظيمية داخل أجهزة الجمعية الوطنية، فقد كانت رئيسة فرع إفران، وعضوة في اللجنة الإقليمية بإفران، ثم عضوة المجلس الجهوي، كما كانت عضوة في المجلس الوطني إلى حين استشهادها.
وكان يوم 11 دجنبر 2000 اليوم الأخير في مسيرة الشهيدة النضالية حين توجهت للمشاركة في وقفة أمام البرلمان لتخليد الذكرى 23 لاستشهاد المناضلة سعيدة المنبهي، وهي الوقفة التي ووجهت بقمع شرس ومطاردات تجاوزت حدود محيط البرلمان إلى أحياء بعيدة في العاصمة.
ويحكي معارف ورفاق الشهيدة عن يوم استشهادها الذي عرف إنزالا غير مسبوق لقوات القمع التي شرعت في تهشيم عظام المشاركين في الوقفة دون رحمة، مما اضطر المشاركين إلى الانسحاب، لكن قوات القمع لم تتوقف وواصلت مطاردتها للمشاركين وكل من شكت في صلته بهم، مما اضطر مجموعة كانت ضمنها الشهيدة إلى اللجوء إلى منطقة الشاطئ وهم يعتقدون أن المطاردات لن تصل إلى هناك.
لكن شراسة القمع عمت المدينة بأكملها، ووجدت الشهيدة نفسها محاصرة هي ورفاقها على مقربة من الصخور بقوات القمع التي أغارت عليهم ولم ترحمهم، ليخلف الهجوم غرق نجية وفقدان جثتها، حتى ظهرت أشلاء بعد شهور بنواحي المهدية.