منذ سنتين ونيف لم تعرف أجور الموظفين أي زيادة، ولم يعرف الباحثون عن سكن لائق أي حل، كما لم يعرف حاملوا الشواهد أي سبيل للشغل والتوظيف. ولا زالت الأسر المغربية تعاني كل يوم من ضيق اليد، ولا تجد سندا يدعمها وهي تعيش حالات الضعف والهشاشة. الناس يكابرون، يحاولون أن يحافظوا بصبرهم الجميل على الصورة غير المخدوشة لأحوالهم الاجتماعية، لأبنائهم الذين ينبغي أن يذهبوا إلى المدارس بثياب أنيقة ومحافظ غير منقوصة من الكتب وباقي الأدوات، وأن يكون الأداء الشهري لفواتير الماء والكهرباء والمدرسة الخصوصية والبقال والجزار والجمعية في المواعيد، هم حريصون على أن يظهروا في صورة الذي يؤدي كل هذه الواجبات دون أن يظهر للناس حقيقة معاناته الداخلية ولسان حالهم يقول: "نحن نصارع الزمان بما أوتينا من عزم وقدرة ،ولهلا يحشمنا".
تعود الناس في المغرب بطبقتيه الفقيرة والمتوسطة منذ سنين على مغالبة الزمن وأيامه بأسلوب عجيب في تدبير المعيش اليومي، بالجهد الذي يوفرون به للبلاد ما أصبح يعتبر ثروتها الرئيسية ألا وهو الاستقرار الاجتماعي والسياسي وهم من حيث لا يدرون يساهمون في تنمية اقتصاد البلاد دون أن يكونوا واعين بذلك ودون أن يستفيدوا من العائدات، وأصبحت هذه الوضعية مثيرة للسؤال العريض "إلى متى سنبقى على هذا الحال؟" نداري الأيام في روتين قاهر وممل لا نرى اقلاعا حقيقيا في أي مجال من المجالات لا نراه في مجال الصناعة بحيث يغير وجه المغرب ويضمن له اكتفاء ذاتيا على مستوى حاجياته من الأدوات المصنعة وحتى الصغيرة منها وأصبحنا نخجل من أنفسنا ونحن نستورد كل شيء حتى الإبر الدقيقة والبولونات الصغيرة.
إن شعبا لا يصنع، هو شعب يعد من المجتمعات الزراعية المتخلفة والتي لا يمكن لثقافتها إلا أن تبقى خرافية ساذجة ملتصقة بالأرض دون أن تنشأ عندها القدرة على رفع رأسها إلى السماء لترى الشمس كيف تسلط نورها على العالم والنجوم كيف تظهر ليلا وتختفي نهارا. وهي أكذوبة لا ينبغي أن نستمر في الاستمتاع الوهمي بحمولتها الباعثة على الكسل والرضى على النفس "نحن أمة تنعم بالاستقرار" هي المقولة التي يجب أن نفهم منها بأننا أمة تغط في هدأة النوم اللذيذ العميق والانحدار.
فلم يعد يرق للناس اليوم هذا الاستقرار المذل. أراهم يتوقون إلى قرار ثوري يطيح بصومعة لا يعلق على إثر سقوطها الهاتف بشعار "إما أن نكون أقوياء وكبار أو لا نكون، إما أن نكون أسياد قراراتنا وسياستنا المرتكزة على مبدأ حفظ الكرامة بكل أفراد شعبنا، وليس أرضا يسودها ولاة وصلحاء ودجالين وسماسرة وتحكمها أحزاب أقصى ما تصبو إليه أن ترى مغربا مستقرا يستقطب السياح من كل نواحي العالم بينما الحرب، عند مدعي المغرب قوي باستقراره، مشتعلة في باقي دول العالم العربي الاسلامي ويكفيهم هذا الزعم لكي يقنعوا العالم بأننا البلد الاستثناء، وبناء عليه فلا يعنينا سوى أن نهيئ برامجنا ونسخر سياساتنا لحسن استقبال هؤلاء الوافدين كل صيف وكل شتاء لاحتلال الأماكن الجميلة في بلدنا.
في الطريق إلى بن جرير حيث لا يزال نبات الصبار يملأ الأراضي القاحلة يتجول مواطنون بوجوه شاحبة وعيون جاحظة، مررنا دون أن نصادف منتزها جميلا تستريح فيه العين من المناظر القاسية التي اعتاد رؤيتها القاطنون والعابرون منذ عهود التهميش للمناطق المسخوط عليها.
حين اقتربت الحافلة من مدخل مدينة مراكش بكى صاحبي لما رآى المدينة المتربعة بين الجبال العتيقة الأحجار بشعرها الغزير الأخضر المنسدل على كتفيها والذي كاد يغطي جسدها كله، تبسم صاحبي بخبث وحسرة وقال: "عروس حقا أنت جميلة، سوى أن بكارتك فضها دخيل غريب في حضرة العريس، وأنا العريس أنا العريس". إن بلدنا عروس جميلة حقا من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها ووسطها كاملة مكمولة كلها على بعض، ونحن نرمقها تزف إلى الغرباء، ولا ندري متى سنبقى في موقف المكبل الحانق اليائس. ولا أدري لماذا لم يتضمن دستورنا حق كل مواطن في سكن مريح وحق كل مواطن في شغل يضمن العيش الكريم وحق كل مواطن في الاستمتاع بجمال وطنه الخلاب وأن يكون ذلك بالنص والتطبيق، حتى يكون مواطنا تلبسه الغيرة على وطنه كما يلبس في كل عيد جلباب الفخار والعزة بين أهله وأحبته وأبناء وطنه ويركبون طيلة أيام السنة جميعا قطار السفر إلى الفضاءات المعتمة ليشعلوا فيها مصابيح الضوء المشع ويحفرون الطرق السالكة إلى كل بقعة نائية ويشيدون المدارس ويقيمون المستشفيات ويبنون المعاهد والمعامل ويقيمون صروح التنمية جميعم ويبنون العقول المفجرة لاستخراج طاقات الأراضي المنسية يدشنون كلهم مشاريع التصنيع والتعليم والبحث العلمي.
ولن يبق هناك مشكل من هو أجذر بحكم المغرب من غيره، لأن الجميع سيشمر عن ساعده ويجعل نصب عينيه صورة المغرب القوي المتحصن بقدراته وإمكاناته ورجاله ونسائه .
منذ أن خرج المواطنون في البلاد العربية يحتجون على أوضاعهم الاجتماعية، ومنذ أن خرج المغاربة ليعبروا عن رغبتهم في التغيير وبعد أن انتهز الحزب الشاطر حسن "عتج" الفرصة وأمسك بمقود السفينة ونادى في القوم :"هذه سفينة النجاة وأنا قبطانها وقائدها إلى بر الأمان بعد اضطراب دام سنينا وعقودا"، وسيصعد حكيم الوزراء ليصرح ويعلن بأن أهم منجز حققته حكومتنا الموقرة صاحبة أعظم إنجاز لم يشهده المغرب هو نعيم الاستقرار الذي افتقدته دول الربيع العربي التي غرقت في بحار من الدم والفوضى وتاهت سفينتها عن شاطئ النجاة. والفضل في هذا يرجع لغزوات الفاتحين الأشاوس المحررين للثغور المحتلة من طرف البرتغال والفرنسيس والأمريكان الذين حولوا المغاربة إلى رقيق وعبيد بعدما كانوا أسيادهم وكانت أموالهم وأمتعتهم غنائم لنا ونساؤهم جواري لنا. هم الآن ضيوف كرماء في أسرة فنادقنا وليس في غزواتهم وهم راكبين على صهوات أجساد حرماتنا من النساء إلا دليل على قدرتنا على مراجعاتنا لما كنا نعتبره فيما قبل انتهاكا لحرماتنا وأعرافنا وقيمنا الاسلامية الأصيلة، وليدرك أصحاب النوايا الحداثية المرتبصة بمشروعنا الأخلاقي النقي أننا لسنا ذوي الفكر المتحجر الذي يحرم اقتصادنا السياحي من الانتعاش من رعشات الأسرة المباحة، فالحكامة المتبصرة تبيح المحظور وتوفر كل سبل الرغبة في تحقيق كل ما يقتضيه "العيشان" في أحضان غرفنا المخملية المجهزة كما ابتكرتها أزمنة العولمة التي لا مناص من إقامة علاقة مصاهرة بينها ولابد من أن نعود لخطب ودها بعد مخاصمتها أيام سوء الفهم الكبير.
فعن أي استقرار تتحدث إيها الوزير؟ لابد أنك تقصد الاستقرار على الكراسي التي ألفتم التربع عليها، الآن فقط بدا لكم المغرب جميلا ومستقرا وأهله مسلمون حقيقيون بل إسلاميون "تبارك الله عليهم"، وعليكم أن تشملوهم برضاكم لأنهم أدركوا نيتكم في إسقاط الاستبداد والفساد، فلا استبداد أسقطموه، ولا فساد أزلتموه، بل إن أيديكم أضحت ممدودة كل يوم وبتلهف لمصافحتهما والصفح عنهما في كل فرصة سانحة وستبحران معا على متن سفينة حكومتكم المتجددة إسلاميين أحرارا ولسان حالكم يقول: "بالحضن للفساد والاستبداد، أليست السياسة هي فن الممكن، وهل هناك من ممكن آخر غير الاستبداد والفساد اللذين يضمنان الاستقرار المنشود؟؟" والحقيقة أنني لا أفهم عن أي استقرار تتحدثون، فأما غالبية المواطنين فهم لا يعرفون استقرارا ولا هم يحزنون، بل إن في كل رأس مائة مطرقة، يبدو لك المواطن المغلوب على أمره يسير على جنب الحائط بينما رأسه تهتز بزلازل وبراكين كم حاجة لم يستطع قضاءها بدءا من أبسطها إلى أعقدها، فعن أي استقرار أيها الوزير تتحدث، بينما الرؤوس تشتعل بنار الزيادة في الأسعار ونار مستلزمات الدخول المدرسي، ونار كبش عيد الأضحى، ونار الأدوية المسكنة للآلام، وهل تسمي الذي يجافيه النوم ولا يقترب منه إلا بالأقرص المنومة مواطنا مستقرا في حياته؟
إنها الحرب أيها الوزير أشعلتم نيرانها في كل مجالات الحياة، والناس مضطربون قلقون ومتوجسون تائهون، لا يركزون على هدف تعصرهم ديون الشركات البنكية وتلوي أعناقهم حاجيات أبنائهم المدرسية والمعيشية الملحة. لو كانت فيكم درة من المروءة والحس بعمق الأزمة لقدمتم استقالاتكم وخرجتم إلى الشارع لتجدوا أنفسكم منبوذين تدمدمون "ماخلاوناش نخدموا". أريد أن أعرف ولو إنجازا واحد فرج عن المواطن سواء في أجره إن كان موظفا ودعمه ببعض المال إن كان عاطلا، وفي تسهيل أي خدمة من الخدمات الضرورية في حياته اليومية، لاشيء تحقق سوى التشدق بالكلام وترديد الكلام الكاذب بأننا خلصنا المغرب من الثورة والفوضى ومنحناه الاستقرار، وكأن المغرب لم ينعم بهذا الاستقرار إلا حين شرفتم بمجيئكم إلى سدة الحكم، وكأن المغرب هو العراق أو أفغانستان. والحقيقة أن المواطن المغلوب على أمره في المغرب لن يبدأ استقراره الحقيقي ورفاهيته إلا حين تزول خرافتكم وهذا هدي عقلي ويقيني بأن مآسي المغاربة اليوم ،وخصوصا اليوم، هي حرمانهم من رؤية مشاريع النماء والتقدم وهي تتحقق على أرض الواقع راجع إلى عقبة إصراركم على أن تكونوا أصحاب الفضل فيما أنتم عاجزون عن فعله ولن تسعفكم نواياكم الحقيقية وما تخططون للوصول إليه. فرغم صراخكم فإن مكانتكم الحقيقية هي مجالسكم في دور التصوف، أما حل مشاكل المواطنين فلتتركوها لمن أدركوا كيف يمكن أن يتقدم المغرب حقا في ظل وعي وطني جديد ودستور جديد، هذا الوعي الوطني الجديد الذي يؤطره الدستور الجديد لم يعرف طريقه بعد إلى التحقق ولا زلنا نضيع الوقت.
أما النقابات فقد طال انتظار وقوفها إلى جانب من تمثلهم من عمال وموظفين كما طال انتظار وقوفها في وجه هذه الحكومة التي لم تعد تعير لمطالب فئات العاملين اهتماما وأوقفت الحوار الاجتماعي وأدخلت بصدها عن الملفات المطلبية للقطاعات الأكثر تضررا الطبقة الشغيلة إلى دوائر التذمر واليأس ولم تعد مزاعمها بأن الدولة لها ما يبرر تأجيل تلبية المطالب لما تمر به من أزمة مالية، لم تعد مزاعمها هذه كافية لثني الطبقات العاملة عن التعبير عن رفضها لهذه المزاعم وسخطها عن الحكومة التي تابع المواطنون ما حازت عليه من مليارات الدولارات خلال السنة ومن مساعدات وإعانات وقروض من دول الخليج ومن الأبناك الدولية، ومع ذلك ظلت الوضعية المالية لموظفي الجماعات المحلية مثيرة للشفقة رغم نضالاتهم المتواصلة ورغم وقفاتهم وهتافهم وصراخهم، رغم كل ذلك لم يجدوا الآذان الصاغية ولا القلوب الرحيمة وكذلك باقي القطاعات الانتاجية والخدماتية وبناء عليه يمكن القول بكل وثوقية بأنها أسوأ سنة اجتماعية عرفها الموظفون والطبقة العاملة في القطاعين العام والخاص من حيث ما لاقوه من رد فعلي حكومي سلبي وصل إلى درجة التجاهل والازدراء والتعالي والاحتقار مما يستوجب ردة فعل جماهيرية قوية تعيد الاعتبار للطبقة العاملة وتكشف عن زيف الايديولوجيا الخرافية الكذابة والمتعجرفة والتي لطالما لعبت بالعقول الساذجة من مواطنينا الذين لم يعد لديهم الصبر الكافي لإمهال من ليست قلوبهم إلا على ذويهم وأقربائهم وبعض أتباعهم الذين يعتبرون دروعهم الخلفية والأمامية، ممن يحتلون فضاءات غسل الأدمغة ويتخذون من الدفاع عن سياسة الزيادات في الأسعار ومحاربتها في الأجور وتبرير ذلك بالحفاظ على التوازنات باسم المقايسة لإظهار حسن السيرة والسلوك أمام مراقبي المالية العامة ولنيل رضا الدولة وليذهب الشعب المسكين إلى الجحيم ويكفيه فخرا أن من يدبر شؤونه هم من أنصار الإخوان في مصر وتونس النهضة وأفغانستان وكل شعوب إسلامستان وعربستان، وجزيرستان الهبة الإعلامية الربانية التي قلبت الأمور رأسا على عقب، وقلبت الأوراق ولم يعد الناس يأكلون ويشربون إلا وهم يبردون قلوبهم بما يشاهدون من صور الاحتجاجات الجماهيرية ضد ما لا يدرون ومع من يجهلون، وفي كل هذا يكمن سر سؤال المناضلين النقابيين حين يتم الاعلان عن الاحتجاج من أجل تحسين الأوضاع الاجتماعية مع من يخرجون؟
هكذا تتحول إيديولوجيا الخرافة إلى أداة قمعية ضد الجماهير المقهورة التي أصبح يكفيها أن تتلذذ بمتابعة الانتصارات الوهمية وهي متضررة وقابعة وجاهلة تعاني من كل صنوف الأمراض وجائعة.
تعود الناس في المغرب بطبقتيه الفقيرة والمتوسطة منذ سنين على مغالبة الزمن وأيامه بأسلوب عجيب في تدبير المعيش اليومي، بالجهد الذي يوفرون به للبلاد ما أصبح يعتبر ثروتها الرئيسية ألا وهو الاستقرار الاجتماعي والسياسي وهم من حيث لا يدرون يساهمون في تنمية اقتصاد البلاد دون أن يكونوا واعين بذلك ودون أن يستفيدوا من العائدات، وأصبحت هذه الوضعية مثيرة للسؤال العريض "إلى متى سنبقى على هذا الحال؟" نداري الأيام في روتين قاهر وممل لا نرى اقلاعا حقيقيا في أي مجال من المجالات لا نراه في مجال الصناعة بحيث يغير وجه المغرب ويضمن له اكتفاء ذاتيا على مستوى حاجياته من الأدوات المصنعة وحتى الصغيرة منها وأصبحنا نخجل من أنفسنا ونحن نستورد كل شيء حتى الإبر الدقيقة والبولونات الصغيرة.
إن شعبا لا يصنع، هو شعب يعد من المجتمعات الزراعية المتخلفة والتي لا يمكن لثقافتها إلا أن تبقى خرافية ساذجة ملتصقة بالأرض دون أن تنشأ عندها القدرة على رفع رأسها إلى السماء لترى الشمس كيف تسلط نورها على العالم والنجوم كيف تظهر ليلا وتختفي نهارا. وهي أكذوبة لا ينبغي أن نستمر في الاستمتاع الوهمي بحمولتها الباعثة على الكسل والرضى على النفس "نحن أمة تنعم بالاستقرار" هي المقولة التي يجب أن نفهم منها بأننا أمة تغط في هدأة النوم اللذيذ العميق والانحدار.
فلم يعد يرق للناس اليوم هذا الاستقرار المذل. أراهم يتوقون إلى قرار ثوري يطيح بصومعة لا يعلق على إثر سقوطها الهاتف بشعار "إما أن نكون أقوياء وكبار أو لا نكون، إما أن نكون أسياد قراراتنا وسياستنا المرتكزة على مبدأ حفظ الكرامة بكل أفراد شعبنا، وليس أرضا يسودها ولاة وصلحاء ودجالين وسماسرة وتحكمها أحزاب أقصى ما تصبو إليه أن ترى مغربا مستقرا يستقطب السياح من كل نواحي العالم بينما الحرب، عند مدعي المغرب قوي باستقراره، مشتعلة في باقي دول العالم العربي الاسلامي ويكفيهم هذا الزعم لكي يقنعوا العالم بأننا البلد الاستثناء، وبناء عليه فلا يعنينا سوى أن نهيئ برامجنا ونسخر سياساتنا لحسن استقبال هؤلاء الوافدين كل صيف وكل شتاء لاحتلال الأماكن الجميلة في بلدنا.
في الطريق إلى بن جرير حيث لا يزال نبات الصبار يملأ الأراضي القاحلة يتجول مواطنون بوجوه شاحبة وعيون جاحظة، مررنا دون أن نصادف منتزها جميلا تستريح فيه العين من المناظر القاسية التي اعتاد رؤيتها القاطنون والعابرون منذ عهود التهميش للمناطق المسخوط عليها.
حين اقتربت الحافلة من مدخل مدينة مراكش بكى صاحبي لما رآى المدينة المتربعة بين الجبال العتيقة الأحجار بشعرها الغزير الأخضر المنسدل على كتفيها والذي كاد يغطي جسدها كله، تبسم صاحبي بخبث وحسرة وقال: "عروس حقا أنت جميلة، سوى أن بكارتك فضها دخيل غريب في حضرة العريس، وأنا العريس أنا العريس". إن بلدنا عروس جميلة حقا من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها ووسطها كاملة مكمولة كلها على بعض، ونحن نرمقها تزف إلى الغرباء، ولا ندري متى سنبقى في موقف المكبل الحانق اليائس. ولا أدري لماذا لم يتضمن دستورنا حق كل مواطن في سكن مريح وحق كل مواطن في شغل يضمن العيش الكريم وحق كل مواطن في الاستمتاع بجمال وطنه الخلاب وأن يكون ذلك بالنص والتطبيق، حتى يكون مواطنا تلبسه الغيرة على وطنه كما يلبس في كل عيد جلباب الفخار والعزة بين أهله وأحبته وأبناء وطنه ويركبون طيلة أيام السنة جميعا قطار السفر إلى الفضاءات المعتمة ليشعلوا فيها مصابيح الضوء المشع ويحفرون الطرق السالكة إلى كل بقعة نائية ويشيدون المدارس ويقيمون المستشفيات ويبنون المعاهد والمعامل ويقيمون صروح التنمية جميعم ويبنون العقول المفجرة لاستخراج طاقات الأراضي المنسية يدشنون كلهم مشاريع التصنيع والتعليم والبحث العلمي.
ولن يبق هناك مشكل من هو أجذر بحكم المغرب من غيره، لأن الجميع سيشمر عن ساعده ويجعل نصب عينيه صورة المغرب القوي المتحصن بقدراته وإمكاناته ورجاله ونسائه .
منذ أن خرج المواطنون في البلاد العربية يحتجون على أوضاعهم الاجتماعية، ومنذ أن خرج المغاربة ليعبروا عن رغبتهم في التغيير وبعد أن انتهز الحزب الشاطر حسن "عتج" الفرصة وأمسك بمقود السفينة ونادى في القوم :"هذه سفينة النجاة وأنا قبطانها وقائدها إلى بر الأمان بعد اضطراب دام سنينا وعقودا"، وسيصعد حكيم الوزراء ليصرح ويعلن بأن أهم منجز حققته حكومتنا الموقرة صاحبة أعظم إنجاز لم يشهده المغرب هو نعيم الاستقرار الذي افتقدته دول الربيع العربي التي غرقت في بحار من الدم والفوضى وتاهت سفينتها عن شاطئ النجاة. والفضل في هذا يرجع لغزوات الفاتحين الأشاوس المحررين للثغور المحتلة من طرف البرتغال والفرنسيس والأمريكان الذين حولوا المغاربة إلى رقيق وعبيد بعدما كانوا أسيادهم وكانت أموالهم وأمتعتهم غنائم لنا ونساؤهم جواري لنا. هم الآن ضيوف كرماء في أسرة فنادقنا وليس في غزواتهم وهم راكبين على صهوات أجساد حرماتنا من النساء إلا دليل على قدرتنا على مراجعاتنا لما كنا نعتبره فيما قبل انتهاكا لحرماتنا وأعرافنا وقيمنا الاسلامية الأصيلة، وليدرك أصحاب النوايا الحداثية المرتبصة بمشروعنا الأخلاقي النقي أننا لسنا ذوي الفكر المتحجر الذي يحرم اقتصادنا السياحي من الانتعاش من رعشات الأسرة المباحة، فالحكامة المتبصرة تبيح المحظور وتوفر كل سبل الرغبة في تحقيق كل ما يقتضيه "العيشان" في أحضان غرفنا المخملية المجهزة كما ابتكرتها أزمنة العولمة التي لا مناص من إقامة علاقة مصاهرة بينها ولابد من أن نعود لخطب ودها بعد مخاصمتها أيام سوء الفهم الكبير.
فعن أي استقرار تتحدث إيها الوزير؟ لابد أنك تقصد الاستقرار على الكراسي التي ألفتم التربع عليها، الآن فقط بدا لكم المغرب جميلا ومستقرا وأهله مسلمون حقيقيون بل إسلاميون "تبارك الله عليهم"، وعليكم أن تشملوهم برضاكم لأنهم أدركوا نيتكم في إسقاط الاستبداد والفساد، فلا استبداد أسقطموه، ولا فساد أزلتموه، بل إن أيديكم أضحت ممدودة كل يوم وبتلهف لمصافحتهما والصفح عنهما في كل فرصة سانحة وستبحران معا على متن سفينة حكومتكم المتجددة إسلاميين أحرارا ولسان حالكم يقول: "بالحضن للفساد والاستبداد، أليست السياسة هي فن الممكن، وهل هناك من ممكن آخر غير الاستبداد والفساد اللذين يضمنان الاستقرار المنشود؟؟" والحقيقة أنني لا أفهم عن أي استقرار تتحدثون، فأما غالبية المواطنين فهم لا يعرفون استقرارا ولا هم يحزنون، بل إن في كل رأس مائة مطرقة، يبدو لك المواطن المغلوب على أمره يسير على جنب الحائط بينما رأسه تهتز بزلازل وبراكين كم حاجة لم يستطع قضاءها بدءا من أبسطها إلى أعقدها، فعن أي استقرار أيها الوزير تتحدث، بينما الرؤوس تشتعل بنار الزيادة في الأسعار ونار مستلزمات الدخول المدرسي، ونار كبش عيد الأضحى، ونار الأدوية المسكنة للآلام، وهل تسمي الذي يجافيه النوم ولا يقترب منه إلا بالأقرص المنومة مواطنا مستقرا في حياته؟
إنها الحرب أيها الوزير أشعلتم نيرانها في كل مجالات الحياة، والناس مضطربون قلقون ومتوجسون تائهون، لا يركزون على هدف تعصرهم ديون الشركات البنكية وتلوي أعناقهم حاجيات أبنائهم المدرسية والمعيشية الملحة. لو كانت فيكم درة من المروءة والحس بعمق الأزمة لقدمتم استقالاتكم وخرجتم إلى الشارع لتجدوا أنفسكم منبوذين تدمدمون "ماخلاوناش نخدموا". أريد أن أعرف ولو إنجازا واحد فرج عن المواطن سواء في أجره إن كان موظفا ودعمه ببعض المال إن كان عاطلا، وفي تسهيل أي خدمة من الخدمات الضرورية في حياته اليومية، لاشيء تحقق سوى التشدق بالكلام وترديد الكلام الكاذب بأننا خلصنا المغرب من الثورة والفوضى ومنحناه الاستقرار، وكأن المغرب لم ينعم بهذا الاستقرار إلا حين شرفتم بمجيئكم إلى سدة الحكم، وكأن المغرب هو العراق أو أفغانستان. والحقيقة أن المواطن المغلوب على أمره في المغرب لن يبدأ استقراره الحقيقي ورفاهيته إلا حين تزول خرافتكم وهذا هدي عقلي ويقيني بأن مآسي المغاربة اليوم ،وخصوصا اليوم، هي حرمانهم من رؤية مشاريع النماء والتقدم وهي تتحقق على أرض الواقع راجع إلى عقبة إصراركم على أن تكونوا أصحاب الفضل فيما أنتم عاجزون عن فعله ولن تسعفكم نواياكم الحقيقية وما تخططون للوصول إليه. فرغم صراخكم فإن مكانتكم الحقيقية هي مجالسكم في دور التصوف، أما حل مشاكل المواطنين فلتتركوها لمن أدركوا كيف يمكن أن يتقدم المغرب حقا في ظل وعي وطني جديد ودستور جديد، هذا الوعي الوطني الجديد الذي يؤطره الدستور الجديد لم يعرف طريقه بعد إلى التحقق ولا زلنا نضيع الوقت.
أما النقابات فقد طال انتظار وقوفها إلى جانب من تمثلهم من عمال وموظفين كما طال انتظار وقوفها في وجه هذه الحكومة التي لم تعد تعير لمطالب فئات العاملين اهتماما وأوقفت الحوار الاجتماعي وأدخلت بصدها عن الملفات المطلبية للقطاعات الأكثر تضررا الطبقة الشغيلة إلى دوائر التذمر واليأس ولم تعد مزاعمها بأن الدولة لها ما يبرر تأجيل تلبية المطالب لما تمر به من أزمة مالية، لم تعد مزاعمها هذه كافية لثني الطبقات العاملة عن التعبير عن رفضها لهذه المزاعم وسخطها عن الحكومة التي تابع المواطنون ما حازت عليه من مليارات الدولارات خلال السنة ومن مساعدات وإعانات وقروض من دول الخليج ومن الأبناك الدولية، ومع ذلك ظلت الوضعية المالية لموظفي الجماعات المحلية مثيرة للشفقة رغم نضالاتهم المتواصلة ورغم وقفاتهم وهتافهم وصراخهم، رغم كل ذلك لم يجدوا الآذان الصاغية ولا القلوب الرحيمة وكذلك باقي القطاعات الانتاجية والخدماتية وبناء عليه يمكن القول بكل وثوقية بأنها أسوأ سنة اجتماعية عرفها الموظفون والطبقة العاملة في القطاعين العام والخاص من حيث ما لاقوه من رد فعلي حكومي سلبي وصل إلى درجة التجاهل والازدراء والتعالي والاحتقار مما يستوجب ردة فعل جماهيرية قوية تعيد الاعتبار للطبقة العاملة وتكشف عن زيف الايديولوجيا الخرافية الكذابة والمتعجرفة والتي لطالما لعبت بالعقول الساذجة من مواطنينا الذين لم يعد لديهم الصبر الكافي لإمهال من ليست قلوبهم إلا على ذويهم وأقربائهم وبعض أتباعهم الذين يعتبرون دروعهم الخلفية والأمامية، ممن يحتلون فضاءات غسل الأدمغة ويتخذون من الدفاع عن سياسة الزيادات في الأسعار ومحاربتها في الأجور وتبرير ذلك بالحفاظ على التوازنات باسم المقايسة لإظهار حسن السيرة والسلوك أمام مراقبي المالية العامة ولنيل رضا الدولة وليذهب الشعب المسكين إلى الجحيم ويكفيه فخرا أن من يدبر شؤونه هم من أنصار الإخوان في مصر وتونس النهضة وأفغانستان وكل شعوب إسلامستان وعربستان، وجزيرستان الهبة الإعلامية الربانية التي قلبت الأمور رأسا على عقب، وقلبت الأوراق ولم يعد الناس يأكلون ويشربون إلا وهم يبردون قلوبهم بما يشاهدون من صور الاحتجاجات الجماهيرية ضد ما لا يدرون ومع من يجهلون، وفي كل هذا يكمن سر سؤال المناضلين النقابيين حين يتم الاعلان عن الاحتجاج من أجل تحسين الأوضاع الاجتماعية مع من يخرجون؟
هكذا تتحول إيديولوجيا الخرافة إلى أداة قمعية ضد الجماهير المقهورة التي أصبح يكفيها أن تتلذذ بمتابعة الانتصارات الوهمية وهي متضررة وقابعة وجاهلة تعاني من كل صنوف الأمراض وجائعة.