لا أدري بالضبط متى، ولا أستطيع أن أجزم في أي سنة من تاريخ التعليم بالمغرب الحديث والمعاصر في بحر العقود الخمسة الماضية، بدأت تنبعث تلك الرائحة التي عكرت صفاء ونقاء أجواء حياتنا المدرسية، حين بدأت في التلوث بكثير من الظواهر الباعثة على تضايق النفوس وعلى التعبير عن عدم الرضا والارتياح للأجواء الدراسية بصفة عامة.
حين عم التذمر من المستوى الدراسي للتلاميذ، وتراجع الحماس بصورة ملفتة للانتباه، ولم تعد "للقراية" تلك القيمة التي كانت تسمو بالتلميذ المجد والمهذب، والطالب المسؤول والباحث، والمعلم المرشد والأنيق، والأستاذ الأستاذ إلى مستوى القادة والزعماء في شعب يجل كل عاقل وراشد فيه أهل العلم والمعرفة والتفقه، وسما التعليم في العيون والنفوس، حتى كاد المعلم في الزمن المدرسي المغربي الجميل الأنيق أن يكون أميرا.
أين نحن الآن من تلك الصورة البديعة التي يمكن أن تستحضرها أجيال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات وحتى منتصف الثمانينات... أما الجيل الحالي فواجب علينا أن نمكنه من الاطلاع عليها في أشرطتها وصورها كما كانت بالأبيض والأسود.
هذا الموضوع؛ أي الفرق بين الأجيال الماضية وجيل اليوم في النظرة إلى الدراسة وفي المستوى الدراسي أيضا، أصبح يطرح حقا إشكالا يتمثل في اختلاف وجهتي النظر إليه: النظرة الأولى تبدو عبارة عن رؤية نوسطالجية يغلب عليها الحنين إلى كل ما هو ماض طالما أنها عملية تذكر لحياة الفتوة المفقودة وتحسر على ثروة الشباب الضائعة، وزمن الأحلام بالآفاق الواعدة قبل أن تبدأ في الانحسار مع دخول المغرب منذ أواسط الثمانينيات إلى عهد تفاقم الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية مع بداية الاستجابة السلبية لشروط المؤسسات البنكية الدولية المتمثلة في إعادة النظر في تمويل القطاعات الخدماتية في التعليم والصحة والثقافة والشباب في ظروف مناخية قاسية ساد فيها الجفاف واستفحلت فيها ظاهرة الهجرة من القرى والبوادي إلى المدن، بالإضافة إلى تأثير حرب الاستنزاف في الصحراء على الاقتصاد الوطني، وعلى توازن المجتمع، حيث اختل الميزان على طبيعة ومستوى العيش في المدن، التي انقسمت على نفسها بين مدن الحجر ومدن الصفيح. واختل تبعا لذلك الميزان في الأوساط الأسرية التي دخلت عهد الأزمات المادية القاهرة والمزمنة وتبع كل ذلك بالضرورة اهتزاز في نفسية المواطنين المغاربة، وخصوصا، فئة اليافعين والشباب الذين بدأت أعناقهم تشرئب إلى ما وراء البحر من أجل الخلاص من حياة البؤس في بلد لم يعد فيه ما يعجب ويسر، ولم يعد فيه أمل الحياة الكريمة مهما فكر الشاب ودبر، ولم تعد تنفع قوة السواعد الفتية، ولا شواهد الدراسات العليا والعالية، ولا حتى حيل الشطارة النقية بعيدا عن حياة المغامرة بالمتاجرة في الذوات والمخدرات الرخيصة أو القوية والغالية.
وما أفرزه هذا الوضع من بروز تفاوت طبقي واضح وتمايز على مستوى الدخل صارخ، فأصبح أبناء غالبية الشعب يذهبون إلى مدارسهم العمومية المهترئة، بينما تذهب الفئة القليلة إلى المدارس الخصوصية المترفة، ولم تلبث هذه المدارس أن توسعت مساحتها وتوسعت معها قاعدة الملتحقين بها الذين يزيد عددهم مع بداية مغامرة فئة الطبقة الوسطى بالزج بأبنائها في هذه المدارس التي ستتحول إلى وعاء احتياطي ستوفر له الدولة كل الامكانيات لينمو ويزدهر، وذلك بتقديم كل التسهيلات حيث سيتهافت على الاستثمار فيها كل من هب ودب من أصحاب "الشكارة"، كل ذلك على حساب جيوب الآباء المرغمين المكرهين والمغفلين، في مقابل ذلك بدأت سياسة إفقار المدارس العمومية وتهميشها. مما استدعى في كل هذه الأجواء التنافسية التصارعية إلحاق المحتويات التعليمية من مواد وبرامج ومناهج بسياسة التعليم الطبقي، حيث سيتجلى الفرق واضحا أيضا في ما يلقن لأبناء غالبية الشعب وما يلقن للأقلية المحظوظة، مما يؤهل هذه الأخيرة ويضيع الأولى.
وهو ما أدى إلى ظهور معارضة للنظام السياسي بدأت تتقوى وتتسع وتهدد وتزعج الطبقة الرأسمالية الحاكمة وهي المعارضة التي عبرت عنها الحركات النقابية الاحتجاجية التابعة للقوى اليسارية الرافضة لهذه السياسة، فكان نهج سياسة الكبح والقمع والإفقار وحرمان أبناء غالبية الشعب من تعليم يؤهل للوعي الطبقي الاجتماعي واكتساب الخبرة التي تستوجب توفر الشغل في كل قطاعات الانتاج وأيضا قطاعات التدبير والتسيير والحكامة، وهو ما لم تكن الدولة قد وفرت له المجال فكان اختيار التمييز بين طبقات الشعب هو الحل.
ولم تسلم الحياة الثقافية المغربية من الإصابة بهذا التيار المدمر، فكان نصيب النخبة المثقفة من حصار الدولة وافرا من خلال كل أشكال المضايقة والقمع والمتابعة وتكميم الأفواه، مما اضطر هذه النخبة، لكي تنجو بنفسها، من أن تغير مسار عملها. وعوض أن تستمر على النهج وتستكمل مسيرة النضال إلى جانب القوى العاملة والكادحة بنفس خطاب التوعية والتأهيل الإيديولوجي، انكفأت على ذاتها وأخذت لنفسها مكانا قصيا تدبج فيه خطابات بعيدة في مضامينها وأشكالها عن إدراك وهموم فئات الشعب العريضة ومنها فئات المتعلمين الذين لم تعد تربطهم أية علاقة بما يكتبه كتاب وشعراء الحداثة العالية المتعالية في برجها العاجي البعيد والغامض. وبهذا تم قطع الصلة بين النخبة المثقفة التي لم تعد قادرة على الانخراط في الصراع المجتمعي وبين عامة القراء من كل فئات الشعب وعلى رأسهم الطلاب والتلاميذ في المدارس والثانويات والجامعات. مما أحدث قطيعة وفراغا مهولا ستجد القوى الرجعية والظلامية الفرصة متاحة لملئه وستجدها مناسبة لتوجيه المجتمع ثقافيا وتعليميا من حيث لا يدري، وعلى حين غرة، توجيها فكريا سلفيا ماضويا سيشوه ملامح الشخصية الوطنية بأفكار غريبة أدخلت البلبلة في العقول، وأرغمت جحافل من التلاميذ والطلبة على إطلاق اللحي وارتداء الجلابيب الأفغانية، حتى امتلأت ساحات الثانوية بالرؤوس المستكينة التي ضرب بينها وبين الإبداع والفكر النقدي حجاب الجهل والخرافة، وتحول الجميع من الأساتذة من كل المواد والشعب وحتى الفلسفة إلى دعاة إسلاميين يبشرون بقرب مجيء عهد الخلافة المخلصة للمجتمع من أردان قيم الغرب الحديثة وعلمانيته.
ولم تعد البرامج الدراسية هي المراجع، بل تم تعويضها بمراجع ومرجعيات ومقررات موازية توضع من طرف الأساتذة الاسلاميين المناضلين على درب الجهاد المقدس. ووافق هواهم هوى ذوي العقول الصغيرة البريئة منها والانتهازية، فكان كل ذلك بمثابة السد المنيع لأي علم ومعرفة تساير العصر. وتحول هؤلاء الأساتذة حراسا لقيم التخلف والرجعية بانتهازية مفضوحة يتساكن فيها الميل إلى تحطيم العقول وتخريبها والنزعة إلى جمع النقود دونما استحضار لأدنى حس بالمسؤولية، كما كان في الماضي، أو مشاركة في ميادين النضال الحقيقية داخل الجمعيات الحقوقية المكافحة، وداخل المنظمات النقابية اليسارية الحاملة لقيم التقدم والحداثة والمساندة لقضايا التعليم ورجاله ونسائه باعتبارهم طليعة المجتمع الذي يجب أن يقودونه بنشر قيم الثقافة الجديدة والحديثة. ولم يكن بإمكان هذا التيار الاسلامي أن يسود ويهمين لولا التنظيم المحكم لأطراف وأجنحة دولته العميقة المتعمقة في المجتمع، ولولا الاعلام الانتهازي المساند سواء المرئي منه أو المكتوب والذي لا يزال للأسف الشديد نشيطا أكثر إلى يومنا هذا، يتزعمه كتاب إعلاميون وصحافيون بمنابر ظاهرها حداثي وباطنها رجعي، لا زالوا يحفرون بمعاول الهدم خنادق وسراديب الظلام تحت الأرض، وهم مسؤولون عما تقترفه أقلامهم الانتهازية البئيسة إلى يوم الحقيقة.
ومما زاد الطين بلة امتلاء سمائنا بالكلام المنحط التافه بما يصدر عن أشرطة ما يسمى بالأغاني الشعبية الممقوتة بكل انحطاط مستواها الإيقاعي المسرول والمهرول، وكلامها الساقط السافل البذيء، الذي حطم الذوق الجميل والرفيع وحول التلاميذ في المدارس يحفظون هذه الأغاني/الكوارث، ولا يحفظون ولو قصيدة واحدة أو حتى أبيات قليلة لأبي القاسم الشابي أو أبي فراس أو المعري أو نزار أو درويش، وهم معجبون بهذه الجوقة من المغنين الرعاع الذين ضيعوا التلاميذ بغزواتهم التي لا تنتهي للذوق والوجدان. زد على ذلك ما تقدمه شاشة التلفزيون من تمثيليات وسكيتشات بلغة سوقية ودون إبداع حقيقي يراعي سمو الفن ومسؤوليته التربوية أيضا، وهي لا تسعى إلا إلى الإضحاك الأهوج والأعوج.
ويتم تشجيع كل هذا الفن المائع من طرف مجالس منتخبة لقضاء أغراض شخصية ولا برامج ثقافية هادفة لدى أعضائها الذين أغلبهم جاهلين وأميين غير مسؤولين، كل همهم هو البحث عن "الهمزات" ولم يسمع أن فرقا منهم بادرت إلى خلق أنشطة ثقافية في مجال التشجيع على القراءة والمطالعة وتوفير الأجواء الملائمة لدعم التلاميذ في مؤسساتهم وخارجها لما يقويهم بإغناء رصيدهم المعرفي وإكسابهم مهارات وقيم الاندماج الإيجابي في شؤون الحياة العملية والعلمية والمحلية والوطنية وإبعادهم عن كل ما يخرب العقول من مخدرات حشيشية أو إيديولوجية خرافية.
كل هذا أحدث إرباكا ضرب المجتمع والأسرة المغربية بالضربة القاضية التي لا زالت آثارها بادية في تزعزع المجتمع واهتزاز الأسرة وتصدع المدرسة.
وهاهو تعليمنا الآن ساقط ونحن نتباكى عليه ولم يعد بمقدورنا إلا التحسر على وضعه وحاله وتذكر ماضيه بكل الحنين والأسى. سقطة لا زال الجسم التعليمي يعاني من عدم القدرة على النهوض بسببها برأس دائخ وفي كل محاولاته لا يمشي في الطريق إلا قليلا ليسقط مرة أخرى.
دوخة تتجلى في كل مظاهر الحياة المدرسية على صعيد البنيات التحتية والفوقية والعقليات المقلدة التافهة، أو الموفقة الملفقة والرجعية المقيتة، والنفسيات القلقة الحائرة غير المستقرة على هدف وجداني ثابت وطني أو قومي تقدمي أو إنساني وما ينشأ عن هذا كله من علاقات تربوية وتنظيمية متسيبة وعشوائية.
لم تنج أمة من السقوط، ولم تعدم أمة أسباب النهوض وليس ذكرنا لما هو عليه حال حياتنا المدرسية من تدهور وانحطاط إلا إعادة حديث ملؤه الحزن والأسى عن مظاهر هذا الانحطاط اليومي وذكر وتذكر ملؤه التحسر والشجن والآسى أيضا لصور من ماض أنجب أغلب ما نعيش به وعليه اليوم مما تبقى من اعتزازنا بأنفسنا وغيرتنا على قوميتنا ووطنيتنا، وإدارك لأهمية تعايشنا مع ثقافة غيرنا المتقدمة ولغته وعلومه وفلسفته، وسعينا الحتمي للحاق بركبه. وليس من وسيلة أو سبيل لهذا اللحاق إلا ركوب سفينة التعليم المتطور الهادف إلى تحقيق نهضة مأمولة.
وإن لم نستعجل هذا الركوب فإننا سنبقى في مكاننا الذي فاته الركب وآنذاك لن تقبل منا شكوى أو شكاية.
حين عم التذمر من المستوى الدراسي للتلاميذ، وتراجع الحماس بصورة ملفتة للانتباه، ولم تعد "للقراية" تلك القيمة التي كانت تسمو بالتلميذ المجد والمهذب، والطالب المسؤول والباحث، والمعلم المرشد والأنيق، والأستاذ الأستاذ إلى مستوى القادة والزعماء في شعب يجل كل عاقل وراشد فيه أهل العلم والمعرفة والتفقه، وسما التعليم في العيون والنفوس، حتى كاد المعلم في الزمن المدرسي المغربي الجميل الأنيق أن يكون أميرا.
أين نحن الآن من تلك الصورة البديعة التي يمكن أن تستحضرها أجيال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات وحتى منتصف الثمانينات... أما الجيل الحالي فواجب علينا أن نمكنه من الاطلاع عليها في أشرطتها وصورها كما كانت بالأبيض والأسود.
هذا الموضوع؛ أي الفرق بين الأجيال الماضية وجيل اليوم في النظرة إلى الدراسة وفي المستوى الدراسي أيضا، أصبح يطرح حقا إشكالا يتمثل في اختلاف وجهتي النظر إليه: النظرة الأولى تبدو عبارة عن رؤية نوسطالجية يغلب عليها الحنين إلى كل ما هو ماض طالما أنها عملية تذكر لحياة الفتوة المفقودة وتحسر على ثروة الشباب الضائعة، وزمن الأحلام بالآفاق الواعدة قبل أن تبدأ في الانحسار مع دخول المغرب منذ أواسط الثمانينيات إلى عهد تفاقم الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية مع بداية الاستجابة السلبية لشروط المؤسسات البنكية الدولية المتمثلة في إعادة النظر في تمويل القطاعات الخدماتية في التعليم والصحة والثقافة والشباب في ظروف مناخية قاسية ساد فيها الجفاف واستفحلت فيها ظاهرة الهجرة من القرى والبوادي إلى المدن، بالإضافة إلى تأثير حرب الاستنزاف في الصحراء على الاقتصاد الوطني، وعلى توازن المجتمع، حيث اختل الميزان على طبيعة ومستوى العيش في المدن، التي انقسمت على نفسها بين مدن الحجر ومدن الصفيح. واختل تبعا لذلك الميزان في الأوساط الأسرية التي دخلت عهد الأزمات المادية القاهرة والمزمنة وتبع كل ذلك بالضرورة اهتزاز في نفسية المواطنين المغاربة، وخصوصا، فئة اليافعين والشباب الذين بدأت أعناقهم تشرئب إلى ما وراء البحر من أجل الخلاص من حياة البؤس في بلد لم يعد فيه ما يعجب ويسر، ولم يعد فيه أمل الحياة الكريمة مهما فكر الشاب ودبر، ولم تعد تنفع قوة السواعد الفتية، ولا شواهد الدراسات العليا والعالية، ولا حتى حيل الشطارة النقية بعيدا عن حياة المغامرة بالمتاجرة في الذوات والمخدرات الرخيصة أو القوية والغالية.
وما أفرزه هذا الوضع من بروز تفاوت طبقي واضح وتمايز على مستوى الدخل صارخ، فأصبح أبناء غالبية الشعب يذهبون إلى مدارسهم العمومية المهترئة، بينما تذهب الفئة القليلة إلى المدارس الخصوصية المترفة، ولم تلبث هذه المدارس أن توسعت مساحتها وتوسعت معها قاعدة الملتحقين بها الذين يزيد عددهم مع بداية مغامرة فئة الطبقة الوسطى بالزج بأبنائها في هذه المدارس التي ستتحول إلى وعاء احتياطي ستوفر له الدولة كل الامكانيات لينمو ويزدهر، وذلك بتقديم كل التسهيلات حيث سيتهافت على الاستثمار فيها كل من هب ودب من أصحاب "الشكارة"، كل ذلك على حساب جيوب الآباء المرغمين المكرهين والمغفلين، في مقابل ذلك بدأت سياسة إفقار المدارس العمومية وتهميشها. مما استدعى في كل هذه الأجواء التنافسية التصارعية إلحاق المحتويات التعليمية من مواد وبرامج ومناهج بسياسة التعليم الطبقي، حيث سيتجلى الفرق واضحا أيضا في ما يلقن لأبناء غالبية الشعب وما يلقن للأقلية المحظوظة، مما يؤهل هذه الأخيرة ويضيع الأولى.
وهو ما أدى إلى ظهور معارضة للنظام السياسي بدأت تتقوى وتتسع وتهدد وتزعج الطبقة الرأسمالية الحاكمة وهي المعارضة التي عبرت عنها الحركات النقابية الاحتجاجية التابعة للقوى اليسارية الرافضة لهذه السياسة، فكان نهج سياسة الكبح والقمع والإفقار وحرمان أبناء غالبية الشعب من تعليم يؤهل للوعي الطبقي الاجتماعي واكتساب الخبرة التي تستوجب توفر الشغل في كل قطاعات الانتاج وأيضا قطاعات التدبير والتسيير والحكامة، وهو ما لم تكن الدولة قد وفرت له المجال فكان اختيار التمييز بين طبقات الشعب هو الحل.
ولم تسلم الحياة الثقافية المغربية من الإصابة بهذا التيار المدمر، فكان نصيب النخبة المثقفة من حصار الدولة وافرا من خلال كل أشكال المضايقة والقمع والمتابعة وتكميم الأفواه، مما اضطر هذه النخبة، لكي تنجو بنفسها، من أن تغير مسار عملها. وعوض أن تستمر على النهج وتستكمل مسيرة النضال إلى جانب القوى العاملة والكادحة بنفس خطاب التوعية والتأهيل الإيديولوجي، انكفأت على ذاتها وأخذت لنفسها مكانا قصيا تدبج فيه خطابات بعيدة في مضامينها وأشكالها عن إدراك وهموم فئات الشعب العريضة ومنها فئات المتعلمين الذين لم تعد تربطهم أية علاقة بما يكتبه كتاب وشعراء الحداثة العالية المتعالية في برجها العاجي البعيد والغامض. وبهذا تم قطع الصلة بين النخبة المثقفة التي لم تعد قادرة على الانخراط في الصراع المجتمعي وبين عامة القراء من كل فئات الشعب وعلى رأسهم الطلاب والتلاميذ في المدارس والثانويات والجامعات. مما أحدث قطيعة وفراغا مهولا ستجد القوى الرجعية والظلامية الفرصة متاحة لملئه وستجدها مناسبة لتوجيه المجتمع ثقافيا وتعليميا من حيث لا يدري، وعلى حين غرة، توجيها فكريا سلفيا ماضويا سيشوه ملامح الشخصية الوطنية بأفكار غريبة أدخلت البلبلة في العقول، وأرغمت جحافل من التلاميذ والطلبة على إطلاق اللحي وارتداء الجلابيب الأفغانية، حتى امتلأت ساحات الثانوية بالرؤوس المستكينة التي ضرب بينها وبين الإبداع والفكر النقدي حجاب الجهل والخرافة، وتحول الجميع من الأساتذة من كل المواد والشعب وحتى الفلسفة إلى دعاة إسلاميين يبشرون بقرب مجيء عهد الخلافة المخلصة للمجتمع من أردان قيم الغرب الحديثة وعلمانيته.
ولم تعد البرامج الدراسية هي المراجع، بل تم تعويضها بمراجع ومرجعيات ومقررات موازية توضع من طرف الأساتذة الاسلاميين المناضلين على درب الجهاد المقدس. ووافق هواهم هوى ذوي العقول الصغيرة البريئة منها والانتهازية، فكان كل ذلك بمثابة السد المنيع لأي علم ومعرفة تساير العصر. وتحول هؤلاء الأساتذة حراسا لقيم التخلف والرجعية بانتهازية مفضوحة يتساكن فيها الميل إلى تحطيم العقول وتخريبها والنزعة إلى جمع النقود دونما استحضار لأدنى حس بالمسؤولية، كما كان في الماضي، أو مشاركة في ميادين النضال الحقيقية داخل الجمعيات الحقوقية المكافحة، وداخل المنظمات النقابية اليسارية الحاملة لقيم التقدم والحداثة والمساندة لقضايا التعليم ورجاله ونسائه باعتبارهم طليعة المجتمع الذي يجب أن يقودونه بنشر قيم الثقافة الجديدة والحديثة. ولم يكن بإمكان هذا التيار الاسلامي أن يسود ويهمين لولا التنظيم المحكم لأطراف وأجنحة دولته العميقة المتعمقة في المجتمع، ولولا الاعلام الانتهازي المساند سواء المرئي منه أو المكتوب والذي لا يزال للأسف الشديد نشيطا أكثر إلى يومنا هذا، يتزعمه كتاب إعلاميون وصحافيون بمنابر ظاهرها حداثي وباطنها رجعي، لا زالوا يحفرون بمعاول الهدم خنادق وسراديب الظلام تحت الأرض، وهم مسؤولون عما تقترفه أقلامهم الانتهازية البئيسة إلى يوم الحقيقة.
ومما زاد الطين بلة امتلاء سمائنا بالكلام المنحط التافه بما يصدر عن أشرطة ما يسمى بالأغاني الشعبية الممقوتة بكل انحطاط مستواها الإيقاعي المسرول والمهرول، وكلامها الساقط السافل البذيء، الذي حطم الذوق الجميل والرفيع وحول التلاميذ في المدارس يحفظون هذه الأغاني/الكوارث، ولا يحفظون ولو قصيدة واحدة أو حتى أبيات قليلة لأبي القاسم الشابي أو أبي فراس أو المعري أو نزار أو درويش، وهم معجبون بهذه الجوقة من المغنين الرعاع الذين ضيعوا التلاميذ بغزواتهم التي لا تنتهي للذوق والوجدان. زد على ذلك ما تقدمه شاشة التلفزيون من تمثيليات وسكيتشات بلغة سوقية ودون إبداع حقيقي يراعي سمو الفن ومسؤوليته التربوية أيضا، وهي لا تسعى إلا إلى الإضحاك الأهوج والأعوج.
ويتم تشجيع كل هذا الفن المائع من طرف مجالس منتخبة لقضاء أغراض شخصية ولا برامج ثقافية هادفة لدى أعضائها الذين أغلبهم جاهلين وأميين غير مسؤولين، كل همهم هو البحث عن "الهمزات" ولم يسمع أن فرقا منهم بادرت إلى خلق أنشطة ثقافية في مجال التشجيع على القراءة والمطالعة وتوفير الأجواء الملائمة لدعم التلاميذ في مؤسساتهم وخارجها لما يقويهم بإغناء رصيدهم المعرفي وإكسابهم مهارات وقيم الاندماج الإيجابي في شؤون الحياة العملية والعلمية والمحلية والوطنية وإبعادهم عن كل ما يخرب العقول من مخدرات حشيشية أو إيديولوجية خرافية.
كل هذا أحدث إرباكا ضرب المجتمع والأسرة المغربية بالضربة القاضية التي لا زالت آثارها بادية في تزعزع المجتمع واهتزاز الأسرة وتصدع المدرسة.
وهاهو تعليمنا الآن ساقط ونحن نتباكى عليه ولم يعد بمقدورنا إلا التحسر على وضعه وحاله وتذكر ماضيه بكل الحنين والأسى. سقطة لا زال الجسم التعليمي يعاني من عدم القدرة على النهوض بسببها برأس دائخ وفي كل محاولاته لا يمشي في الطريق إلا قليلا ليسقط مرة أخرى.
دوخة تتجلى في كل مظاهر الحياة المدرسية على صعيد البنيات التحتية والفوقية والعقليات المقلدة التافهة، أو الموفقة الملفقة والرجعية المقيتة، والنفسيات القلقة الحائرة غير المستقرة على هدف وجداني ثابت وطني أو قومي تقدمي أو إنساني وما ينشأ عن هذا كله من علاقات تربوية وتنظيمية متسيبة وعشوائية.
لم تنج أمة من السقوط، ولم تعدم أمة أسباب النهوض وليس ذكرنا لما هو عليه حال حياتنا المدرسية من تدهور وانحطاط إلا إعادة حديث ملؤه الحزن والأسى عن مظاهر هذا الانحطاط اليومي وذكر وتذكر ملؤه التحسر والشجن والآسى أيضا لصور من ماض أنجب أغلب ما نعيش به وعليه اليوم مما تبقى من اعتزازنا بأنفسنا وغيرتنا على قوميتنا ووطنيتنا، وإدارك لأهمية تعايشنا مع ثقافة غيرنا المتقدمة ولغته وعلومه وفلسفته، وسعينا الحتمي للحاق بركبه. وليس من وسيلة أو سبيل لهذا اللحاق إلا ركوب سفينة التعليم المتطور الهادف إلى تحقيق نهضة مأمولة.
وإن لم نستعجل هذا الركوب فإننا سنبقى في مكاننا الذي فاته الركب وآنذاك لن تقبل منا شكوى أو شكاية.