لهذا السبب يحتاج المجتمع إلى الجريمة .


نورالدين زروال طالب باحث بكلية الحقوق – جامعة القاضي عياض مراكش
الجمعة 1 ماي 2015












للجريمة أضرار ,وهذا ما نتفق عليه إلى درجة الإجماع . لكن هل يمكن أن نتصور أن يكون لها فوائد ؟ سؤال قد يعتبر مستفزا بعض الشيء خاصة لمن اعتاد التعامل مع الموضوع بسطحية ,إلا أنه من الناحية العلمية يعتبر تساؤلا مشروعا يستحق أن نفرد له حقه من التدبر و التحليل .
فكيف يمكن أن تشكل الجريمة فائدة مجتمعية ؟
الجريمة في مفهومها الواسع ماهي إلا انحراف عن الأنماط السلوكية المتعارف عليها في المنظومة القيمية لكل جماعة و بالتالي فهي حالة انسلاخ لفرد أو مجموعة أفراد عن هذه المنظومة التي نفترض أنها نشأت في الأصل كرد فعل عكسي عن سلوك اتفقت الجماعة على إضراره بمصلحتها العليا , الفكرة هنا هي أنه كلما زاد انتهاك القيم المجتمعية زاد وعي الأفراد بأهميتها و بضرورة حمايتها, و نأخذ الحرية على سبيل المثال , فالإنسان لا ينادي بالتحرر إلا عندما يحس بخطر العبودية,والأقليات تكون أكثر تكاثفا في مواجهة اضطهاد الأغلبية, و مطالب التحرر تكون أقل حدة كلما انتقلنا صعودا بين طبقات هرم السلطة , واختيارنا هنا لمفهوم الحرية نابع من شموليته إذ يشمل حرية التنقل و حرية الملكية الخاصة و حرية الرأي وحرية العقيدة ..إلخ و هي كلها مجالات يمكن أن يهددها خطر الجريمة و بالتالي عندما تهدد الجريمة حرية الأفراد يزيد تمسكهم بهذه الحرية و يتنامى داخلهم الشعور بضرورة حمايتها , ويزيد هذا الرأي منطقية كلما زدنا هذا المثال تعميما, فما كان الإنسان ليطالب بالعدل لولا معاناته من الجور و الظلم ,و ما كان ليطالب بالمساواة لولا معاناته من التمييز وما كان لينشد الأمن لولا إحساسه باللا أمن .
وتجدر الإشارة أن قولنا بهذه الفكرة لا يعني الأخذ بها في مطلقها دون قيد أو شرط , بل يجب الأخذ بعين الاعتبار ضرورة الحرص على بقاء الجريمة في مستوياتها العادية و هي المستويات المعتبرة في حدود المعقول في كل مجتمع مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل مجتمع على حدة , إذا فبقاء الجريمة ضروري وواجب لصحة أي مجتمع شريطة أن يكون في مستوياته المعقولة.
حقيقة أخرى تعلل ضرورة الإجرام في المجتمعات وهي تلك التي تتعلق بطبيعة الجريمة و مستوياتها و كذا سبلها , فالعامل الرئيسي الذي يتحكم بالجريمة – بعد العوامل المنشئة لها – هو ذاك الذي يتعلق بالسياسة المتبعة في محاربتها , فأول ما يجب أن تعيه هذه السياسة أن الإجرام من الطبيعة البشرية وهو بذلك كالسيل الجارف لا يمكن ردعه لكن يمكن تغيير مساره , وذلك بالحفاظ على الحد الأدنى الذي يشبع حاجة المجتمع للجريمة و بذلك نضمن ألا تتطور الأنماط الإجرامية و الصور التي تتخذها و كذا الوسائل التي تعتمدها ,أو على الأقل ألا تتطور بسرعة , فكما يقال " الحاجة أم الاختراع" فإذا كان المجتمع بحاجة إلى التعبير عن اختلافاته الثقافية و فوارقه الطبقية و مشاكله النفسية في صورة سلوكيات إجرامية فإنه سيخترع سبلا وأنواع جديدة لها كلما تعذر إتيانها بالسبل المتوفرة وفي الشكل المعهود .
نأخذ على سبيل المثال استهلاك المخدرات , فلقائل أن يقول بوجوب القضاء على المخدرات "نهائيا" لتلافي أضرارها وهذا مطلبنا جميعا , إلا أن الفريضة العلمية تحتم علينا التفكير في التأثير العكسي لهذا الإجراء,فالقضاء "النهائي" على المخدرات في حيز جغرافي معين سيؤدي بمن ألفوا استهلاكها إلى محاولة ابتكار وسيلة أو مادة أخرى تحل محل ما عهدوا استهلاكه أو البحث عنها خارج الحدود الجغرافية التي شحت فيها و في الحالتين نشهد تطورا في النمط الإجرامي المعهود في هذه الجريمة و الذي قد لا نمتلك الوسائل التقنية و الفنية لمواجهته , ما سيؤدي إلى استثمار أموال كبيرة في تطوير هذه الوسائل التي ستسعى للقضاء على المخدرات مجددا لندور في حلقة مفرغة عنوانها تطور الوسائل الإجرامية و إهدار أموال كثيرة في محاولة القضاء عليها ,في حين أن الحفاظ على استهلاكها في أقل نسبه الممكنة كان سيبطئ بشكل كبير دوران هذه الحلقة .
هذا بالإضافة إلى أن محاولة الإعدام الكلاسيكي للجريمة كما يتصوره الرجل العادي قد تؤدي إلى الثورة على القوانين من طرف الخاضعين لها في صورة سلوكيات جرمية أكثر خطورة ,فمثلا محاولة فرض حد أقصى من التنظيم على جماعة معينة قد يؤدي إلى العصيان و التمرد الشيء الذي قد يتخذ صورا إجرامية عدة , و المقصود هنا أنه كان الأجدر هو الحفاظ على هامش صغير جدا من اللاتنظيم لإنجاح قدر كبير من التنظيم .
حالة أخرى نوردها لتعزيز وجهة نظرنا للموضوع , وهذه المرة نستقيها من نصوص القانون الجنائي , و بالضبط من أسباب التبرير التي تعتمد عليها التشريعات – الفصول 124 و 125 من القانون الجنائي المغربي – لنزع صفة اللاشرعية عن أفعال هي أصلا مجرمة , فلماذا ينزع عنها الشارع صفة "الجرم" وبالتالي يعفيها من العقاب إن لم يكن على وعي أن الجريمة في هذه الحالة لها مقاصد نبيلة وهذا أصل تبريرها , فلا يختلف اثنان على أن بثر عضو إنسان هو جريمة تستوجب الزجر ومع ذلك فإن الطبيب الذي يبثر ساق مريضه خشية أن يتفشى المرض في باقي جسمه لا يعاقب وذلك أن الجريمة في هذه الحالة شر لابد منه إذ أن لها غاية أسمى وهذا أساس تبريرها , و الرجل الذي يقتل غيره في دفاع شرعي لا يؤاخذ و أساس التبرير هنا دفع الخطر و حماية النفس ,و تبرير هذه الأفعال قانونا يبين إلى أي حد يحتاج المجتمع إلى الجريمة وإلى أي حد يعتمد عليها لإقامة التوازنات بين الشرعية و اللاشرعية . زد على ذلك أن المقاربة القانونية لمحاربة الجريمة في حد ذاتها لا تقوم و لا تستقيم دون ارتكاب جرائم استشعرت فيها المصلحة العامة و بررتها وأضفت عليها الطابع الشرعي إيمانا منها بأن نفاذ القانون لا يكون إلا بها , و في الإعدام و سلب الحرية خير مثال , و تجدر الإشارة إلى أن قولنا هذا لا يجب أن يفهم إلا في سياقه العلمي ,الذي يسترعي حدا من الموضوعية و الصلاحية , وكذلك فإن هذا الرأي لا يسعى إلى تبرير الجريمة , بل إلى تفسيرها و استقراءها في أبعادها الفلسفية التي تتجاوز الأنماط الكلاسيكية التي عهدناها .
و ختاما لما سبق , فإن المجتمع ما كان في صورته الراقية و المتحضرة التي يظهر عليها الآن متكاثفا و متضامنا ضد الأخطار التي تهدد أمنه العام لولا استشعار أفراده للخطر الذي يهددهم , وهم بذلك في حاجة إلى أن يظل هذا الخطر قائما , و يظل شعورهم بالخوف منه قائما ليستمر إيمانهم بمشروعية المؤسسات القيمية و القانونية التي أنتجوها لمواجهته , ولهذا السبب يحتاج المجتمع إلى الجريمة .


مقالات ذات صلة