قبل زيارة الملك إلى السنغال طار وزير الخارجية العثماني إلى نواكشوط كي لا ترسل الجولة التي تضم أيضا ساحل العاج والغابون إشارات لا تفكر فيها العاصمة الرباط.
ومن الطبيعي بعد اللقاءات بين حزب مشارك في الحكومة (الاستقلال) والحزب الحاكم في موريتانيا وزيارة العثماني إلى نواكشوط أن ينطلق عمل اللجنة العليا المورتانيو ـ المغربية قبل زيارة رسمية على المستوى الرئاسي بين الجانبين.
وفي هذه الجولة التي تشمل العمق الفرنسي: ساحل العاج "واجهة أفريقيا الفرنسية" (لوموند ديبلوماتيك، فبراير 2013) والسنغال "بلد الزنوجة الفرنكوفونية" والغابون "مركز ثقل الصندوق الرمادي لعمليات فرنسا"، ولقاء مصالح النفط (وباقي المعادن الأفريقية) والسياسة الفرنسية، يتأسس هدفان بالإضافة إلى الرغبة المغربية في نقل منظمة الإيكواس إلى منظومة أمنية وإقليمية:
أ ـ دعم العمق المدافع عن العمل الفرنسي في القارة السمراء بعد وضع مالي في فكي كماشة أمريكية، انطلاقا من النيجر (قاعدة أمريكية رسمية لطائرات بدون طيار يشمل طيرانها سماء ليبيا لأول مرة) وموريتانيا لتواجد قوات أمريكية بعد المناورات الأخيرة على أراضي هذا البلد.
واليوم تتحرك واشنطن بكثير من "الاستقلالية" في آخر نقط العمق الفرنسي، بعد خسارتها لجيبوتي ـ القاعدة الكلاسيكية لفرنسا ـ، والنيجر... فيما يعمل المغرب بوضوح على "ترميم هذا العمق الفرنسي" من خلال ساحل العاج، السنغال والغابون، حيث تعتبر المملكة "وديعة" فرنسا في الصحراء "الغربية" جزء من استقرار المنطقة، لدفاع باريس عن الحدود والوحدة الترابية للبلاد التي استعمرتها، كما تعد جزءا من "العقيدة" التي يحرك المغرب على ضوءها في هذه الزيارة.
فترميم العمق الفرنسي للدفاع عن الحدود الفرنسية لدول غرب أفريقيا هو الجزء الرئيس في الاستراتيجية التي يتزعمها المغرب، وتقودها الرباط.
ب ـ دعم "الهشاشة" الفرنسية في غرب أفريقيا بعد حرب مالي، حيث انتقلت تحالفات باريس خارج الإيكواس بعد التعاون غير المسبوق بين فرنسا والجزائر، والمشاركة الناجحة لتشاد في العمليات الخاصة ضد القاعدة إلى جانب القوات الفرنسية وتقدم نفس القوات لأول مرة إلى دارفور، حيث صرح مني أركو: "لقد سبق أن دخلت قوات إدريس ديبي هذا الإقليم عام 2003 ـ مع بوش ـ، والآن بعد مرور 10 سنوات تعاد الكرة مرة أخرى، ونحن نحذر من تحويل المنطقة إلى حروب إقليمية ودولية"، وتحركت الجبهة الثورية لوقف هذا التعاون السوداني ـ التشادي من الجهة الشرقية، ومعلوم أن "مناوي" شغل منصب كبير مساعدي عمر البشير إثر اتفاقية أبوجا عام 2006.
ولا يرغب الأمريكيون في امتداد الفرنسيين عبر تشاد شرقا، في وقت تدفع فيه واشنطن الخرطوم إلى الجنوب، حيث عادت العلاقات "النفطية" بين السودان وجنوب السودان، وتتحرك فرنسا من خلال نفس الورقة النفطية عبر الغابون في ترتيب أوراقها بمنطقة غرب أفريقيا.
+++ تحرك العاهل المغربي الذي آلت لبلده مجموعة سين ـ صاد، نحو غرب أفريقيا التي عمل فيها إلى جانب الإيكواس لتسهيل حرب مالي ضد القاعدة من أجل مزيد من التعاون لا تجعل التجمعين (سين ـ صاد) أو الإيكواس نسختين مكررتين، فيما تريد فرنسا ذراعا إقليمية قوية بعد التحولات التي أحدثها تدخل الجيش الفرنسي في مالي، وتعاونت على إثرها دول من خارج الإيكواس مع الأهداف التي سطرتها باريس
من جهة، نلاحظ التدخل الأمريكي غير المسبوق في غرب أفريقيا، حيث حاصرت واشنطن تأثير فرنسا في نقطة مالي، فيما احترم هولاند الخطوط الحمراء التي وضعتها الجزائر في شمال مالي، ورغم ذلك صرح مدلسي (وزير الخارجية الجزائري) في ألمانيا بضرورة ترك القوات الفرنسية سريعا لمالي وانطلاق المفاوضات بين جنوب مالي وشمالها (الطوارق) وتهدف تصريحات مدلسي إلى أمرين:
1 ـ إطلاق مسلسل المفاوضات بين الطوارق وباماكو أو بين شمال وجنوب مالي بعيدا عن فرنسا وهو ما يشكل إقصاءا سياسيا لـ"الإيكواس" كطرف في الحرب لوقوفها إلى جانب باماكو، فيما يريد المغرب أن يكون لهذه المنظمة "الاقتصادية" (الإيكواس) دور من أجل تحديد خطوط حمراء للحل السياسي مع الطوارق لا يتجاوز ما اقترحته لحل مشكلة الصحراء "الغربية".
وأي انسحاب لدور فرنسا يعني ملئه من طرف الاتحاد الأفريقي الذي له موقف واضح من مشكل الصحراء، ومن الأمريكيين.
وتحاول زيارة وزير الخارجية الجزائري إلى ألمانيا، الضاغطة على فرنسا اقتصاديا بالأساس من داخل الاتحاد الأوروبي، كي توازي زيارة الملك المغربي لغرب أفريقيا لتحويل المنظمة الاقتصادية "الإيكواس" إلى منظمة إقليمية.
2 ـ يريد بوتفليقة "حياد بلاده" في مشكل الطوارق في مقابل "حياد" الإيكواس وشريكها المغرب، في هذا الصراع، وإلا سيتحول الصراع كاملا ضد فرنسا.
ويبقى الصراع حول من ستسند له فرنسا الدور في مالي بعد انسحابها، أو على الأصح من يكون ذراعها بعد القضاء على ما يسمى بالمجموعات الإرهابية؟ من جهة، تريد المملكة أن يؤول إلى الإيكواس، فيما ترغب الجزائر أن يعمل الاتحاد الأفريقي وليس غيره على الملف المالي، فيما اتجه فابيوس إلى نيجيريا للبحث على مصير الرهائن الفرنسيين عند بوكوحرام، ويبقى التنافس ماضيا على قدم وساق.
من جهة أخرى، يعمل المغرب على ترتيب "الأهداف" بين مجموعة "سين ـ صاد" التي آلت إليه أخيرا وبين الإيكواس لتسهيل حرب مالي ضد القاعدة من أجل مزيد من التعاون لا تجعل تجمعا يكرر الآخر، فيما ترغب فرنسا في ذراع إقليمي قوي بعد التحولات التي أحدثها تدخل الجيش الفرنسي في مالي، وتعاونت على إثرها دول من خارج الإيكواس مع الأهداف التي سطرتها باريس.
+++ بعد دخول أول وزير مغربي إلى مقر الناتو، ورفع درجة التعاون بين المملكة والحلف الأطلسي، وما حدث من تسريبات على رغبة الرباط في قيادة قوات الناتو للمشهد في مالي دونا عن الأمم المتحدة، فاجأت الأمم المتحدة بتسليم ميداليتها للقوات المغربية العاملة في ساحل العاج، كرد فعل على مطالب محتملة حملها يوسف العمراني إلى بروكسل وتقرر أن يتفقد الملك محمد السادس "جنود القبعات الزرق المغاربة"
تلقت فرقة عسكرية مغربية تعمل ضمن قوات حفظ السلام في ساحل العاج "ميداليات الأمم المتحد لحفظ السلام" في أجواء زيارة الوزير يوسف العمراني إلى مقر الناتو، ورفع درجة التعاون بين المملكة والحلف الأطلسي، وتسرب من هذه المحادثات رغبة مغربية في تواجد الناتو في مالي ضد القاعدة لدوره البارز في أفغانستان ضد نفس التنظيم الموصوف عالميا بالإرهاب.
ومباشرة بعد توسيم قواته في ساحل العاج كشفت مصادر موثوقة لصحف دولية قبل بدء زيارة العاهل المغربي لغرب أفريقيا، عن تفقد العاهل لهذه القوات العاملة ضمن "القبعات الزرق" منذ 2004، ولتعزيز الأمر أدلى المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ساحل العاج جيرار كونديس بتصريحات شديدة اللطف اتجاه مهنية وتضحية هؤلاء الجنود (لقد برهنوا على التأقلم مع الظروف الصعبة، مخاطرين بسلامتهم الجسمانية ومن دون تناسي أو وجودهم في هذا البلد هو أولا لأهداف السلام) كما أنهم يتحلون (بخدمة السلام والوئام الوطني في هذا البلد)، فيما صرح المقدم عبد الإله لوكالة الأنباء الرسمية لبلاده عن التعاطي بمسؤولية في منطقة انتشارها منذ أكتوبر الماضي.
وهذه الرسالة خففت من موقف المغرب اتجاه اتفاق بايدن ـ هولاند حول نقل القوات الأفريقية المنتشرة في مالي إلى قوات أممية، وهو المطلب الذي تعمل عليه الجزائر لإطلاق مفاوضات مباشرة بين الطوارق وباماكو أو الجنوب والشمال المالي.
وتعمل الأمم المتحدة على توسيع دورها في غرب أفريقيا:
أولا، لتنفيذ اتفاق فرنسي ـ أمريكي.
ثانيا، لتوسيع مهامها وانتشارها في غرب أفريقيا من ساحل العاج إلى المينورسو في الصحراء "الغربية".
ثالثا، عدم التصادم بين منظمات إقليمية في أفريقيا في إطار التنافس الحادث بين الجزائر والمغرب والمنتهي بنشر قوات أممية في الصحراء (المينورسو) وبين فرنسا وأمريكا في غرب أفريقيا، وقد اتفق الطرفان على إيلاء الأولوية لنشر قوات أممية لتخفيف حدة التنافس بين دول ومنظمات في منطقة الساحل وغرب أفريقيا.
إن دفع "الإيكواس" للخروج عن إطارها كمنظمة اقتصادية ودعوتها إلى محاربة القاعدة والحرب في مالي بدعم فرنسي دونا عن الاتحاد الأفريقي سبب شرخا إقليميا واضحا، لا يمكن تجاوزه بالمزيد من النفوذ الأمريكي لخلق التوازن، إنما من خلال الأمم المتحدة، خصوصا وأن الجزائر التي تعاونت مع الجنود الفرنسيين لم تكن باكستان أخرى، تعاطت مع الأوضاع الجديدة عبر تعاون فرنسي ـ جزائري غير مسبوق ثمنه نقل مشكل الطوارق إلى الأمم المتحدة، وتدعو الجزائر العاصمة في مواجهتها لكل مواقف فرنسا في الصحراء "الغربية" وفي ترسيم حدودها البحرية مع المغرب وغيرها من القضايا في غرب أفريقيا إلى دور محوري لمنظمة بان كي مون.
وفي عملية نقل الثقل التي تجري حاليا بين فرنسا وأمريكا تصارع الجزائر بقوة كي لا تصبح الإيكواس ذراعا فرنسيا، فدعمت قوات تشاد بالمعلومات في هجومها على جبال "أدرار إيفوغاس"، وتضغط الجزائر ماليا للتمكن من تفعيل دورها في شمال مالي على صعيد مفاوضات جنوب وشمال مالي.
+++ الجزائر تضغط كي تتحول القوات الأفريقية العاملة في مالي سريعا إلى قوات أممية، وأن تكون منظمة "الإيكواس" بعيدة عن مفاوضات الطوارق وباماكو، وإلا فإن أمام الجنود الفرنسيين صيفا لا يطاق تنتظره جماعة "أنصار الدين" لتجسيل خسائر في الجيش الفرنسي، فيما يدعم المغرب باريس من موقعها في غرب أفريقيا قبل إطلاق حرب مالي، عبر نقل المنظمة الاقتصادية للإيكواس إلى منظومة إقليمية
في تنافس جزائري ـ مغربي يستهلك "نطاقات" الصراع في الجغرافيا السياسية الأفريقية، يصارع المغرب في منطقة الساحل والصحراء وغرب أفريقيا كي لا تعود الخارطة إلى ما قبل الاستعدادات لحرب مالي، حيث تحولت "الإيكواس" إلى منظمة سياسية تستدعي قوات انتشار لضرب الإرهاب، رغم طابعها الاقتصادي، وحيث تستمر "العمليات الخاصة" لفرنسا في هذا القوس الأفريقي.
وتدعو الرباط إلى مواصلة هذا المسار، رغم التطورات الجديدة التي أعطت أمريكا نفوذا أكبر، زاد من سرعته وثقله الطريقة التي ظهرت بها فرنسا قبل حرب مالي، حيث لم تستطع باريس أن تدير حرب ليبيا، وحسمها الأمريكيون، وكررت باريس إمكانية شن حرب لوحدها في القارة السمراء جنوب الصحراء، وأيضا لم تتمكن من النجاح ـ وليس الحسم ـ إلا بمساعدة قوات أفريقية ومساعدة لوجيستيكية وتكنولوجية للرصد من الأمريكيين.
ووصلنا إلى حالة جديدة تقول:
أ ـ لا يمكن لفرنسا إدارة حرب في شمال أفريقيا ـ بعد ليبيا ـ أو في دول الصحراء ـ بعد حرب مالي ـ، في تراجع استراتيجي وجيوسياسي شديد.
ب ـ يرتمي بوتفليقة أكثر في استراتيجية أمريكا الخاصة بغرب أفريقيا، لأن واشنطن لا تريد لموسكو أن تعود عبر البوابة الجزائرية، في وقت يزيد فيه التنافس الأمريكي لابتلاع غرب أفريقيا.
+++ أمريكا ابتلعت ليبيا حيث وضعت السماء تحت مراقبة طائراتها دون طيار، في لحظة لا تستطيع فيه فرنسا مواصلة الحرب في مالي دون مساعدة أمريكية "كبيرة"، وبعد القاعدة الجديدة في النيجر انتهت نجيريا إلى الأمريكيين... ولم تسمح واشنطن لتشاد بأي نفوذ لها في السودان باسم فرنسي، مما جعل باريس في نطاق واحد ومسار واحد هو مالي تدعو الجزائر إلى انسحاب فرنسا منه، فيما يعمل المغاربة لنقل منظمة "الإيكواس" إلى منظمة إقليمية لدعم باريس
ابتعلت أمريكا ليبيا والنيجر، ولن تتواصل حرب مالي دون أمريكا، فواشنطن تريد سحق الإرهاب وتغيير الخارطة التي أنتجته، وبالتالي، هناك استثمار أقصى للجزائريين والمغاربة إلى حدود قصوى لهذا الوضع بعد حرب مالي.
أولا، هزيمة فرنسا في غرب أفريقيا أو تراجعها يعني تراجع الموقف الحالي للمغرب في قضية الصحراء، واستعادة منظمة "الإيكواس" لنفس الوهج قبل بداية الحرب في مالي، وتحولها من منظمة اقتصادية إلى منظومة إقليمية "هدف بحد ذاته".
ثانيا، تقدم الأمريكيين الكبير في غرب أفريقيا، كما لم يكن قبل حرب مالي، يزيد من عزل النيجر ونجيريا وليبيا والجزائر وموريتانيا عن فرنسا، وهو التطور الذي دفع الرباط إلى إرسال الفهري مستشار الملك إلى تونس والعثماني إلى نواكشوط لتخفيف السرعة التي يجري بها مسلسل التغيير الجيوسياسي الحادث في كل المنطقة.
ثالثا، قبول موريتانيا بنشر قواتها تحت راية الأمم المتحدة على حدودها في دولة مالي إيذانا بقبولها في المستقبل بنشر قواتها عبر المينورسو فوق رمال الصحراء "الغربية"، وهو السيناريو الذي دفع إلى سفر سعد الدين العثماني إلى نواكشوط من أجل تحريك العلاقات الثنائية والخروج من "حالة الجمود التي تعتيرها"، فموريتانيا خرجت من الإيكواس، وعزلها عن التحركات المغربية جزء لا يتجزأ من نجاح أهداف الرباط في المنطقة، وأي دور مزدوج لموريتانيا في مالي والصحراء "الغربية" عبر قوات الأمم المتحدة، سيؤدي إلى ربط الحل في أزواد والصحراء من خارج منظومة فرنسا والإيكواس الداعمتين لموقف المملكة.
رابعا، القدرة على تحول حلفاء فرنسا إلى قوة إقليمية خيار وحيد لابقاء الجزء الواسع من نفوذ باريس في المنطقة.
وحاليا، نجد أن الأمور في غرب أفريقيا تندفع نحو الحسم على صعيد موازين القوى، وبسرعة.
من جهة، ظهر أن التعاون الموريتاني والجزائري مع فرنسا مثير وغير مسبوق، ويؤثر على الحلفاء، ومن جهة ثانية، تريد كل من نواكشوط والجزائر العاصمة ثمنا لمساعدتها، في أفق تخلف فرنسا عن حلفاءها في الإيكواس.
ومجرد إطلاق الإنذار عبر المغرب في هذا الظرف كفيل بوضع الأمور في نصابها لحلفاء فرنسا بغرب أفريقيا، لأن الخارطة تتبدل سريعا، والخوف عند هذه الدول أن يجد الأمريكيون بعد السنغال موقفا آخر، وأنذاك يمكن القول ببداية نهاية فرنسا في غرب أفريقيا.
+++ في حرب مالي أثبتت فرنسا عجزها عن إدارة حرب في دولة جنوب الصحراء الأفريقية وهو ما حرك إسبانيا للقول، إن جنوب الصحراء منطقة قلقة ويمكن إعادة تشكيلها بما يناسب أن تكون خارطة "ضد الإرهاب" وعودة فرنسا لمالي كمستعمرة سابقة بررت للإعلام الإسباني القول بالعودة إلى الصحراء المستعمرة الاسبانية السابقة عقب محاكمة إكديم إزيك وطرد وفد برلماني أوروبي
لا ترغب مدريد في أي خسارة، وتحرك طموح الإسبان في تقرير مصير مستعمرتهم في الصحراء "الغربية" كما تقرر فرنسا في مصير مالي مجددا.
إذن يحرك الدفاع المغربي عن قوة فرنسا في غرب أفريقيا هواجس إسبانيا في القارة السمراء، ومن الطبيعي أن تعمل مدريد على خطة عمل "بديلة" عن تعاونها مع المغرب الذي سلم كل أوراقه ـ على الأقل في نظرها ـ إلى باريس.
وعدم السماح لإسبان بدخول الصحراء كشف عن تحرك كل المؤسسات ويمين الصحافة ويسارها إلى حدود واسعة باتجاه عودة مدريد إلى أداء دورها من دعم القرار العسكري المستقل لموريتانيا، والعمل إلى جانب واشنطن في خارطتها الجديدة، خصوصا بعد:
ـ فصل النيجر، التوغو، البنين وغينيا وغانا عن خطط فرنسا جزئيا.
ـ تجسيد العمق الفرنسي في تشاد والدول التي يزورها العاهل المغربي، فيما انتقلت دول فرنكوفونية إلى تبني استراتيجية بديلة لحل مشاكل القارة.
ـ تراجع دول "الإيكواس" مجددا.
ـ محاولة الجزائر الضغط بقوة على الفرنسيين للانسحاب المبكر، لأن بوتفليقة لا يزال يحتفظ بمجموعة "أنصار الدين" في شمال مالي، فيما تسعى واشنطن وباريس إلى تحديد انسحابها بزمن هزيمة الإرهاب وبالتالي فأمريكا:
أ ـ تنتج "طريقة أخرى" لحرب الإرهاب في مالي، تبعا لما قاله أوباما أن من السذاجة أن نحارب الإرهاب بطريقة معينة (مقال سكوت ويلسون في الواشنطن بوست 25 مارس 2009).
ب ـ تنتج خارطة جديدة في غرب أفريقيا.
والرد الفرنسي يذهب باتجاه تحويل الإيكواس إلى منظومة إقليمية وأمنية، وإلا فإن باريس سيكون تأثيرها محدودا.
+++ في تطور الخارطة ما يؤسس تحالفا بين باماكو وشركاءها الجهويين والمغرب لا يريد أن يكون بعيدا عن أي تجمع أو محور ينتج عنه الدفاع عن الوحدة الترابية لمالي، تماما كما يدافع المغرب عن نفس القناعة، لكن الأمريكيين والفرنسيين يتفقون على رفض محور "من هذا النوع"
إن رفض فرنسا محتشم لإدارتها حربا في مالي، فيما لا تريد أن يلتقي جنودها أي رد فعل قوي ـ من دول الجوار ـ على بناء محور يجمع باماكو وشركاءها الجهويين بما فيهم المغرب، لأن مثل ذلك قد يثير الجزائر، ولو عزلنا موريتانيا، كما حاولت الرباط قبل بدء زيارة الملك إلى غرب أفريقيا، فإن باريس تعتقد بصعوبة التقدم نحو أمن جيوسياسي جديد في هذه المنطقة، لأن ما بعد حرب مالي صنع خارطة أخرى، لا يمكن تجاوز معالمها، فالقدرة الاستراتيجية لفرنسا على التقدم ضعيفة إلى حدود لا يمكن معها الآن أن تدعم محورا يخدم مصالحها.
وبالتالي، يمكن القول أن فرنسا خسرت في غرب أفريقيا أمام أمريكا ورهان حلفاءها لن يكون كبيرا إلا إن وصلت فرنسا إلى قناعة تتمثل في دعم محور لها في غرب أفريقيا وإن أغضب الآخرين.
ومن الطبيعي بعد اللقاءات بين حزب مشارك في الحكومة (الاستقلال) والحزب الحاكم في موريتانيا وزيارة العثماني إلى نواكشوط أن ينطلق عمل اللجنة العليا المورتانيو ـ المغربية قبل زيارة رسمية على المستوى الرئاسي بين الجانبين.
وفي هذه الجولة التي تشمل العمق الفرنسي: ساحل العاج "واجهة أفريقيا الفرنسية" (لوموند ديبلوماتيك، فبراير 2013) والسنغال "بلد الزنوجة الفرنكوفونية" والغابون "مركز ثقل الصندوق الرمادي لعمليات فرنسا"، ولقاء مصالح النفط (وباقي المعادن الأفريقية) والسياسة الفرنسية، يتأسس هدفان بالإضافة إلى الرغبة المغربية في نقل منظمة الإيكواس إلى منظومة أمنية وإقليمية:
أ ـ دعم العمق المدافع عن العمل الفرنسي في القارة السمراء بعد وضع مالي في فكي كماشة أمريكية، انطلاقا من النيجر (قاعدة أمريكية رسمية لطائرات بدون طيار يشمل طيرانها سماء ليبيا لأول مرة) وموريتانيا لتواجد قوات أمريكية بعد المناورات الأخيرة على أراضي هذا البلد.
واليوم تتحرك واشنطن بكثير من "الاستقلالية" في آخر نقط العمق الفرنسي، بعد خسارتها لجيبوتي ـ القاعدة الكلاسيكية لفرنسا ـ، والنيجر... فيما يعمل المغرب بوضوح على "ترميم هذا العمق الفرنسي" من خلال ساحل العاج، السنغال والغابون، حيث تعتبر المملكة "وديعة" فرنسا في الصحراء "الغربية" جزء من استقرار المنطقة، لدفاع باريس عن الحدود والوحدة الترابية للبلاد التي استعمرتها، كما تعد جزءا من "العقيدة" التي يحرك المغرب على ضوءها في هذه الزيارة.
فترميم العمق الفرنسي للدفاع عن الحدود الفرنسية لدول غرب أفريقيا هو الجزء الرئيس في الاستراتيجية التي يتزعمها المغرب، وتقودها الرباط.
ب ـ دعم "الهشاشة" الفرنسية في غرب أفريقيا بعد حرب مالي، حيث انتقلت تحالفات باريس خارج الإيكواس بعد التعاون غير المسبوق بين فرنسا والجزائر، والمشاركة الناجحة لتشاد في العمليات الخاصة ضد القاعدة إلى جانب القوات الفرنسية وتقدم نفس القوات لأول مرة إلى دارفور، حيث صرح مني أركو: "لقد سبق أن دخلت قوات إدريس ديبي هذا الإقليم عام 2003 ـ مع بوش ـ، والآن بعد مرور 10 سنوات تعاد الكرة مرة أخرى، ونحن نحذر من تحويل المنطقة إلى حروب إقليمية ودولية"، وتحركت الجبهة الثورية لوقف هذا التعاون السوداني ـ التشادي من الجهة الشرقية، ومعلوم أن "مناوي" شغل منصب كبير مساعدي عمر البشير إثر اتفاقية أبوجا عام 2006.
ولا يرغب الأمريكيون في امتداد الفرنسيين عبر تشاد شرقا، في وقت تدفع فيه واشنطن الخرطوم إلى الجنوب، حيث عادت العلاقات "النفطية" بين السودان وجنوب السودان، وتتحرك فرنسا من خلال نفس الورقة النفطية عبر الغابون في ترتيب أوراقها بمنطقة غرب أفريقيا.
+++ تحرك العاهل المغربي الذي آلت لبلده مجموعة سين ـ صاد، نحو غرب أفريقيا التي عمل فيها إلى جانب الإيكواس لتسهيل حرب مالي ضد القاعدة من أجل مزيد من التعاون لا تجعل التجمعين (سين ـ صاد) أو الإيكواس نسختين مكررتين، فيما تريد فرنسا ذراعا إقليمية قوية بعد التحولات التي أحدثها تدخل الجيش الفرنسي في مالي، وتعاونت على إثرها دول من خارج الإيكواس مع الأهداف التي سطرتها باريس
من جهة، نلاحظ التدخل الأمريكي غير المسبوق في غرب أفريقيا، حيث حاصرت واشنطن تأثير فرنسا في نقطة مالي، فيما احترم هولاند الخطوط الحمراء التي وضعتها الجزائر في شمال مالي، ورغم ذلك صرح مدلسي (وزير الخارجية الجزائري) في ألمانيا بضرورة ترك القوات الفرنسية سريعا لمالي وانطلاق المفاوضات بين جنوب مالي وشمالها (الطوارق) وتهدف تصريحات مدلسي إلى أمرين:
1 ـ إطلاق مسلسل المفاوضات بين الطوارق وباماكو أو بين شمال وجنوب مالي بعيدا عن فرنسا وهو ما يشكل إقصاءا سياسيا لـ"الإيكواس" كطرف في الحرب لوقوفها إلى جانب باماكو، فيما يريد المغرب أن يكون لهذه المنظمة "الاقتصادية" (الإيكواس) دور من أجل تحديد خطوط حمراء للحل السياسي مع الطوارق لا يتجاوز ما اقترحته لحل مشكلة الصحراء "الغربية".
وأي انسحاب لدور فرنسا يعني ملئه من طرف الاتحاد الأفريقي الذي له موقف واضح من مشكل الصحراء، ومن الأمريكيين.
وتحاول زيارة وزير الخارجية الجزائري إلى ألمانيا، الضاغطة على فرنسا اقتصاديا بالأساس من داخل الاتحاد الأوروبي، كي توازي زيارة الملك المغربي لغرب أفريقيا لتحويل المنظمة الاقتصادية "الإيكواس" إلى منظمة إقليمية.
2 ـ يريد بوتفليقة "حياد بلاده" في مشكل الطوارق في مقابل "حياد" الإيكواس وشريكها المغرب، في هذا الصراع، وإلا سيتحول الصراع كاملا ضد فرنسا.
ويبقى الصراع حول من ستسند له فرنسا الدور في مالي بعد انسحابها، أو على الأصح من يكون ذراعها بعد القضاء على ما يسمى بالمجموعات الإرهابية؟ من جهة، تريد المملكة أن يؤول إلى الإيكواس، فيما ترغب الجزائر أن يعمل الاتحاد الأفريقي وليس غيره على الملف المالي، فيما اتجه فابيوس إلى نيجيريا للبحث على مصير الرهائن الفرنسيين عند بوكوحرام، ويبقى التنافس ماضيا على قدم وساق.
من جهة أخرى، يعمل المغرب على ترتيب "الأهداف" بين مجموعة "سين ـ صاد" التي آلت إليه أخيرا وبين الإيكواس لتسهيل حرب مالي ضد القاعدة من أجل مزيد من التعاون لا تجعل تجمعا يكرر الآخر، فيما ترغب فرنسا في ذراع إقليمي قوي بعد التحولات التي أحدثها تدخل الجيش الفرنسي في مالي، وتعاونت على إثرها دول من خارج الإيكواس مع الأهداف التي سطرتها باريس.
+++ بعد دخول أول وزير مغربي إلى مقر الناتو، ورفع درجة التعاون بين المملكة والحلف الأطلسي، وما حدث من تسريبات على رغبة الرباط في قيادة قوات الناتو للمشهد في مالي دونا عن الأمم المتحدة، فاجأت الأمم المتحدة بتسليم ميداليتها للقوات المغربية العاملة في ساحل العاج، كرد فعل على مطالب محتملة حملها يوسف العمراني إلى بروكسل وتقرر أن يتفقد الملك محمد السادس "جنود القبعات الزرق المغاربة"
تلقت فرقة عسكرية مغربية تعمل ضمن قوات حفظ السلام في ساحل العاج "ميداليات الأمم المتحد لحفظ السلام" في أجواء زيارة الوزير يوسف العمراني إلى مقر الناتو، ورفع درجة التعاون بين المملكة والحلف الأطلسي، وتسرب من هذه المحادثات رغبة مغربية في تواجد الناتو في مالي ضد القاعدة لدوره البارز في أفغانستان ضد نفس التنظيم الموصوف عالميا بالإرهاب.
ومباشرة بعد توسيم قواته في ساحل العاج كشفت مصادر موثوقة لصحف دولية قبل بدء زيارة العاهل المغربي لغرب أفريقيا، عن تفقد العاهل لهذه القوات العاملة ضمن "القبعات الزرق" منذ 2004، ولتعزيز الأمر أدلى المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ساحل العاج جيرار كونديس بتصريحات شديدة اللطف اتجاه مهنية وتضحية هؤلاء الجنود (لقد برهنوا على التأقلم مع الظروف الصعبة، مخاطرين بسلامتهم الجسمانية ومن دون تناسي أو وجودهم في هذا البلد هو أولا لأهداف السلام) كما أنهم يتحلون (بخدمة السلام والوئام الوطني في هذا البلد)، فيما صرح المقدم عبد الإله لوكالة الأنباء الرسمية لبلاده عن التعاطي بمسؤولية في منطقة انتشارها منذ أكتوبر الماضي.
وهذه الرسالة خففت من موقف المغرب اتجاه اتفاق بايدن ـ هولاند حول نقل القوات الأفريقية المنتشرة في مالي إلى قوات أممية، وهو المطلب الذي تعمل عليه الجزائر لإطلاق مفاوضات مباشرة بين الطوارق وباماكو أو الجنوب والشمال المالي.
وتعمل الأمم المتحدة على توسيع دورها في غرب أفريقيا:
أولا، لتنفيذ اتفاق فرنسي ـ أمريكي.
ثانيا، لتوسيع مهامها وانتشارها في غرب أفريقيا من ساحل العاج إلى المينورسو في الصحراء "الغربية".
ثالثا، عدم التصادم بين منظمات إقليمية في أفريقيا في إطار التنافس الحادث بين الجزائر والمغرب والمنتهي بنشر قوات أممية في الصحراء (المينورسو) وبين فرنسا وأمريكا في غرب أفريقيا، وقد اتفق الطرفان على إيلاء الأولوية لنشر قوات أممية لتخفيف حدة التنافس بين دول ومنظمات في منطقة الساحل وغرب أفريقيا.
إن دفع "الإيكواس" للخروج عن إطارها كمنظمة اقتصادية ودعوتها إلى محاربة القاعدة والحرب في مالي بدعم فرنسي دونا عن الاتحاد الأفريقي سبب شرخا إقليميا واضحا، لا يمكن تجاوزه بالمزيد من النفوذ الأمريكي لخلق التوازن، إنما من خلال الأمم المتحدة، خصوصا وأن الجزائر التي تعاونت مع الجنود الفرنسيين لم تكن باكستان أخرى، تعاطت مع الأوضاع الجديدة عبر تعاون فرنسي ـ جزائري غير مسبوق ثمنه نقل مشكل الطوارق إلى الأمم المتحدة، وتدعو الجزائر العاصمة في مواجهتها لكل مواقف فرنسا في الصحراء "الغربية" وفي ترسيم حدودها البحرية مع المغرب وغيرها من القضايا في غرب أفريقيا إلى دور محوري لمنظمة بان كي مون.
وفي عملية نقل الثقل التي تجري حاليا بين فرنسا وأمريكا تصارع الجزائر بقوة كي لا تصبح الإيكواس ذراعا فرنسيا، فدعمت قوات تشاد بالمعلومات في هجومها على جبال "أدرار إيفوغاس"، وتضغط الجزائر ماليا للتمكن من تفعيل دورها في شمال مالي على صعيد مفاوضات جنوب وشمال مالي.
+++ الجزائر تضغط كي تتحول القوات الأفريقية العاملة في مالي سريعا إلى قوات أممية، وأن تكون منظمة "الإيكواس" بعيدة عن مفاوضات الطوارق وباماكو، وإلا فإن أمام الجنود الفرنسيين صيفا لا يطاق تنتظره جماعة "أنصار الدين" لتجسيل خسائر في الجيش الفرنسي، فيما يدعم المغرب باريس من موقعها في غرب أفريقيا قبل إطلاق حرب مالي، عبر نقل المنظمة الاقتصادية للإيكواس إلى منظومة إقليمية
في تنافس جزائري ـ مغربي يستهلك "نطاقات" الصراع في الجغرافيا السياسية الأفريقية، يصارع المغرب في منطقة الساحل والصحراء وغرب أفريقيا كي لا تعود الخارطة إلى ما قبل الاستعدادات لحرب مالي، حيث تحولت "الإيكواس" إلى منظمة سياسية تستدعي قوات انتشار لضرب الإرهاب، رغم طابعها الاقتصادي، وحيث تستمر "العمليات الخاصة" لفرنسا في هذا القوس الأفريقي.
وتدعو الرباط إلى مواصلة هذا المسار، رغم التطورات الجديدة التي أعطت أمريكا نفوذا أكبر، زاد من سرعته وثقله الطريقة التي ظهرت بها فرنسا قبل حرب مالي، حيث لم تستطع باريس أن تدير حرب ليبيا، وحسمها الأمريكيون، وكررت باريس إمكانية شن حرب لوحدها في القارة السمراء جنوب الصحراء، وأيضا لم تتمكن من النجاح ـ وليس الحسم ـ إلا بمساعدة قوات أفريقية ومساعدة لوجيستيكية وتكنولوجية للرصد من الأمريكيين.
ووصلنا إلى حالة جديدة تقول:
أ ـ لا يمكن لفرنسا إدارة حرب في شمال أفريقيا ـ بعد ليبيا ـ أو في دول الصحراء ـ بعد حرب مالي ـ، في تراجع استراتيجي وجيوسياسي شديد.
ب ـ يرتمي بوتفليقة أكثر في استراتيجية أمريكا الخاصة بغرب أفريقيا، لأن واشنطن لا تريد لموسكو أن تعود عبر البوابة الجزائرية، في وقت يزيد فيه التنافس الأمريكي لابتلاع غرب أفريقيا.
+++ أمريكا ابتلعت ليبيا حيث وضعت السماء تحت مراقبة طائراتها دون طيار، في لحظة لا تستطيع فيه فرنسا مواصلة الحرب في مالي دون مساعدة أمريكية "كبيرة"، وبعد القاعدة الجديدة في النيجر انتهت نجيريا إلى الأمريكيين... ولم تسمح واشنطن لتشاد بأي نفوذ لها في السودان باسم فرنسي، مما جعل باريس في نطاق واحد ومسار واحد هو مالي تدعو الجزائر إلى انسحاب فرنسا منه، فيما يعمل المغاربة لنقل منظمة "الإيكواس" إلى منظمة إقليمية لدعم باريس
ابتعلت أمريكا ليبيا والنيجر، ولن تتواصل حرب مالي دون أمريكا، فواشنطن تريد سحق الإرهاب وتغيير الخارطة التي أنتجته، وبالتالي، هناك استثمار أقصى للجزائريين والمغاربة إلى حدود قصوى لهذا الوضع بعد حرب مالي.
أولا، هزيمة فرنسا في غرب أفريقيا أو تراجعها يعني تراجع الموقف الحالي للمغرب في قضية الصحراء، واستعادة منظمة "الإيكواس" لنفس الوهج قبل بداية الحرب في مالي، وتحولها من منظمة اقتصادية إلى منظومة إقليمية "هدف بحد ذاته".
ثانيا، تقدم الأمريكيين الكبير في غرب أفريقيا، كما لم يكن قبل حرب مالي، يزيد من عزل النيجر ونجيريا وليبيا والجزائر وموريتانيا عن فرنسا، وهو التطور الذي دفع الرباط إلى إرسال الفهري مستشار الملك إلى تونس والعثماني إلى نواكشوط لتخفيف السرعة التي يجري بها مسلسل التغيير الجيوسياسي الحادث في كل المنطقة.
ثالثا، قبول موريتانيا بنشر قواتها تحت راية الأمم المتحدة على حدودها في دولة مالي إيذانا بقبولها في المستقبل بنشر قواتها عبر المينورسو فوق رمال الصحراء "الغربية"، وهو السيناريو الذي دفع إلى سفر سعد الدين العثماني إلى نواكشوط من أجل تحريك العلاقات الثنائية والخروج من "حالة الجمود التي تعتيرها"، فموريتانيا خرجت من الإيكواس، وعزلها عن التحركات المغربية جزء لا يتجزأ من نجاح أهداف الرباط في المنطقة، وأي دور مزدوج لموريتانيا في مالي والصحراء "الغربية" عبر قوات الأمم المتحدة، سيؤدي إلى ربط الحل في أزواد والصحراء من خارج منظومة فرنسا والإيكواس الداعمتين لموقف المملكة.
رابعا، القدرة على تحول حلفاء فرنسا إلى قوة إقليمية خيار وحيد لابقاء الجزء الواسع من نفوذ باريس في المنطقة.
وحاليا، نجد أن الأمور في غرب أفريقيا تندفع نحو الحسم على صعيد موازين القوى، وبسرعة.
من جهة، ظهر أن التعاون الموريتاني والجزائري مع فرنسا مثير وغير مسبوق، ويؤثر على الحلفاء، ومن جهة ثانية، تريد كل من نواكشوط والجزائر العاصمة ثمنا لمساعدتها، في أفق تخلف فرنسا عن حلفاءها في الإيكواس.
ومجرد إطلاق الإنذار عبر المغرب في هذا الظرف كفيل بوضع الأمور في نصابها لحلفاء فرنسا بغرب أفريقيا، لأن الخارطة تتبدل سريعا، والخوف عند هذه الدول أن يجد الأمريكيون بعد السنغال موقفا آخر، وأنذاك يمكن القول ببداية نهاية فرنسا في غرب أفريقيا.
+++ في حرب مالي أثبتت فرنسا عجزها عن إدارة حرب في دولة جنوب الصحراء الأفريقية وهو ما حرك إسبانيا للقول، إن جنوب الصحراء منطقة قلقة ويمكن إعادة تشكيلها بما يناسب أن تكون خارطة "ضد الإرهاب" وعودة فرنسا لمالي كمستعمرة سابقة بررت للإعلام الإسباني القول بالعودة إلى الصحراء المستعمرة الاسبانية السابقة عقب محاكمة إكديم إزيك وطرد وفد برلماني أوروبي
لا ترغب مدريد في أي خسارة، وتحرك طموح الإسبان في تقرير مصير مستعمرتهم في الصحراء "الغربية" كما تقرر فرنسا في مصير مالي مجددا.
إذن يحرك الدفاع المغربي عن قوة فرنسا في غرب أفريقيا هواجس إسبانيا في القارة السمراء، ومن الطبيعي أن تعمل مدريد على خطة عمل "بديلة" عن تعاونها مع المغرب الذي سلم كل أوراقه ـ على الأقل في نظرها ـ إلى باريس.
وعدم السماح لإسبان بدخول الصحراء كشف عن تحرك كل المؤسسات ويمين الصحافة ويسارها إلى حدود واسعة باتجاه عودة مدريد إلى أداء دورها من دعم القرار العسكري المستقل لموريتانيا، والعمل إلى جانب واشنطن في خارطتها الجديدة، خصوصا بعد:
ـ فصل النيجر، التوغو، البنين وغينيا وغانا عن خطط فرنسا جزئيا.
ـ تجسيد العمق الفرنسي في تشاد والدول التي يزورها العاهل المغربي، فيما انتقلت دول فرنكوفونية إلى تبني استراتيجية بديلة لحل مشاكل القارة.
ـ تراجع دول "الإيكواس" مجددا.
ـ محاولة الجزائر الضغط بقوة على الفرنسيين للانسحاب المبكر، لأن بوتفليقة لا يزال يحتفظ بمجموعة "أنصار الدين" في شمال مالي، فيما تسعى واشنطن وباريس إلى تحديد انسحابها بزمن هزيمة الإرهاب وبالتالي فأمريكا:
أ ـ تنتج "طريقة أخرى" لحرب الإرهاب في مالي، تبعا لما قاله أوباما أن من السذاجة أن نحارب الإرهاب بطريقة معينة (مقال سكوت ويلسون في الواشنطن بوست 25 مارس 2009).
ب ـ تنتج خارطة جديدة في غرب أفريقيا.
والرد الفرنسي يذهب باتجاه تحويل الإيكواس إلى منظومة إقليمية وأمنية، وإلا فإن باريس سيكون تأثيرها محدودا.
+++ في تطور الخارطة ما يؤسس تحالفا بين باماكو وشركاءها الجهويين والمغرب لا يريد أن يكون بعيدا عن أي تجمع أو محور ينتج عنه الدفاع عن الوحدة الترابية لمالي، تماما كما يدافع المغرب عن نفس القناعة، لكن الأمريكيين والفرنسيين يتفقون على رفض محور "من هذا النوع"
إن رفض فرنسا محتشم لإدارتها حربا في مالي، فيما لا تريد أن يلتقي جنودها أي رد فعل قوي ـ من دول الجوار ـ على بناء محور يجمع باماكو وشركاءها الجهويين بما فيهم المغرب، لأن مثل ذلك قد يثير الجزائر، ولو عزلنا موريتانيا، كما حاولت الرباط قبل بدء زيارة الملك إلى غرب أفريقيا، فإن باريس تعتقد بصعوبة التقدم نحو أمن جيوسياسي جديد في هذه المنطقة، لأن ما بعد حرب مالي صنع خارطة أخرى، لا يمكن تجاوز معالمها، فالقدرة الاستراتيجية لفرنسا على التقدم ضعيفة إلى حدود لا يمكن معها الآن أن تدعم محورا يخدم مصالحها.
وبالتالي، يمكن القول أن فرنسا خسرت في غرب أفريقيا أمام أمريكا ورهان حلفاءها لن يكون كبيرا إلا إن وصلت فرنسا إلى قناعة تتمثل في دعم محور لها في غرب أفريقيا وإن أغضب الآخرين.