البارحة دُقَّ مسمار آخر في نعش السياسية في المغرب، ربما هو الأخير قبل الطوفان.
عاش المغرب على وقع التدافع السياسي بين الأحزاب الوطنية والإدارية منذ الستينات، تُركت مجالات العمل السياسي مفتوحة رغم ضيقها، ولم يتردد القصر على الاستعانة بالقوى المعارضة للاستشارة في بعض القرارات المصيرية بل وكان يتراجع في بعض المرات عندما يجد مواقف معارضة صريحة لبعض التوجهات. هو توازن حافظ عليه صاحب القرار ليضمن عدم الدخول في الحرب الأهلية التي قد تفقده مكانته، لكن هذا التوجه في الحكم سيعرف تغيرا جذريا مع العهد الجديد، حيث سيتم الإطاحة بأكبر حزب سياسي وطني آنذاك، وهو حزب الاتحاد الاشتراكي، ليرسم بذلك معالم حقل سياسي جديد يسوده توجه اقتصادي ليبرالي شرس وتوجه سياسي منفتح من ناحية المنظومة الأخلاقية ومحافظ من ناحية الممارسة السياسية.
تم خلق حزب إداري جديد، الپام، جُمع فيه الأعيان وبعض اليساريين الذين تم شراء ولائهم بتعويضات هيئة الإنصاف والمصالحة، وكان الهدف منه تعزيز السلطوية عبر سياسة الرؤية الواحدة لتسيير الشأن العام، دون أية معارضة أو مقاومة من أي كان، إلا أن انتفاضات 2011 أبطأت هذا السيناريو ليُفتَح المجال لحزب العدالة والتنمية للمساهمة في تسيير الشأن العام، حيث أن المخزن كان على وعي كبير بأن التيارات الإسلامية في الإقليم العربي لها قوة و تنسيق كبيرين تقوده حركة الإخوان المسلمين، قطر وتركيا، وأن صعود الإسلاميين في المغرب عبر الثورة قد يضعف شعبية المؤسسة الملكية وينافسها في شرعيتها. فكان صاحب القرار أمام تحديين : أولهما أن يتم التعامل بذكاء مع جموع المنتفضين وأن تُشتت شوكتهم، فلم يكن هناك استعمال الرصاص الحي أو تصعيد حدة القمع في البداية. ثانيهما كانت في كسب الوقت لإعادة ترتيب الأوراق، فتم استغلال الجاهزية للتعاون التي عبر عنها الأمين العام لحزب العدالة والتنمية آنذاك الذي قدم نفسه كطوق نجاة وأرسل إشارات واضحة على أن حزبه لن يكون منافس للملكية بل خادما مطيعا لها. فكان أن تم قبول عرضه وتم تسهيل وصوله إلى رئاسة الحكومة سنة 2011. غير أن الحاكم لم تتغير رؤيته في التدبير ولا موقفه تجاه هذا المكون الدخيل على السلطة، فرغم المحاولات الحثيثة التي قام بها بنكيران آنذاك ليبين أنه لا يشكل أي خطر بل بالعكس صمام أمان، ورغم التنازلات التي قدمها والقرارات اللا شعبية التي مررها والتي تضرب مباشرة في القدرة الشرائية لقواعده ومن يناصره من المواطنين، أصر المخزن على تمريغ وجه هذا الحزب في التراب، حيث حرم خادمه المطيع بنكيران من رئاسة الحكومة سنة 2016 وأعطى رئاستها لرجل يفتقد الرؤية السياسية والكاريزما، حرم هذا الحزب من الحقائب الوزارية الاستراتيجية وقام في الأخير باجبارهم على قبول قرارات تضرب مباشرة في شرعيتهم الدينية والأخلاقية عبر تمرير قانون تقنين الاستعمالات الطبية للقنب الهندي وتوقيع اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل، ليدق بذلك آخر مسمار في نعش العدالة والتنمية لتلتحق بذلك بصف الاتحاد الاشتراكي. هذا ما شاهدنا أثره البارحة على نتائج الانتخابات حيث لم يحصلوا إلا على 12 مقعدا وفقدوا العديد من أحصنتهم التقليدية في المدن الكبرى.
هذه الهزيمة الانتخابية لا يمكن أن نختزلها في التصويت العقابي للناس، فقد تم فتح المجال لسلطة المال بشكل فج من طرف منافسي حزب العدالة والتنمية، خاصة حزب التجمع الوطني للأحرار الذي استعان زعيمه بمؤسسات الاستشارة ذات صيت عالمي لصناعة هذا الاكتساح، جمع فريق قوي من التيقنوقراطيين لتدبير الحملة الانتخابية، اشترى أغلب المنصات الإخبارية بصحفييها، واستثمر بشكل كبير في الإشهارات في وسائط التواصل الاجتماعي. هذا بالإضافة للاستعمال التقليدي للمال والنفوذ من طرف هذا الحزب وغيره من الأحزاب الإدارية وحلفائها عبر شراء الذمم الذي بلغ أوجه في هذه الانتخابات، حيث تم حث الناس على التسجيل في اللوائح الانتخابية وشراء أصواتهم بعد ذلك. هذا هو سر الاكتساح ! يصعب القول بأنه كان بسبب المشروع المجتمعي لهذا الحزب أو مصداقيته أو نظافة يده أو إيجابية تجربته في تسيير الشأن العام، فالجميع يعلم أن الحزب الفائز كان مشاركا في حكومة العدالة والتنمية، وزعيمه كان وزيرا منذ حكومة عباس الفاسي، أي منذ 14 سنة، لم يشهد فيها قطاع الفلاحة الذي يدبره أية قفزة نوعية، كما توالت عليه الفضائح، آخرها مقاطعة شركته للمحروقات من طرف مجموعة كبيرة من المغاربة، وفضيحة 17 مليار درهم من الأرباح الغير الشرعية التي استفادت منها شركته ولم ترجعها إلى اليوم للخزينة العامة. بالتالي إذا كان زعيم الحزب من هذا الطراز فلا داعي للغوص في فضائح باقي أعضائه. وعليه يصعب القول بأنه كان هناك فوز حر ونزيه لهذا الحزب وأن المغاربة قرروا منحه ثقتهم في إطار تمرين ديمقراطي يعبر عن إرادتهم.
الحاكم اختار الخوض في مغامرة قتل السياسة والصوت الوحيد، ربما ستكون “ناجحة” إذا تم العمل على بناء دولة على أسس الدولة الاجتماعية، بمعنى أن يتم العمل على الرقي بقطاعات التعليم، الصحة، وبالتأمين الاجتماعي، التي تُعتبر صمامات الأمان في الدول التي اختارت توجها اقتصاديا ليبراليا فجاًّ، فالصين الشعبية، تركيا، ألمانيا وغيرهم قاموا بالمحافظة على هذه القطاعات التي تقف كسد أمان بين توجهاتها الاقتصادية وطوفان الفئات الفقيرة التي قد تنهض إذا فقدت كل مكتسباتها وكرامتها. عدا ذلك فإن التوجه الليبرالي الأعمى قد يخلق لنا نفس تجارب البرازيل أو جنوب إفريقيا أو الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعرف هوة كبيرة بين الفقراء والأغنياء، غياب السُّلم الاجتماعي، زيادة العنف المجتمعي وإمكانية الدخول في حرب أهلية، فتجد الدولة نفسها مُجبرة على الزيادة في الاستثمار في قوى العنف من شرطة وجيش للحفاظ على استقرار المسار ومصالح الفئة المستفيدة. هذا التوجه هو ما نراه إلى غاية اليوم في السياسات العمومية المغربية، لكن لا نعلم إن كانت الأمور ستستمر على حالها خاصة مع فوز الأحزاب الموالية للقصر في هذه الانتخابات ؟ هل سيتم مراجعة بعض السياسات العمومية التي تضمن الأمن الاجتماعي؟ هل سيتم الإعلان عن انفراج سياسي والافراج عن معتقلي الكلمة والموقف كرسالة لتطمين النفوس؟ كيف سيتم التعامل مع أزمة الكوفيد والآثار الاقتصادية التي مست جيوب الفقراء؟ كل هذه التساؤلات وغيرها سنجد الإجابات عنها في الأشهر والسنوات المقبلة.