نحن الذين نقصد القطار و ليس هو الذي يقصدنا !!!


عبد الكريم قوقي
الجمعة 15 يونيو/جوان 2012



ترجع بنا الذاكرة إلى بضعة أسابيع خلت، انقبضت فيها أنفاسنا و انتابنا شعور دفين بالاحتقار و المهانة، شريط رسم معالم قاتمة في صفحات لا تتوارى ظلمتها عن المتتبع اللبيب للشأن الوطني و المحلي. شريط ما زال موشوما بالعقول و نحتت مشاهده منحوتات كئيبة في النفوس، يمكن اعتباره فيلم تراجيدي بامتياز، إلا أن الفرق بينه وبين الأفلام السينمائية هو متابعة مجرياته مباشرة على أرض الواقع دون شد الرحال إلى القاعات المكيفة و المجهزة بتقنيات الدولبي ــDOLBY ــ، و عرفنا مخرجه الفذ و البارع في إخراج سيناريوهات الموت، الذي لا تطاله يد العدالة بحكم الحماية القانونية التي يحظى بها، و بفضل مقتضيات قانونية تحمل لمسات كولونيالية، لم تتكيف مع واقع الحال و التطور العمراني و النمو الديمغرافي المتسارع. حتى إذا انتابك الفضول المعرفي، لتصفح مقتضياته وجدت نفسك أمام قواعد قانونية ذات فلسفة ديكتاتورية و سحر استعماري.

انه الظهير المنظم للمكتب الوطني للسكك الحديدية، الذي بقي نائيا عن كل مراجعة أو تعديل ليتكيف مع التطور التكنولوجي والفلسفة الإنسانية التي تحترم حق الحياة، كم سمعنا عن حوادث مميتة، و عن دهس رهط من المواطنين تحت عجلات القطارات، التي لا تبقي و لا تذر، إلا ذكريات أليمة في ذاكرة الأهالي و الأحباب و لا تخلف وراءها إلا الغرامات الثقيلة، مسلطة على كواهل الأسر المنكوبة نكبة الأحباء. بالله عليكم، هل هناك ظلم أكثر من هذا يا عباد الله؟
فيلم اغتصب بطله، حياة خمسة براعم ندية، بالممر السككي الغير المحروس المؤدي إلى دوار سيدي كروم بالرحامنة، تلك البراعم التي لم تتلوث سجاياها برذاذ السم السياسي ولم تنغمس جوارحها في دهاليز النفاق السياسوي و لا تنظير المنظرين و لا تلاعبات المنتخبين. جل همها و مبلغ متمنياتها طلب العلم و تعلم الأبجديات التعليمية، في ظروف صعبة و واقع مرير، لم تستطع معه برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أو المشاريع التنموية، التي أصبحت في مهب ريح الوهم و نسج الأخيلة، من فك العزلة عن عالمهم المطمور بالأحزان و الأشجان و المعانات الأزلية.

الواقعة خصت بعناية كبيرة، نصبت فيها خيام استقبال وفود المعزين، وحضور وفد رسمي لتشييع جثامين التلاميذ، و تقاطر فيها أصحاب الجلاليب البيضاء و الطرابيش الحمراء، من كل حدب و صوب، اللذين لا يظهر لهم أثرا إلا في المتأثم و الرزايا أو في الحملات الانتخابية الملغومة بالبرامج الوهمية و المختلسة. كل هذا لا ضير فيه، فالواجب الإنساني يقتضي الوقوف بتجرد عن جميع الحساسيات و الحسابات الضيقة، لكن تبقى أسئلة تقض مضاجعنا بصفة أكثر ملحاحية، أين كانت الوفود الرسمية متوارية في الخفاء لسنين خلت؟ وهي تعي أن واجبها يحتم عليها تتبع أحوال المواطنين و الاضطلاع على همومهم و مشاكلهم و الإنصات إلى تطلعاتهم و متمنياتهم، و أين هم ممثلي الرحامنة في قبة البرلمان و مدبري شأنهم و بائعي الأوهام و الآمال المغصوبة سلفا؟ و هم الذين سمعوا ما لم يقله مالك في الخمر، يوم دفن الجثامين الطاهرة، من قبل آهل الدوار، فصدق الشاعر قولته: إذا أحسن الناس فإنما أحسنوا لأنفسهم*** وان أساء الناس فبأس ما صنعوا، و بأس ما صنعت كائناتنا الهلامية، التي نزلت علينا بالمضلات من بروج السماء الهاوية. فهل يجب دائما أن تحصل المواجع و الفواجع، لتنهض هممهم المتشبعة بالرسميات و الشكليات و حب الظهور الغير المكلف؟.
فالممر السككي بسيدي كروم، ليس إلا حبة رمل في بيداء اللامبالاة و النسيان السرمدي، وهو حتما سيكون شاهد عصر على أبشع جريمة، ارتكبت في حق أطفال بدويين، اجتروا مرارة و قسوة قلوب متولعة شرارات نارية و نقما على العباد، لا تخفف من وطأتها إلا مكيفات مكاتبها الفسيحة وكراسيها الوتيرة، وهي التي لم ترحمهم أو تبالي يوما لزفراتهم.

حتما، تستحق أن تكون قبور الأطفال الخمسة، مزارات تشيد عليها الأضرحة و المقامات، و يتخذ منها مواسم يحتفي بها و يتذكر بها زمن الردة السياسية، و تكون مفكرة و تذكرة كابحة لكل من لعب به هواه و أغواه شيطان الانتخابات و البرامج الصورية التي لا نجد لها واقعا إلا في الأوراق و التصاميم و لغة البيان الساحرة، و تكون بوصلة تقييم الاتجاهات المتوارية خلف ستائر اللمعان و البريق السياسي المتنمر، وتكون كذلك وصمة عار على من ارتضى لنفسه العبث بضمائر الخلق و تضمخت أياديه بدماء عطرة، تفوح مسكا و عبقا.

يوم 07 يونيو، و أنا امتطي سيارة أجرة ماضيا إلى حال سبيلي، استوقفتنا فتاتين عند الممر السككي الغير المحروس بمدينة ابن جرير من الجهة الشمالية، والذي يعد بالمناسبة نقطة سوداء تكاد تقع فيه مشاهد كارثية لو لا لطف القدر، فمدتنا بملصق و ورقة دعائية، فاسترسلت في الكلام مع السائق، إنه اليوم العالمي للممرات المستوية ــPASSAGE E NIVEAU ــ و نحن مندمجون في حملة توعية و تحسيس بالمناسبة نشرح فيها للمواطنين الاحتياطات و الاحترازات اللازمة الواجب اتخاذها قبل اجتياز الممر، لكن جرأة السائق كانت محرجة لاسترسلا تهما في الكلام وسألها، و بعد الاحتفال بهذا اليوم العالمي الذي لم نسمع عنه قط و انتم تحتفلون به على طريقتكم الخاصة ما هي الإجراءات العملية و ما هو الحل لمثل هذا الممر الذي نتواجد بجانبه؟ وهل حياة الإنسان رخيصة لهذا الحد رخيصة عندكم؟ فذكرها بفاجعة الأطفال، حقيقة لم تخفي أسفها، لكنها ختمت كلامها بعذر أقبح من زلة، هو أننا نحن الذين نقصد القطار و ليس هو الذي يقصدنا، و بهذا استشفينا الجواب الشافي و أسدل ستار من ستارات ألف ليلة و ليلة، و عادت ريما لحالتها القديمة.




مقالات ذات صلة