يوم 11 شتنبر 2014 : ذكرى وفاة المناضل الرئيس عبد الله ابراهيم


إدريس ولد القابلة
الأربعاء 10 شتنبر 2014



في مثل هذا اليوم من سنة 2005 فقد المغرب والحركة الوطنية والتقدمية احد رموز المعارضة المغربية والمكافح من اجل مغرب كامل الاستقلال ديمقراطي ووطني التوجهات الأستاذ عبد الله ابراهيم المناضل والمفكر والزعيم المؤسس وبذلك رحل الى جوار ربه وطني ارتبط اسمه بأول حكومة تقدمية عرفتها البلاد كما ارتبطت سيرته بسيرة قادة افذاذ من حزب القوات الشعبية فقد كان المرحوم عبد الله ابراهيم أول وزير اول لأول حكومة يعتبرها المناضلون والمحللون والمتتبعون تقدمية وذات توجه وطني استقلالي تعبوي وكان الى جانبه الفقيد الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد وعملا جنبا الى جنب مع المغفور له الملك الوطني محمد الخامس من اجل تأسيس اقتصاد مغربي له السيادة الكاملة وتوجه اجتماعي يمنح عناصره من العقد الذي ربط الحركة الوطنية بالمؤسسة الملكية فقد كان المرحوم من الرعيل الأول الذي سعى الى ترجمة الآمال والأحلام الوطنية لقادة التحرر في بلادنا الى مشروع وحدوي وتقدمي وتحرري .

إعدام حكومة عبد الله إبراهيم اغتيال لمغرب الأمل والمستقبل

قال الحسن الثاني، عندما كان وليا للعهد، لعبد الرحيم بوعبيد :" أنت لا تفهمني، يا عبد الرحيم، لكن باعتبارك صديقا سأقول لك (ما في الأمر)، أنت لا ترى فيَّ سوى ولي العهد فقط، والحال إنني مناضل مثلك، وإنسان مثلك يحذوني الطموح إلى لعب دور في حياة بلادي، أنت تعرف أن أبي لازال شابا، وأنا سوف لن أنتظر حتى أضع طاقم أسنان لكي أخلفه.. هو ذا عمق تفكيري...".
وبإعدام حكومة عبد الله إبراهيم، اغتال الحسن الثاني (ولي العهد آنذاك) تجربة الأمل المبكرة في دسترة ودمقرطة وتحديث الدولة المغربية،وبذلك رزئ الشعب المغربي في أحلامه الوردية المنتظرة بعد محن المقاومة والكفاح والتضيحات الجسام، وكان الاستقلال "على صيغة إيكس لي بان.. بداية لمسيرة إحباط تلو إحباط.
حكومة عبد الله إبراهيم حلم لم يكتمل بفعل ظروف تأسيس هذه الأخيرة والمصاعب التي صادفتها، ونشاط الطابور الخامس، ومع ذلك رسمت تلك الحكومة خطة وبدأت تحقق بعضا من أهدافها، وهي الإنجازات بل"نصف" الإنجازات التي لم تقو مختلف الحكومات المتعاقبة على المغرب منذ 20 مايو 1960 على تحقيق جزء يسير منها، هذا رغم أن عمر الحكومة المغتالة لم يكن يتجاوز بالكاد ربيعا ونصف.. فجاء اغتيال أمل المغاربة مبكرا في دمقرطة دولة "المغرب السعيد".
تكمن أهمية موضوع هذا "الاغتيال" في كون الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تخللت فترة 1959-1961، قد شكلت منعطفا حاسما في مسار المغرب وشعبه، وهيأت منذئذ لانطلاق آليات ودواليب صناعة الإحباطات والانكسارات، وهو الواقع الذي أضحى قدر المغاربة من 1956 إلى يومنا هذا. فمحطة اغتيال حكومة عبد الله إبراهيم مازالت ترخي بظلالها وعِبَرها علينا إلى حدود اليوم، ولازال المغاربة جيلا بعد جيل يؤدون ثمنها.
لم تعش تلك الحكومة أكثر من 20 شهرا، (520 يوما)، إلا أنها فتحت أوراشا مصيرية في تاريخ الشعب المغربي لم تتمكن أي حكومة، قبلها ولا بعدها، من تحقيق مثل هذا الفتح بل ظلت لا تتنافس إلا حول المزيد من اندحار المشروع الوطني، وبذلك ساهمت في تكريس مظاهر القتامة ودوافع المزيد من الإحباط.
فماذا كان سيقول عبد الله إبراهيم في مذكراته لو نشرها؟ وكيف انهزم الشعب المغربي وانتصر الانتهازيون من مصاصي دماء المغاربة منذ اقتراف جريمة اتفاقيات "إيكس لي بان" و "سان كلو"؟ ولماذا لازال المغاربة ينتظرون إلى حد الآن حكومة وطنية شعبية تقوم بمنجزات من عيار ما قامت به حكومة عبد الله إبراهيم المغتالة في بداية الطريق؟
هذه أسئلة وهناك أخرى، مازالت تؤثث لهمّ مستدام حمله الكثير من المغاربة، ملف هذا العدد سيساهم في إبراز بعض الزوايا الجديدة لمقاربة الجواب عليها.

الرجل الذي يتكلم صامتا

يعتبر عبد الله إبراهيم آخر رئيس حكومة عرفه المغرب المستقل بعد امبارك البكاي الهبيل وأحمد بلافريج، ليأتي بعدهم الوزراء الأولون، علما أن تغيير الصفة طرأ لأمر في "نفس يعقوب".
قال محمد الباهي عن عبد الله إبراهيم.. نادرا ما يتكلم، يتأمل ويفكر ويكتب كثيرا، عرف بالرزانة السياسية والنبوغ الفكري والإنتاج الفلسفي، إنه ذاكرة الفكر السياسي المغربي، الذي لم تكن الابتسامة تفارقه ولو في أحلك الظروف وفي أوج مقاومته للانتهازية السياسية.
قالت عنه أم الملك الحسن الثاني وجدّة الملك محمد السادس، لالة عبلة.. "الشريف والولي المناضل، كان وطنيا صادقا، بل وسيد الوطنيين جميعا".
ومن بين المحطات المضيئة خلال مسيرته المتميزة، أنه ساهم في صياغة العهد الدولي لحقوق الإنسان (1948) في مدينة جنيف بسويسرا، إذ يعتبر من المغاربة القلائل الذين كانوا يناقشون ولي العهد (الحسن الثاني) الند للند، حيث لم يكن يفوّت له أي لمز أو أية "برقية مستترة بين عبارتين"، لقد حصل ذات مرة أن قال له الحسن الثاني (ولي العهد آنذاك):".. آمولاي عبد الله راك غير أنت للي واقف لي في الطريق... راه المغاربة كلهم نشريهم بفلوسي"، فرد عليه عبد الله إبراهيم دونما تردد:" سميت سيدي أنتم مخطئون، ما ذكرتموه لا ينطبق على كافة المغاربة".
ولد في غشت 1981 بتامصلوحت ضاحية مراكش، حيث ترعرع وسط عائلة بسيطة، التحق بـ "لمسيد"، الكتاب القرآني الذي أشرف عليه خاله قبل ولوجه مدرسة ابتدائية حرة كان قد أنشأها الباشا الكلاوي سنة 1922، وفي الثلاثينات أصبح عبد الله إبراهيم معلما بإحدى المدارس بمراكش، وبعد ذلك تابع دراسته العليا. إنه عالم من علماء معهد ابن يوسف، حيث نال شهادة العالمية في صيف 1945 تحت إشراف "شيخ الإسلام" محمد بلعربي العلوي، ثم التحق بفرنسا ليتخرج من أشهر جامعة فيها " السوربون" ومعهد الدراسات الشرقية بباريس، ليلمع نجمه في الصحافة المشرقية والمغربية، وقد حاول الجمع بين السياسة والأخلاق لكنه لم يفلح.
توجه إلى الديار الفرنسية، بين 1945 و 1949 درس وناضل، فقال محمد الحبيب الفرقاني بهذا الخصوص، "لقد ذهب أستاذنا إلى فرنسا شخصا معينا، ليعود منها شخصا آخر في أفكاره وتوجيهاته ومنهجياته مما أسدى لنا جميعا خدمات شتى في مختلف فروع المعرفة".
ويقر محمد لومة، على لسان عبد الله إبراهيم، أن هذا الأخير غادر المغرب في صيف 1945 بسبب فقدان الأمل أولا، في سياسة الحكومة الفرنسية تجاه مطالب الحركة الوطنية، وثانيا لعدم وجود إمكانية مواجهة حزب الاستقلال وقيادته لمهام المرحلة اعتبارا لعدم تجانسها وضعفها الفكري والتنظيمي وافتقارها إلى رؤية واضحة المعالم ومحددة الأهداف، وكذلك لهيمنة "الزاوية" على العمل التنظيمي.
ذهب عبد الله إبراهيم إلى باريس واستقر بزنقة "سيربانت" حيث عاش وضعية مادية صعبة، إذ غالبا ما كان يقضي نهاية الشهر في ظروف قاسية، حيث عاش في محل كان سابقا مقرا لمعهد فيكتور هيكو، اقتناه عبد الهادي الديوري لجعله رهن الطلبة المغاربة، وبه قطن عبد الرحمن اليوسفي وامحمد بوستة وأحمد العلوي بنجلون والمهدي بنعبود وآخرون.
عاد عبد الله إبراهيم إلى المغرب في شتنبر 1949 وأشرف على هيأة تحرير جريدة العلم، كما أسندت إليه قيادة حزب الاستقلال مهمة تدبير ملف الشؤون النقابية.
التحق بميدان النضال وعمره لا يتجاوز 16 سنة، ليصبح مسؤولا في المجلس الأعلى لكتلة العمل الوطني فيما بين 1934 و 1936، حيث ساهم في تجربة الحزب الوطني ابتدءا من عام 1937، وقد تعرض لأشرس أشكال القمع والتنكيل على يد المقيم العام الجنرال "نوكيس"، كما كان من الموقعين على عريضة 11 يناير 1944.
ذهب إلى فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية وتعرف هناك على مجموعة من التيارات، حاور الماركسيين والتروتسكيين والوجوديين والسورياليين وغيرهم، وبذلك عزز التعريف بالقضية المغربية وساهم في التنسيق بين الحركات الوطنية المغربية والمغاربية وقد كان له دور بارز في توجيه المغرب نحو الاستقلال وإرساء الدولة الوطنية.
إنه أحد صناع الكتلة الوطنية وأحد مهندسي ميلادها سنة 1970 سعيا وراء وضع حد لإحباط المغاربة وطرد اليأس من نفوسهم عبر المصالحة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني لتوفير شروط المشاركة الحقيقية.
كما أنه أحد رواد الجامعة المغربية، حاضر في تاريخ الأفكار والتاريخ الدبلوماسي، وكان باحثا في تاريخ المغرب، سياسة وفكرا ومجتمعا.
من أهم ما خلص إليه في أحد مؤلفاته أن هناك أربع مشاكل ظلت ضاغطة على المغرب على امتداد ثلاثة آلاف سنة من عمره، وهي " مشكلة الحكم والأرض واللغة وبناء المغرب العربي".كما أن مؤلفه "الإسلام في آفاق سنة ألفين" يعتبر قراءة تدعو إلى أن يتبوأ العقل درجة من التقدير والاحترام، تسمح بالتجديد والاجتهاد وتخويل النصوص جميع الدلالات التي تستلزمها دينامية تطور المجتمع.


الحكومة الموازية... الطابور الخامس

في سنة 1985 أقر أحمد رضا اكديرة شخصيا، وبواضح العبارة، أنه تم تشكيل، برئاسة ولي العهد (الحسن الثاني) وعضوية آخرين، حكومة موازية للحكومة القائمة آنذاك، كان هدفها الأساسي هو إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم.
وقد تكون الطابور الخامس من أحمد رضا اكديرة وأحمد الغزاوي وإدريس المحمدي وامحمد باحنيني وأحمد العلوي، والجنرال الكتاوي والكولونيل أوفقير آنذاك وغيرهم كثير، سيفتضح أمرهم لاحقا.
خلال الأيام الأولى على تعيين حكومة عبد الله إبراهيم تشكلت الحكومة الموازية، وكانت مهمتها إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم، باستعمال كل وسائل العرقلة والمناهضة والتنغيص والهدم والطعن من الخلف بنصب المكائد ووضع الدسائس. ومما سهل مأمورية الحكومة الموازية أن ولي العهد (الحسن الثاني) كان يشرف على القوات المسلحة الملكية ومختلف أجهزة الأمن والمخابرات، وقد كانت علاقاته متينة مع أغلب المتحكمين في الإدارة، إذ اخترقت صلاته كل دواليب الدولة، في حين لم يكن يحظى عبد الله إبراهيم، رئيس الحكومة إلا بدعم نسبي جدا من طرف حزب الاستقلال والنقابات والاتحاد الوطني لطلبة المغرب.
أسر عبد الله إبراهيم للكاتب محمد لومة، قبل وفاته أنه كانت تأتيه أخبار كثيرة، مفادها أن محمد العزاوي (المدير العام للأمن الوطني والحامل للجنسية الأمريكية) كان يشترك مع مجموعة هامة من المناهضين للحكومة برئاسة ولي العهد (الحسن الثاني)، وكان شغل هذه المجموعة الشاغل هو العمل على إعفاء الحكومة في أسرع الأوقات.. وبذلك كانوا ينثرون هنا وهناك الوعود بإسقاطها ولم يكن قد مضى على ولادتها سوى بضعة أسابيع.
تحالفت جريدة "الأيام" الاستقلالية منذ صدور عددها الأول في 3 مارس 1959 مع "الطابور الخامس" لإعدام حكومة عبد الله إبراهيم، وقد كان عدد صفحاتها آنذاك ثمانية، خصصت جميعا للنيل من الحكومة، وكان الزعيم علال الفاسي يوقع أحيانا افتتاحياتها، وقد توقفت هذه الجريدة عن الصدور بمجرد تنحية حكومة عبد الله إبراهيم.

القضية الجزائرية وإسقاط الحكومة

كثيرون هؤلاء الذين يعتقدون أن موقف عبد الله إبراهيم الحازم والشجاع من القضية الجزائرية آنذاك كان من الأمور التي عجلت بإسقاط حكومته التقدمية.
لقد سبق لمحمد لومة أن سأل الأستاذ عبد الله إبراهيم بخصوص الجهات المغربية الوازنة التي تواطأت احتمالا مع السلطات الفرنسية لإنجاح عملية اختطاف طائرة الزعماء الجزائريين الخمسة في صيف 1956، وتوجيهها نحو فرنسا لاعتقالهم، علما أن بعض الجهات سبق لها أن حاولت اتهام ولي العهد (الملك الحسن الثاني) حينئذ، إلا أن رد الأستاذ عبد الله إبراهيم كان قاطعا، إذ أكد أن ليست لديه أدلة كافية لاتهام هذه الجهة أو تلك من داخل المغرب بهذا العمل الإجرامي الذي أثار موجة من المظاهرات المعادية للفرنسيين في مختلف المدن المغربية، نجمت عنها خسائر في الأرواح والممتلكات. وفور بلوغ الخبر إلى علم قيادة جيش التحرير تشكلت مجموعة مسلحة توجهت إلى مطار الرباط ـ سلا، قصد اعتقال التقنيين الفرنسيين إلا أنهم كانوا قد غادروا التراب المغربي فور نجاح العملية، وقد سبق أن بعثوا بعائلاتهم إلى فرنسا قبل ذلك الوقت بحين، وهو ما أكده الفقيه البصري قبل وفاته.

المدبوح بيدق ولي العهد

بإيعاز من ولي العهد آنذاك (الحسن الثاني)، قدم القبطان محمد المدبوح وزير البريد آنذاك استقالته من حكومة عبد الله إبراهيم، بدعوى الاحتجاج على فحوى توصيات مؤتمر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (أ.و.ط.م)، المنعقد في أكادير أواخر شهر غشت عام 1959. ولم يكن يخفى على أحد ـ كما أكد ذلك محمد لومة ـ أن محمد المدبوح يجر خلفه ماضيا خيانيا بامتياز بفعل ممارسات وسلوكيات والده إبان ثورة أمير الريف، محمد عبد الكريم الخطابي، إذ أشرف شخصيا أكثر من مرة على قمع الثورة والتنكيل بالمجاهدين، فقاموا بذبحه، لذلك حمل أولاده لقب "المدبوح".
ومن المعلوم أن الحسن الثاني (ولي العهد آنذاك) هو الذي فرض عضوية بيدقه، القبطان محمد المدبوح، على حكومة عبد الله إبراهيم التقدمية ليضطلع باحتلال كرسي وزير البريد، كونها وزارة سيادية وقتئذ، لارتباطها بالتجسس والتنصت على التقدميين، كما أن ولي العهد هو الذي دبر أمر تزويجه من ابنة الماريشال محمد مزيان (زليخة)، وكان الغرض من هذه الاستقالة هو إعدام الحكومة التقدمية، وقد برر محمد المدبوح تقديم استقالته بعدم قبوله ما ورد في إحدى توصيات (أ.و.ط.م) التي نصت على كون المؤتمر صادق على ملتمس خاص بالجيش، مطالبا بتطهيره من الخونة وضرورة خضوعه للسلطات المدنية وتجنيده للتشييد والبناء، بدلا من الحفلات والسهرات، كما طالب الملتمس بإجراء تحقيق بخصوص الأسباب الحقيقية لانتفاضة الريف، ومعاقبة من كانوا وراءها ( أي الأسباب)، علما أنه لم ينبس ببنت شفة أي جنرال ولا كولونيل ولا حتى كومندار آنذاك بهذا الخصوص مع أنهم كانوا الأولى بذلك بدل مجرد قبطان.
وللإشارة يرى العديد من المهتمين بأن من جملة الأسباب التي دفعت ولي العهد (الحسن الثاني) إلى إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم اتخاذها قرار إعفاء المساعدين العسكريين والأمنيين الفرنسيين من مهامهم بالمغرب آنذاك، حيث لم يستسغ ولي العهد إعفاء مساعده الأيمن الكومندار "بلير" أحد عملاء المخابرات الأمريكية والإسرائيلية في منتصف مايو 1960، أسبوعا واحدا فقط قبل إعدام الحكومة.

لحظات إحباط وغبن

فاوض الملك محمد الخامس عبد الله إبراهيم عدة أسابيع ليقبل منصب رئيس الحكومة بتزكية من الشيخ محمد بلعربي العلوي، وطبعت ظروف موافقة عبد الله إبراهيم تشكيل الحكومة التي ظلت تحمل اسمه حتى الآن، جملة من الأسباب ألزمته بالقدوم على ذلك رغم رفضه في البداية وعدم حماسه، وقد أثرت عليه ضغوطات أساتذته وأمير الثورة الريفية، محمد بن عبد الكريم الخطابي، وأقطاب القوى الحية في المجتمع المغربي آنذاك، بموازاة مع إلحاح الملك محمد الخامس إلى حد جعل الملك يخيره قائلا :" إما أن تقبل تشكيل الحكومة وإما أن أغادر نهائيا نحو مكة أو المدينة لأمكث هناك مبتعدا إلى أن يقبض الله روحي".
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي رفض فيها عبد الله إبراهيم الاستوزار، إذ سبق وأن عبر عن نفس الموقف بخصوص حكومة البكاي الأولى والثانية وحكومة بلافريج.
من المعروف أن عبد الله إبراهيم ناهض اتفاقيات "إيكس لي بان" جملة وتفصيلا، ومع ذلك تم إخباره ليلة تشكيل الحكومة الأولى (1955) بضرورة المشاركة فيها، ويرجع عبد الله إبراهيم هذا الأمر إلى أن قادة حزب الاستقلال كانوا يعتقدون بأن الحكومة لن تظل في موقع مريح إذا لم يشارك فيها، وذلك من باب اتقاء شره عبر إشراكه في اللعبة بأي شكل من الأشكال، وهذا ما سيتكرر بالتمام والكمال عشية تشكيل حكومة أحمد بلافريج في مايو 1958.
في البداية رفض عبد الله إبراهيم المشاركة في حكومة البكاي، وظل متشبثا بموقفه إلى آخر لحظة،إذ استمر ضغط الملك محمد الخامس عليه إلى حدود صباح الإعلان عن الحكومة في إحدى أيام دجنبر 1955، إذ قبل منصب كاتب دولة مكلف بالأنباء وناطق باسم الحكومة، علما أنه لم يتكلم بهذه الصفة إلا مرة واحدة طيلة مشواره.
وفي الحكومة الثانية التي ترأسها البكاي أيضا، اضطلع عبد الله إبراهيم بوزارة التشغيل والشؤون الاجتماعية، والتي دخل خلالها في صراعات مريرة مع الموالين للاستعمار وأصحاب رؤوس الأموال.
ورغم أن أحمد بلافريج كان من أعز أصدقاء عبد الله إبراهيم، لم يقبل هذا الأخير الاستوزار في حكومته (الحكومة الثالثة)،إذ كان يعتبره ضعيف الشخصية ولا تتوفر فيه المواصفات الضرورية ليضطلع بمنصب وزير أول، سيما في تلك الفترة العصيبة التي كانت تجتازها البلاد، إذ سرعان ما تجلى ضعف هذه الحكومة، التي أصابها الشلل الكلي بفعل نسف عبد الرحيم بوعبيد لها عندما قدم استقالته منها في 25 نوبر 1958.
لم يفهم الكثيرون، إلى حد الآن، لماذا قبل حزب الاستقلال، القوة السياسية الأولى آنذاك، إقامة أول حكومة للمغرب المستقل دون أن يتحكم فيها، عوض أن يديرها موالون للاستعمار، هم خونة الأمس، الذين ساقوا المغرب إلى متاهة تلو أخرى حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من إحباط تلو إحباط منذ 1956.
لقد قبل بعض قادة حزب الاستقلال المشاركة في حكومة البكاي غير المتجانسة، بل دخل بعضهم (رفاق عبد الله إبراهيم داخل زنزانة السجن المركزي بالقنيطرة) في مفاوضات سرية، دون علمه، قصد التمكن من الاستوزار فيها، وذلك رغم أن القصد من إنشاء هذه الحكومة بدا بوضوح لمتتبعي الأوضاع وقتئذ، حيث كان الهدف هو خلق حكومة على مقاس محميي الاستعمار والخونة والمعمرين الجدد، لكن بتزكية الحركة الوطنية، وهذا هو الخطأ الأصلي الذي اقترفه حزب الاستقلال. بل لم يكتف هذا الأخير بتزكية حكومة البكاي الأولى، وإنما ساند كذلك من حيث يدري أو لا يدري، الإقصاء الممنهج لرجالات المقاومة وجيش التحرير.
لقد أطلق على هذه الحكومة "حكومة التدبير والمفاوضات" علما أنها لم تكن تتوفر على وزارتي الدفاع والخارجية، وقد ترأسها مبارك البكاي الهبيل (باشا صفرو)، وهو أحد قدماء المحاربين في صفوف الجيش الفرنسي.

خيبة أمل

بعد إسقاط حكومته، أغلق عبد الله إبراهيم باب بيته، مكتفيا ببعض اللقاءات بين الفينة والأخرى، في حين كان المحجوب بن الصديق يعمل كل ما بوسعه لجعل الاتحاد المغربي للشغل مرتبطا بتعليماته الخاصة فقط دون سواه، بينما سار باقي رفاق عبد الله إبراهيم على درب البحث عن مختلف السبل للتخلص منه وإبعاده.
بدأ مسلسل الإحباط وخيبة الأمل منذ اكتشافه للمفاوضات السرية وهو قابع بإحدى زنازن السجن المركزي بالقنيطرة، فعندما كان أعضاء قيادة حزب الاستقلال بالسجن على خلفية الاحتجاج على مصرع فرحات حشاد، لاحظ عبد الله إبراهيم، ان كل من محمد اليزيدي وعبد الرحيم بوعبيد، اللذان كانا يقبعان بزنزانة محاذية لزنزانته، قد دأبا خلال شهور على زيارة إدارة السجن بطريقة مشبوهة.
ولما سألهما عن الأسباب، أجاباه بأنهما يذهبان من أجل قراءة الجرائد الفرنسية في الإدارة، إلا أن الصدمة كانت قوية عندما وقعت بيد عبد الله إبراهيم، صدفة صحيفة "لوبوتي ماروكان" وقد كانت موجهة إلى غيره، فوجد عليها عنوانا عريضا يفيد أن المفاوضات السرية مع قيادة حزب الاستقلال قد نجحت.
استشاط غضب عبد الله إبراهيم،ولما سأل كل من عبد الرحيم بوعبيد ومحمد اليازيدي تأكد له أن الأمر الذي اعتبره خيانة، سرعان ما سيتوج باتفاقيات "إيكس لي بان" و"سان كلو" كمقدمة لتوريط المغرب في متاهات رهيبة لازلنا نؤدي ثمنها حتى الآن، ومن هنا بدأت المؤامرة ضد حملة السلاح الجزائري، جيش التحرير ووحدات جبهة التحرير الوطني الجزائري ومنظمات المقاومة.
علما انه في هذا الوقت بالذات تم تصعيد عمليات تنفيذ أحكام الإعدام في حق المقاومين : إعدام 68 مقاوما سنة 1954 تلاها 26 إعداما آخر أواخر سنة 1955، لعل أبرزها إعدم حمان الفطواكي في 9 أبريل 1955، أي شهورا قليلة قبل تشكيل أول حكومة وطنية، إنها الخطيئة الكبرى التي أدت إلى خطايا أكبر منها على امتداد عقود بعد ذلك، وهكذا تمكنت فرنسا من ترك طابور خامس بين ظهرانينا من العيار الثقيل، من بين عناصره رجالات محسوبة على الحركة الوطنية ومقربة جدا من قيادة الدولة.
وشعر عبد الله إبراهيم مجددا بالمرارة عندما لجأ بعض رفاقه بالأمس إلى الكفاح المسلح لقلب النظام دون الاعتماد على قرار من القيادة الحزبية، وبذلك عرضوا الحزب لحملات قمع غير مسبوقة من 1960 إلى 1974 نتج عنها اعتقال ونفي وتشريد وإعدام واغتيال واختفاء عدد كبير من المقاومين والمناضلين، وزاد غبن عبد الله إبراهيم حين تَمَّ إبعاده عن مؤتمرات الحزب من 1972 إلى 1974.

مواقف ونوادر

سبق أن ورد في نشرة "الاختيار الثوري" انه على إثر المضايقات التي أضحى يتعرض لها جيش التحرير في الجنوب فيما بين 1958 و 1959 بعد عملية "إيكفيون"، حيث كان أحمد رضا اكديرة وزيرا للدفاع، أن استدعى ولي العهد (الحسن الثاني) عبد الله إبراهيم إلى فيلا السويسي، وخلال مجرى حديثهما قال الحسن الثاني " إن الملك هو كل شيء، أما الوزراء فليسوا معنيين ولا رأي لهم إلا من خلال الملك".. ثم أضاف "[...] في القرآن آية يطلب فيها موسى من ربه أن يجعل له هارون وزيرا من أهله..." فرد عليه عبد الله إبراهيم قائلا :"[...] تناسيت "أشركه في أمري" النصف الآخر من الآية، فأجابه الحسن الثاني بأن الإشراك متعلق بإرادة الملك.
كما أنه في مجرى هذا الحديث قال الحسن الثاني :"إن الأحزاب كواسطة بين الملك والشعب غير مقبولة من طرف الشعب نفسه [...] لولا الملكية التي تولت حماية الأحزاب لرجمها الشعب بالحجارة"، ثم بدأ يسخر باستعراض بعض الأسماء العائلية لبعض الحزبيين مثل "الفلوس وبن بركة"، معلقا.. "المهم ليس منها واحد اعتمد اسم الباز أو النسر، فكلها دواجن...". فأصيب عبد الله إبراهيم بصدمة، وفور خروجه من فيلا ولي العهد اتصل بالمهدي بن بركة ليؤكد له أن مفهوم الحزب بخصوص الحكم لا يمكن أن يلتقي في يوم من الأيام مع مفهوم القصر.
وكشف محمد لومة نادرة غريبة لم يسبقه إليها أحد، ففي نهاية إحدى الجلسات التي جمعت الملك وقادة الكتلة الوطنية فيما بين نونبر 1971 وأبريل 1972، وكان الوقت ليلا، وضع الملك الحسن الثاني سلهامه على عبد الله إبراهيم وهو يودعه على عادته مع كبار ضيوفه كعربون رضا عنهم وعلامة على الارتياح لهم، إلا أن عبد الله إبراهيم بمجرد أن وصل إلى منزله سحب سلهام الملك من على ظهره وسلمه إلى سائق سيارة القصر الملكي، ملتمسا منه إعادته فور رجوعه إلى صاحبه، ولم يتقبل الحسن الثاني رفض هديته فامتلكه غضب شديد، إذ لم يكن متعودا على أن يرفض أحد هداياه.
كما أكد محمد لومة، على لسان عبد الغني برادة، أن عبد الله إبراهيم دأب على رفض إرسال ملفاته الطبية الشخصية والعائلية إلى التعاضدية العامة للتربية الوطنية رغم أنه يعتبر عن منخرطيها، إذ كان يفضل تحمل مصاريف علاجه وعلاج أسرته اعتمادا على إمكانياته المادية الخاصة رغم واجب الانخراط الذي ظل يقتطع من راتبه الشهري كأستاذ جامعي.
لقد عرف عن عبد الله إبراهيم رفضه بلطف وديبلوماسية كافة المساعدات الرسمية الصادرة عن أية جهة، وفي هذا المضمار يقر محمد لومة أن صدام حسين حاول جاهدا تقديم مبالغ مالية مهمة لصديقه عبد الله إبراهيم الذي ظل يرفضها باستمرار، معتبرا أن النضال بمقابل مادي من الخارج لا يمكن أن يكون نضالا سليما، هذا في وقت نال العديد من رفاق عبد الله إبراهيم والقادة المغاربة حصتهم الوفيرة من إكراميات الرئيس العراقي السابق.
رفض عبد الله إبراهيم على مدى أكثر من ثلاثين سنة تقاضي راتب التقاعد كرئيس سابق للوزراء، وقد تم كشف هذا الأمر حينما أسر محمد كريم العمراني (الوزير الأول السابق) للملحق الصحفي بديوان عبد الله إبراهيم، محمد العلمي، بأنه رفض عرض الملك الحسن الثاني القاضي باستفادته من راتب تقاعدي قدره 70 ألف درهم شهريا وذلك بأثر رجعي، إذ أبلغ الملك أنه يفضل الاكتفاء بأجره كأستاذ جامعي.
أصدرت حكومة عبد الله إبراهيم قانونا مؤرخا في فاتح يونيو 1959، جعل الوزراء في صف الملك والأمراء، يعاقب الذين ينتقدونهم بمثل العقوبات المنصوص عليها بخصوص الطعن في شخص الملك وفي (الذات الملكية)،كما أنه في عهد هذه الحكومة تم اغتيال عدد من المناضلين، وتعرضت الحرية والتعددية النقابية للتضييق (إذ تم رفض الاعتراف بالاتحاد العام للشغالين).

مقتطفات من مذكرات عبد الرحيم بوعبيد

في بداية الثمانينات غضب الملك الراحل الحسن الثاني غضبة مستطيرة على عبد الرحيم بوعبيد، بميسور، وهي منطقة نائية محسوبة على ما كان يسمى بـ "المغرب غير النافع" في عرف الاستعمار الفرنسي ومن ظلوا موالين له حتى بعد حصول المغرب على استقلاله الأعرج.
آنذاك خلال الأيام التي تلت إطلاق سراح عبد الرحيم بوعبيد يوم 3 مارس 1982 بعد الإقامة الجبرية، استقبله الراحل الحسن الثاني في لقاء خاص بالقصر الملكي بمراكش، ودار بين الرجلين حديث خاص، مما جاء فيه :"سأل الملك عبد الرحيم بوعبيد: إذن، عبد الرحيم، أنت غير حاقد علي؟".
عبد الرحيم بوعبيد : أبدا يا جلالة الملك لكنني أشعر بنوع من الأسف، وأتحسر على أنني لم أحظ بالوقت الكافي للانتهاء من كتابة مذكراتي...".
وفعلا حاول عبد الرحيم بوعبيد استكمال مذكراته بميسور، إلا أنه لم يتمكن من إتمامها وتركها على شكل مخطوط، معنون بـ "مذكرات طريق مناضل" (والتي هي بحوزة مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد الآن)، (1942-1961) نسوق منها هذه المقتطفات المرتبطة بعبد الله إبراهيم والحكومة التي ترأسها في عهد الملك الراحل محمد الخامس.
".. وكان الفريق الحكومي [يعني الكاتب حكومة عبد الله إبراهيم]، الملغوم من الداخل بوزراء متورطين مع المعارضة، من قبيل يوسف بلعباس قد استطاع البقاء، ودام بقاؤه أزيد من 15 شهرا، وهو ما يعد رقما قياسيا بالمقارنة مع الفرق السابقة له منذ 1965.
فقد نددت البرجوازية المنتسبة إلى حزب الاستقلال وثارت ثائرتها ضد الإجرءات المطبقة على مستوى الصناعة والتجارة الخارجية والعملة والقرض، كما ناهضت برجوازية أخرى، هي برجوازية الفلاحين الكبار، على غرار الاتحاد المغربي للفلاحة، الحليفة بدورها للاستقلال ولتيارات أخرى غيره، معلنة عن أهدافها التي كانت تتمثل في امتلاكها، بأي وسيلة من الوسائل، لأفضل الضيعات التي بحوزة المعمرين الأجانب.
فتم تقديم الإصلاح الزراعي، الذي تبناه المخطط الخماسي ( 1960-1965)، بالرغم من اعتداله ودقته، كما لو انه عمل يحول الفلاحة المغربية إلى نموذج سوفياتي أو "سفيتتها"[...] وكانت هذه البرجوازية، مسخرة ومستخدمة من طرف الشركات الرأسمالية الفرنسية بطريقة واضحة للعيان، فكانت صحافة الاستقلال، صحافة البرجوازية الحضرية أو القروية لأنها، أحيانا بدون تمييز تردد على طول صفحاتها نفس الحجج ونفس مواقف الرأسمالية الأجنبية، وخلاصة القول في ذلك إن البلاد متجهة نحو الكارثة والمغرب يسير في اتجاه إقرار نظام قريب من الشيوعية بهذا القدر أو ذاك، متنكرا بذلك لتقاليده الدينية والثقافية، وحزب الاستقلال [...] كان هو رأس الحربة في عملية النسف هاته.
لم يكن ولي العهد (الملك الحسن الثاني) بدوره يتردد في استعمال السلطة المرتبطة باسمه وبمكانته للعمل بشكل مباشر ضد الحكومة الشرعية التي نصبها والده نفسه، فقد صرح أزيد من مرة أنه أول معارض وكان تصرفه سياسويا بدون تحفظ.
[...] ولا أبالغ إذا ما قلت بأنني كنت هدفا لكل هذه المعارضات والعدو اللدود الذي يجب القضاء عليه.
بيد أن معالم الاستقلال الاقتصادي للمغرب كان قد تم وضعها في ماي 1960 [...] وإنشاء قطاع عمومي يلعب دور المحرك لقوة الدفع : المركب الكيماوي بأسفي ومعمل الصلب والحديد بالناظور، إنشاء وحدات صناعية من أجل تركيب وصناعة الشاحنات (اتفاقية المغرب ـ بيرلي) وتركيب الجرارات وصناعتها (اتفاق لابورليي)، إنشاء وحدة صناعة العجلات (اتفاقية جنرال طاير)، وصناعة مركب للوحدات النسيجية (منها كوفيسط بفاس)، وإنشاء محطة لتكرير النفط بالمحمدية (سامير) واتفاقية ماطيي التي كانت في طور الإعداد لتركيب وصناعة السيارات (صوماكا) وتأميم مناجم جرادة والشركة الشريفة للبترول وتأميم استيراد الشاي والسكر وبدء العمل بتعريفة جمركية جديدة، مع التوجه نحو حماية منتوجاتنا الوطنية...
فبالنسبة للطبقة العاملة ومختلف الطبقات الشعبية، كما في أعين جزء كبير من البرجوازية المتوسطة، كانت مثل هذه الأعمال الملموسة تبشر فعلا بمستقبل أفضل، مما نجم عنه في الحياة الاجتماعية اليومية نوع من الانقسام بين الذين يجعلون من أنفسهم ورثة الحماية، مقابل الأغلبية الكبيرة التي وعت بأن إرث الفترة الاستعمارية لابد من أن يوضع في خدمة مجموع الشعب المغربي، وهكذا اندلع صراع طبقي حقيقي، وقد كان حزب الاستقلال يجتهد في صحافته وتصريحاته من أجل نفي هذا "الصراع الطبقي"، مع الدفع بأن الأمر لا يعدو أن يكون شعارا مستوردا من الخارج مناهضا لمبادئ الإسلام، كما لو أن مبادئ الإسلام تمنح الحرية للأقلية من البرجوازية الكبرى لكي تستولي، بدون عمل ولا جهد على الثروات المادية للبلاد عبر نفوذها في الإدارة والحكومة ومن خلال سبل وطرق المضاربة، ولهذا بدا أن العقبة التي لابد من المضاربة عليها، هي "هذه الحكومة" التي ظلت قائمة مدة تقارب 15 شهرا".
وجاء في مذكرات عبد الرحيم بوعبيد، أنه تلقى في غضون منتصف شهر ماي 1960 مكالمة هاتفية من طرف ولي العهد (الملك الحسن الثاني) دعاه فيها إلى عشاء رأسا لرأس، ودار بينهما حديث طويل دام أزيد من ثلاث ساعات، لم يكشف عن فحواه إلا القليل، ونقتطف منه ما يلي:"
- الأمير: لقد قرر جلالة الملك وضع حد لمهام الحكومة الحالية، وهناك فريق آخر قيد التشكيل، لقد وصلنا مرحلة المشاورات النهائية وقد أمرني جلالة الملك بإخبارك رسميا.
- بوعبيد : أشكر سموك على دعوتك هاته، وعلى الإخبار الذي قدمته لي، لكن أستسمحك في التعبير عن مفاجأتي، ذلك أن جلالة الملك باعتباره رئيس الدولة، هو الذي يعود إليه أمر هذا الإخبار، بصفة رسمية، وحسب الأعراف، للفريق الحكومي كله.
- الأمير : لنقل إنه إجراء شبه رسمي، لكنه في ظرف أيام قليلة سيرسم كما تقتضيه الأعراف، لكن المهم في هذا المسعى الذي أمر به جلالة الملك، هو أن أعرض عليك تولي مهام وزارة الخارجية داخل الفريق الجديد، ولابد من أن أوضح لك بأن جلالته يلح على هذا الأمر بشكل خاص.
- بوعبيد : قبل الإجابة على العرض الذي تشرفت به، اسمح لي سموك بإبداء ملاحظة أولية، مادام الأمر يتعلق بحوار شبه رسمي، خلال تنصيب الفريق الحالي، يوم 24 دجنبر 1958، إذ قيل وقتها، في الخطاب الرسمي للتنصيب بأن الحكومة الجديدة ستتولى مهامها إلى ما بعد الانتخابات الجماعية، وإن تشكيلة جديدة ستتأسس على ضوء نتائج هذه الانتخابات الجماعية، بمعنى حكومة أكثر تمثيلية لمختلف توجهات الرأي العام، والحال أنه بالرغم من تباطؤ وزارة الداخلية، وبعد مشاورات الأحزاب السياسية حول نمط الاقتراع في يونيو 1959 أقرّ ظهير صادق عليه جلالة الملك تنظيم الانتخابات الجماعية بالاقتراع الأحادي [..] وفي دجنبر سجل الناخبون أنفسهم في اللوائح الانتخابية، ولم يبق سوى تحديد تاريخ الانتخابات، فلماذا إعفاء الحكومة قبل الانتخابات؟
- الأمير : لقد قرر الملك ذلك [...].
- بوعبيد : من هو رئيس المجلس الحكومي؟
- الأمير : ولي العهد، أنا شخصيا.
بوعبيد : لكن يا سمو الأمير، يصعب علي تصديق هذا الأمر، فأنا لا أرى وليا للعهد ومستشارا لجلالة الملك يضع نفسه على رأس الحكومة، اللهم في ظروف استثنائية حقا، ذلك لأن "الحكم" كما يقال هو "الاختيار"، وعليه، سيكون عليك أن تختار مسؤوليتك السياسية بين هذا التوجه وذاك، على المستوى الاقتصادي، الثقافي والاجتماعي وفي مجال السياسة الخارجية، فالرجل السياسي العادي ينخرط بكل مسؤوليته السياسية عندما يقدم على اختيار معين، فإذا نجح في عمله لن يكون قد قام سوى بما أملاه عليه ضميره وتحليله للوضعية، وإذا أخفق، لن يكون أمامه سوى أن يستقيل أو أن ينحى من طرف الحاكم الأعلى، جلالة الملك. هذا هو النظام وهي ذي قواعد اللعبة حتى في ديمقراطية غير كاملة كما هي ديمقراطيتنا...
مبدئيا، إن أميرا، وليا للعهد، يمثل استمرارية نظام الملكية، لا يمكن أن يتعهد بمسؤوليته السياسية، إذ لا يمكن مجازاتك أو محاسبتك، فإن عبّرت الحكومة عن عدم موافقتها على أي إجراء كان، فإنها ستعارض ولي العهد، لأن هذه الصفة ستظل، بالرغم من كل شيء هي المهيمنة والغالبة، وهنا لست بصدد شكلانية قانونية، بل أحاول أن أتصور أوضاع ووضعيات ملموسة، بكل صراحة لا أتفهم الأسباب التي تدفعك إلى تولي رئاسة الحكومة.
الأمير: لقد قدرت الأمور من جانبها السلبي والإيجابي معا، وقد تنبأت بالاعتراضات التي ستقوم بها.. لكن القرار قد اتخذ. وإذا كان جلالة الملك وأنا قد فكرنا في مشاركتك فذلك ليكون الفريق الجديد ممثلا لكل الاتجاهات، لا تظن على وجه الخصوص أنني أعارض كل الإجراءات التي اتخذتها، ففي العمق أنا أيضا اشتراكي.
ع. بوعبيد: يمكنك أن تكون اشتراكيا كإنسان أو كمواطن، لكن لا يمكنك أن تكون اشتراكيا كولي للعهد...[...]
الأمير: طيب سأقدم تقريرا لجلالة الملك عن هذا اللقاء، وعلى كل سيتم استدعاؤك للمشاورة كما تقتضي الأعراف ذلك".
[وقبل الوداع]
"الأمير: أنت لا تفهمني، يا عبد الرحيم، لكن باعتبارك صديقا سأقول لك (ما في الأمر): أنت لا ترى فيّ سوى ولي العهد فقط، والحال أنني مناضل مثلك، وإنسان مثلك، يحذوني الطموح إلى لعب دور في حياة بلادي. أنت تعرف أن أبي لازال شابا. وأنا لن أنتظر حتى أضع طاقم أسنان لكي أخلفه.. هو ذا عمق تفكيري...
لربما ستركب القطار وهو يسير، في يوم من الأيام، فمن يدري".
ويعلق عبد الرحيم بوعبيد على فحوى هذا اللقاء في مذكراته: "هل كانت تلك هي الإرهاصات الأولى لتحول سيطرأ على الوضع، والعودة إلى تصور يؤمن بالملكية المطلقة، تستند تبريراته إلى انقسام الأحزاب السياسية وإرادة العالم القروي، وهي الإرادة المعبر عنها من طرف الأعيان الجدد، أبناء وأقارب القواد والباشوات، الخدام السابقون لإدارة الحماية؟ سيبيّن توالي الأحداث أن التوجه كان هو ذاك فعلا.
ابتداء من 26 مايو 1960، شرع محمد الخامس في المشاورات من أجل تشكيل الفريق الحكومي الجديد، وإن كان إجراءا شكليا فقط، لأن المسألة كلها سويّت قبل أيام من هذا التاريخ، بيد أنه حصل مع ذلك تغيير مقارنة مع الخطة الأصلية، إذ إن بعض الشخصيات من بين المؤهلين للوزارات، من أمثال عبد الكريم بنجلون، ألحّوا على الملك كي يتولى هو نفسه رئاسة المجلس الحكومي، على أن يكون ولي العهد نائب الرئيس فقط [...]".
ويضيف عبد الرحيم بوعبيد "[..] بدا لي جلالته (محمد الخامس) محرجا أو مكدر البال نوعا ما، حيث يكاد يكون مستسلما [..]
عند نهاية الصبيحة، تم بث الخبر رسميا، وأصبح ولي العهد نائب رئيس المجلس (الحكومي)، جامعا حوله ممثلي مختلف تيارات المعارضة.
بعد أيام قليلة، تم التفويض لولي العهد من نائب رئيس المجلس الحكومي بكل سلطات رئيسه، وعيّن أحمد رضا اكديرة المدير العام لديوانه، وبذلك، أصبح هذا الرجل، الذكي، الذي لا ماضي وطنيا له، مفتاح الفريق الجديد، وكان يستمد سلطته من ثقة الأمير – الر ئيس، فقد كان مصنفا، من لدن قادة الحركة الوطنية، لاسيما في فترة ما بين 1950 و1955 من ضمن "الشباب الجديد" الذي تعول عليه الحماية.

مقالات ذات صلة