فلسفات اللاّوعي، من بينها فلسفة موت الواقع، والتي يُعتبر جان بودريار ممثلها الأبرز، تبنّت تأويلاً معيناً لكل من فرويد، ماركس ونيتشه، ابتغت من ورائه تقويض سلطة الوعي ومرجعيته، لكنها وفي المقابل، تناست بأنّ وظيفة التحليل النفسي كانت هي تحرير الوعي من تسلط اللاّوعي؛ إذ لم يكن هدف فرويد من اكتشاف اللاّشعور وآليات تأويل الأحلام، أن يمجد اللاّوعي ويمنحه السيادة على حرية الإنسان وإرادته، وإنما كان مبتغاه أن يجعل الوعي سيد نفسه ويحرره قدر الإمكان، من نوازع ودوافع اللاّشعور، كان يروم بالذات، إلى حماية مبدإ الواقع من الأوهام، بيد أنّ فلسفات اللاّوعي وموت الواقع، كما جسدها كل من باطاي، وفوكو، وديريدا وبودريار، وآخرون، أهملت كافة الوظائف العلاجية للتحليل النفسي، وجعلتها تندرج ضمن الوظائف القمعية للحداثة وللمؤسّسات الحديثة.
أغفلت فلسفات اللاّوعي أيضاً، الوظيفة التحريرية للماركسية، والتي كان هدفها تحرير وعي الناس من الاستلاب والاغتراب، ومن كافة أشكال الوعي الزائف، وعوض ذلك، فإنها جعلت الوعي الإنساني وعياً بئيساً، يائساً ومستسلماً لقدر صيرورة زاحفة وعمياء؛ هي في الأخير، صيرورة بلا عقل ولا ذات ولا إرادة. وهنا بالذات تكمن أزمة اليسار العالمي، حين استند كثيراً على الكثير من مفاهيم فلسفات اللاّوعي، علماً بأن معظم فلاسفة اللاّوعي الفرنسيين انخرطوا في صفوف اليسار العالمي واليسار الجذري في فرنسا.
وإذا كانت الغاية المنسية لفلسفة نيتشه هي تحرير إرادة الإنسان واندفاعاته الحيوية، من كافة الوصايا والألواح والأوثان، ومن أجل ذلك نراه لم يدّخر جهداً في نقد وتقويض أخلاق المسيحية ومبادئ الثورة الفرنسية على حد سواء، فإنّ الهدف الأسمى والغاية القصوى لفلسفات اللاّوعي، كانت هي اغتيال الإرادة، قبل الزّعم بأنها وُلدت ميتة منذ البداية.
لقد قرأ بودريار اعتداءات الحادي عشر من شتنبر قراءة نيتشوية، داعياً إلى النظر إليها بمعزل عن الخير والشر(1)، لكنّه في المقابل، وانسجاماً مع منظوره، قام بتقويض مبدأ الإرادة حتى لدى الإرهابيين أنفسهم، والذين كانت إرادتهم، وفق قراءته، إرادة بلا قصد، وكان وعيهم، كما رآه، وعياً بلا موضوع؛ الإرهابيون لم يكونوا فاعلين في الجريمة، طالما أن جريمتهم، لم تكن سوى إفراز، لا حول لهم فيه ولا قوّة، لجريمة أصلية، جريمة هي الأخرى بلا فاعل رئيسي، أو لنقل أن فاعلها مبني للمجهول، حتى ولو اصطلحنا على هذا الفاعل اسم "السستام"، ذلك المصطلح الذي استخدمه بودريار للدّلالة على العولمة الرّأسمالية، والتي هي في الأخير، مفعول بلا فاعل، حركة بلا محرك، وأثر بلا إرادة.
إن كانت فلسفات اللاّوعي، والتي من ضمنها فلسفة موت الواقع البودريارية، قد حاولت أن تستمدّ مشروعيتها الفلسفية، ضمن رؤية ما بعد حداثية، انطلاقاً من تأكيد فرضية أن القوى الأساسية المتحكمة في الإنسان، تظلّ منفلتة من قبضة الوعي، إلاّ أنها استمدت مشروعيتها السياسية، ضمن رؤية يسار عالمي جديد، يصطلح عليه بيسار ما بعد الحداثة، أو اليسار النتشوي، أو يسار الأقليات، انطلاقاً من ادعاء أنّ فلسفات الوعي (العقلانية والتنوير)، قد أخفقت في حماية الديمقراطية وحرية الإنسان، بل إنّ مفاهيم فلسفات الوعي، من قبيل الحقيقة، المعنى، الذات، الهوية، العقل، التاريخ، الإنسان، إلخ…هي التي قادت إلى ظهور قادة مستبدين، مثل روبسبيير، بسمارك، هتلر، ستالين، وغيرهم ممن انتزعوا مشروعية عنفهم وتسلطهم من ادعائهم حماية الحقيقة والهوية والوعي والذات. من هنا كان اعتقاد فلسفات اللاّوعي أن الديمقراطية ستغدو "لاديكارتية" هذه المرّة؛ بمعنى أنها ستكون ديمقراطية من دون ذات فاعلة، تماماً كما سبق لليو شتراوس أن اعتبر بأنّ مستقبل الديمقراطية سيكون هذه المرّة خارج الحداثة السياسية.
لكن السؤال الذي يواجهنا الآن:
هل يمكننا أن نتحدّث بالفعل، عن نظام ديمقراطي، وتبعاً لذلك عن وجود مواطن يتفاعل ويشارك ويقرر ويحتج، خارج الأفق الميتافزيقي للذات الديكارتية وللأنا الواعية والمفكرة؟
إذا استحال وجود نظام ديمقراطي لا يكون فيه المواطنون ذواتاً فاعلة، ذواتاً تدرك بأنها، تفكر، تريد، تقرر، وتشارك في القرار، فسيغدو وقتها، دفاع فلسفات اللاّوعي عن الديمقراطية، مجرّد ادعاء غير مسنود بأي أساس أنطولوجي.
عدا إذا جرى الاتفاق على تعريف جديد للديمقراطية، يختزلها في مجرّد صناديق اقتراع يقوم فيها ناخبون غير فاعلين بانتخاب حكام غير فاعلين بدورهم، لغاية تطبيق نفس البرامج الاقتصادية والمشاريع التنموية والمناهج التربوية، المقرّرة والمملاة سلفاً من قِبل أسواق المال العالمية.
هذا الاتجاه الذي يبتغيه الكثيرون، ينسى شيئاً مؤكداً؛ لا وجود لديمقراطية "لاديكارتية".
هامش:
1 – Le monde 3 novembre 2001.
أغفلت فلسفات اللاّوعي أيضاً، الوظيفة التحريرية للماركسية، والتي كان هدفها تحرير وعي الناس من الاستلاب والاغتراب، ومن كافة أشكال الوعي الزائف، وعوض ذلك، فإنها جعلت الوعي الإنساني وعياً بئيساً، يائساً ومستسلماً لقدر صيرورة زاحفة وعمياء؛ هي في الأخير، صيرورة بلا عقل ولا ذات ولا إرادة. وهنا بالذات تكمن أزمة اليسار العالمي، حين استند كثيراً على الكثير من مفاهيم فلسفات اللاّوعي، علماً بأن معظم فلاسفة اللاّوعي الفرنسيين انخرطوا في صفوف اليسار العالمي واليسار الجذري في فرنسا.
وإذا كانت الغاية المنسية لفلسفة نيتشه هي تحرير إرادة الإنسان واندفاعاته الحيوية، من كافة الوصايا والألواح والأوثان، ومن أجل ذلك نراه لم يدّخر جهداً في نقد وتقويض أخلاق المسيحية ومبادئ الثورة الفرنسية على حد سواء، فإنّ الهدف الأسمى والغاية القصوى لفلسفات اللاّوعي، كانت هي اغتيال الإرادة، قبل الزّعم بأنها وُلدت ميتة منذ البداية.
لقد قرأ بودريار اعتداءات الحادي عشر من شتنبر قراءة نيتشوية، داعياً إلى النظر إليها بمعزل عن الخير والشر(1)، لكنّه في المقابل، وانسجاماً مع منظوره، قام بتقويض مبدأ الإرادة حتى لدى الإرهابيين أنفسهم، والذين كانت إرادتهم، وفق قراءته، إرادة بلا قصد، وكان وعيهم، كما رآه، وعياً بلا موضوع؛ الإرهابيون لم يكونوا فاعلين في الجريمة، طالما أن جريمتهم، لم تكن سوى إفراز، لا حول لهم فيه ولا قوّة، لجريمة أصلية، جريمة هي الأخرى بلا فاعل رئيسي، أو لنقل أن فاعلها مبني للمجهول، حتى ولو اصطلحنا على هذا الفاعل اسم "السستام"، ذلك المصطلح الذي استخدمه بودريار للدّلالة على العولمة الرّأسمالية، والتي هي في الأخير، مفعول بلا فاعل، حركة بلا محرك، وأثر بلا إرادة.
إن كانت فلسفات اللاّوعي، والتي من ضمنها فلسفة موت الواقع البودريارية، قد حاولت أن تستمدّ مشروعيتها الفلسفية، ضمن رؤية ما بعد حداثية، انطلاقاً من تأكيد فرضية أن القوى الأساسية المتحكمة في الإنسان، تظلّ منفلتة من قبضة الوعي، إلاّ أنها استمدت مشروعيتها السياسية، ضمن رؤية يسار عالمي جديد، يصطلح عليه بيسار ما بعد الحداثة، أو اليسار النتشوي، أو يسار الأقليات، انطلاقاً من ادعاء أنّ فلسفات الوعي (العقلانية والتنوير)، قد أخفقت في حماية الديمقراطية وحرية الإنسان، بل إنّ مفاهيم فلسفات الوعي، من قبيل الحقيقة، المعنى، الذات، الهوية، العقل، التاريخ، الإنسان، إلخ…هي التي قادت إلى ظهور قادة مستبدين، مثل روبسبيير، بسمارك، هتلر، ستالين، وغيرهم ممن انتزعوا مشروعية عنفهم وتسلطهم من ادعائهم حماية الحقيقة والهوية والوعي والذات. من هنا كان اعتقاد فلسفات اللاّوعي أن الديمقراطية ستغدو "لاديكارتية" هذه المرّة؛ بمعنى أنها ستكون ديمقراطية من دون ذات فاعلة، تماماً كما سبق لليو شتراوس أن اعتبر بأنّ مستقبل الديمقراطية سيكون هذه المرّة خارج الحداثة السياسية.
لكن السؤال الذي يواجهنا الآن:
هل يمكننا أن نتحدّث بالفعل، عن نظام ديمقراطي، وتبعاً لذلك عن وجود مواطن يتفاعل ويشارك ويقرر ويحتج، خارج الأفق الميتافزيقي للذات الديكارتية وللأنا الواعية والمفكرة؟
إذا استحال وجود نظام ديمقراطي لا يكون فيه المواطنون ذواتاً فاعلة، ذواتاً تدرك بأنها، تفكر، تريد، تقرر، وتشارك في القرار، فسيغدو وقتها، دفاع فلسفات اللاّوعي عن الديمقراطية، مجرّد ادعاء غير مسنود بأي أساس أنطولوجي.
عدا إذا جرى الاتفاق على تعريف جديد للديمقراطية، يختزلها في مجرّد صناديق اقتراع يقوم فيها ناخبون غير فاعلين بانتخاب حكام غير فاعلين بدورهم، لغاية تطبيق نفس البرامج الاقتصادية والمشاريع التنموية والمناهج التربوية، المقرّرة والمملاة سلفاً من قِبل أسواق المال العالمية.
هذا الاتجاه الذي يبتغيه الكثيرون، ينسى شيئاً مؤكداً؛ لا وجود لديمقراطية "لاديكارتية".
هامش:
1 – Le monde 3 novembre 2001.