HakaikPress - حقائق بريس - جريدة الكترونية مستقلة

"أش بغيتي الوظيفة سير تبيع ماطيشة"


*رشيد مرزاق
الجمعة 18 ماي 2012




"أش بغيتي الوظيفة سير تبيع ماطيشة"
لا يكاد يمر علينا يوم في المغرب دون أن نسمع عبارات أو أقوال بليغة دخلت إلى قاموسنا الدارج للدلالة على ظواهر اجتماعية وثقافية تعتبر نتاجا خالصا لذهنية الإنسان المغربي. ومن ذلك قولنا "إذا كنت في المغرب فلا تستغرب"، وهو في الواقع أبلغ توصيف لما نعيشه اليوم من أحداث قد يستعصى فهمها حتى على أعقل العقلاء وأحكم الحكماء؛ إذ كيف يمكن مثلا تفسير تشبث العاطلين- أو المعطلين- بضرورة العمل في الوظيفة العمومية دون سواها ودون اجتياز مباريات تعطي لكل ذي حق حقه وفق مبدأ الجدارة والاستحقاق! ولماذا كل هذا التهافت على الوظيفة العمومية ورفض، أو على الأقل تجاهل، فرص العمل في القطاع الخاص رغم ما يمكن أن يوفره هذا الأخير من امتيازات ومنافع لا يمكن تحقيقها في سواه!

لِقائل أن يقول إن الدستور في منطوقه يكفل للمواطنين والمواطنات، على قدم المساواة، حق الشغل اللائق؛ هذا صحيح، لكن ذات الدستور قيّد هذا الحق بمبدأ الشفافية والاستحقاق (الفصل 31). وبذلك فإن حق الخريج في التوظيف لا مراء فيه بيد أنه لا يعني بالضرورة توظيفا في قطاع دون آخر أو تعيينا عشوائيا قد يضر بالقطاع أكثر مما ينفع صاحب الوظيفة. إن أفضل طريق لتحقيق مبدأ الشفافية والاستحقاق هو إلغاء العمل بما يسمى التعيين المباشر في سلك الوظيفة العمومية وتعويضه بمباريات تخضع لشروط محددة وصارمة.

إن الاطمئنان لوظيفة عمومية "مضمونة" بما توفره من "امتيازات"، لهو باعتقادي اطمئنان قد يكون زائفا فيثني المرء عن الاجتهاد وبذل الجهود بغية تطوير الذات والأداء. ذلك أن مفهوم الأمان الوظيفي الذي اقترن بالقطاع العام قد نُقش عميقا في عقلية الأفراد في مجتمعنا فصارت الوظيفة العمومية (أو الخْدْمة مع الدولة/المخزن) حلما ذهبيا يسعى إليه الجميع مهما كلفهم ذلك من ثمن حتى وإن تطلب ذلك التخلي عن قيمة من القيم الأخلاقية أو التنازل عن قسط يسير أو وفير من الكرامة، بل قد يصل الأمر حد حرق النفس أمام الملأ. وترى الناس في سباق محموم بحثا عن ذوي النفوذ للتوسط لهم في الحصول على منصب في هذه الإدارة أو تلك حتى وإن كان الراتب لا يكفي لأداء فواتير الماء والكهرباء الشهرية. فالمهم هنا هو الحصول على لقب موظف لدى الدولة، أما البقية فمجرد تفاصيل. ويجد هذا التقليد الراسخ تعبيرا له في لغتنا المحكية ضمن العديد من الأقوال المأثورة مثل "قليل ومداوم أحسن من كثير ومقطوع" و"المانضة ديال الدولة مضمونة"، وغير ذلك كثير.

لعل ما يجذب الخريجين والخريجات أكثر إلى الوظيفة العمومية- فضلا عن طابعها الأزلي- هو ما تقدمه من "مزايا" لا رجعة فيها، مثل راتب شهري- غثاً أو سمينا- لا ينقطع إلا بحلول التقاعد ليتحول إلى معاش مدى الحياة، وساعات العمل القليلة نسبيا، وكثرة العطل، وليونة التعامل من قبل الرؤساء المباشرين وغير المباشرين، وطبيعة العمل المتسمة باليسر والتكرار- في بعض الوظائف على الأقل.

لكن هذه "النعم" تحمل بين ثناياها نقماً لا يحس بها الموظف إلا بعض قضاء سنوات من عمره في المنصب؛ ولكم أن تسألوا كم من مدرس تقلص إلى مجرد تلميذ مجتهد، وكم من موظف جماعي صار زبونا للمقاهي في كل وقت وحين. كما أنها مجال تكاد تنعدم فيه شروط المنافسة والتحفيز على العطاء، حيث فئة واسعة من الموظفين تتسلق، أو بالأحرى يتم رفعها، درجات أعلى بالسلم الوظيفي اعتماداً على معايير قد تكون بعيدة كل البعد عن مبدأ الاستحقاق أو المردود، من قبيل معيار الأقدمية في المنصب أو الشهادة المحصل عليها، والتي غالبا ما تكون غير ذات نفع مباشر بالنسبة لطبيعة الوظيفة وأدائها. ولئن كانت بعض المباريات المهنية تُنَظم بين الفينة والأخرى في قطاعات عمومية معينة من أجل تقييم وترقية فئة قليلة وربما محظوظة من الموظفين؛ إلا أن ذلك لا يجسد المنافسة بمفهومها الشامل بحيث تبقى هذه المباريات حكرا على فئة دون أخرى وتخضع في الغالب لمعايير غير موضوعية محورها الأقدمية في المنصب وأمور أخرى لا يعلمها إلا الراسخون في هندسة مثل هذه المباريات. وهذا ليس انتقاصا من شأن الوظيفة العمومية- وما ينبغي لنا ذلك- ولا ينفي بأي حال من الأحوال كون هذا القطاع يأوي في دواليبه خيرة الأطر ولا يعدم ذوي الكفاءات والهمم العالية ممن يعملون في صمت وتضحية ونكران ذات، هدفهم الأسمى خدمة الوطن والمواطنين، كلُّ من موقعه الخاص.

إلا أن القطاع الخاص، وفضلا عن كونه يوفر للموظف في الغالب راتبا أعلى بكثير مما يحصل عليه نظيره في القطاع العام، مجال خصب وبيئة إبداع مثالية لكل من يبحث عن تطوير مؤهلاته وشحذ مهاراته ضمن جو يتسم بالتنافسية الشرسة وفق مبدأ البقاء للأصلح. فذلك الإحساس الجميل بضرورة الكفاح حرصا على عدم فقدان منصبك لصالح هذا المنافس القوي أو ذاك المتربص للانقضاض عليك وأخذ مكانك متى تهاونت، يجعلك في حالة تأهب قصوى للذود عن حوزة ترابك الوظيفي. ولا يتأتى ذلك إلا بالسعي الدءوب لاكتساب المزيد من الخبرات وتدارك كل النقائص التي تشوب أداءك المهني من خلال استثمار بعض المال في الدورات التكوينية والتدريبات المهنية لدى المؤسسات الرائدة في هذا المجال، ناهيك بالتكوين الذاتي في كل وقت وحين. كما أن الاحتكاك بزملاء العمل من ذوي الخبرات العالية يكسبك مزيدا من الاحترافية والرغبة في التفوق عليهم وإثبات جدارتك أمام رؤسائك في العمل ابتغاء الترقية أو الحصول على مكافآت يتم توزيعها بنحو دوري بناء على تقييم صارم ودقيق للأداء. ومن هنا يتخذ مفهوم الوظيفة "المضمونة" إطارا مختلفا لدى الموظف في القطاع الخاص، إذ يغدو ضمان المنصب الوظيفي أمرا يسيرا بحكم التوفر على الكفاءة العالية التي تجعل من الحصول على وظيفة جديدة أو الانتقال منها إلى وظائف أخرى أفضل، أمرا في المتناول. وأنا هنا أتكلم من موقع المُجرب- وليس الطبيب- إذ قضيت خمس سنوات (شبه عجاف) موظفا في القطاع العمومي قبل أن يفك الله أسري وأنطلق في أرض الله الواسعة بحثا عن آفاق نجاح أرحب وسبل رزق أوسع. ولم أجد ضالتي سوى في القطاع الخاص، حيث المجال مفتوح لإبراز المؤهلات وتقديم المبادرات وابتداع الأفكار الخلاقة بعيدا عن جمود بعض الوظائف العمومية وما تنطوي عليه من تكريس للتقاعس والروتين- وشيء من الريع أيضا.

من أوجه الغرابة في المغرب الراهن رفض المعطلين خوض مباريات التوظيف في القطاع العام. إن هذا الرفض ليس له أي مبرر منطقي بل هو هروب من تجسيد مبدأ الشفافية والاستحقاق الذي نص عليه الدستور. فالمباريات أنجع سبيل لتقييم الموارد البشرية وتوظيف الشخص الأنسب في المكان الأنسب، شريطة أن تكون شفافة ومتعددة المراحل ومبنية على أسس علمية من شأنها تقييم كفاءة هذا المرشح أو ذاك بصفة دقيقة. أما أن تكون المباراة مجرد سؤال في الإنشاء مدتها ساعتان فهذا ليس من التقييم في شيء إن هو إلا استهتار واستخفاف بسنوات من الكد والتحصيل العلمي التي قضاها الخريجون من أجل الحصول على الشواهد العليا. لكن من المهم أيضا العمل بمعيار الانتقاء الأولي للمرشحين قبل إجراء المباريات لأن من الإجحاف أن يتساوى من بصموا على مسار جامعي متميز وحصلوا على أعلى الدرجات، مع خريجين عاديين نالوا شواهدهم الجامعية بقليل من الجهد أو بميزات متدنية.

لا يمكن لأي حكومة في العالم مهما بلغ ثراؤها أو عبقريتها أن تدمج جحافل هائلة من حاملي الشهادات في أسلاك الوظيفة العمومية، وبصفة مباشرة دون مباريات أو تكوين أولي. وأنا هنا لا أُسقط الوِزر عن الدولة وعن قصورها إزاء إيجاد حل لمعضلة التشغيل، إذ إن السياسة التعليمية المتبعة منذ عقود ساهمت بقسط لا يُستهان به من المسئولية في تفشي الظاهرة وتفريخ طوابير من خريجين لا تتلاءم مؤهلاتهم أو تخصصاتهم مع متطلبات سوق الشغل. لكن ليس من المنطق في شيء أن يشتغل الجميع في القطاع العام ولا شيء غيره، حتى وإن صاروا موظفين أشباح يستنزفون خزينة الدولة.

إن الحل الوحيد لمشكلة البطالة في المغرب هو القطاع الخاص، بحسب اعتقادي. ولذا يجب الارتقاء به وتأهيله ليستوعب أفواج الخريجين المتنامية ويخفف الضغط عن الميزانية العمومية بتقليص المناصب المالية. لكن على بعض أرباب المقاولات في المغرب أن يغيروا عقلياتهم شبه الإقطاعية وأسلوبهم في التعامل مع موظفيهم القائم بالأساس على نوع من الاستغلال وهضم الحقوق، وعلى رأسها الحرمان المتعمد من الضمان الاجتماعي والعطل والتعويضات؛ دون الحديث عن الترهيب والطرد من العمل بدون وجه حق في كثير من الأحيان. ويبقى على الدولة أن تبعث الروح من جديد في مفهوم المقاولة المواطنة الذي تحول بسرعة إلى مجرد شعار طنان، ما حدا بالشباب إلى الإعراض عن القطاع الخاص.

وفي الختام تبقى الإشارة إلى أن الوقفة الاحتجاجية التي نظمتها إحدى هيئات المعطلين في الرباط يوم الخميس 17 ماي 2012 قد شهدت رفع المعطلين شعار "أش بغيتي الوظيفة سير تبيع مطيشة" رداً على تصريح رئيس الحكومة الذي حثهم فيه على التشغيل الذاتي والمبادرة الفردية. ولئن كان هناك إجماع على حق هؤلاء وحريتهم في التظاهر السلمي تعبيرا عن مطالبهم، بصرف النظر عن استنادها إلى المنطق من عدمه، فإن الشعار فيه بعض التحقير والإساءة إلى البسطاء من أصحاب هذه التجارة كما لو أنهم يمارسون نشاطا غير قانوني أو عديم القيمة. والحال أنهم شريحة مواطنين محترمين، ولربما كان فيهم من يحمل من الشواهد أعلاها لكنه اختار أن يعيش بكرامة وواقعية.. حتى حين.

* إعلامي ومترجم مقيم بدولة الإمارات

"أش بغيتي الوظيفة سير تبيع ماطيشة"

         Partager Partager


1.أرسلت من قبل Adil في 20/05/2012 23:22

تجسيد مبدأ الشفافية والاستحقاق الذي نص عليه الدستور,,,????????
Which constitution that represents integrity??? where s that,,? in Morocco??? do you think most Moroccans deserve their job positions they have ?military recruitment, teaching positions...all undergo bribery actions ..So why should highly educated diploma holders from well acknowledged universities pass exams to get a '' job''?most universities in Banana kingdom grant degrees with appreciation and high evaluations of the graduate..thus, it s an implicit acknowledgment that unemployed graduates deserve to be employed directly without an exam ..in addition, the so called " institution'' guarantees a decent job for any individual in the said Kingdom.

2.أرسلت من قبل islam في 21/05/2012 12:36

aCh had Chi liwa9e3 flblad 3yina maneSbrOu chofo lina chi hal awww waCh welina kant9am3Ou 3la a9al haja ana chehal wana kanmchi wnji 3la chahada tibiya jloud makaynch douktor jamal glna makayn mouchkil khedam flhamla jina lréyad kayna tbéba taygolo liha semlali lahatité idek ghir 3la lbérou tatrawet 3lik bghité teSewlha tgolik khourjé ba3edé meni ana meSalya léék aCh hadChi waCh hna lmouwatinén ma3anedna ho9o9 fbladena wa ghiir chofo lina hal plz ou Smho liya rah hadechi darné feraSé

3.أرسلت من قبل ROWDY في 21/05/2012 18:01

BENGUERIR NAMODAJ SGHIR 3LA LI TARI F LBLAD KAMLA.....YOMHIL WALA YOHMIL..

تعليق جديد
Twitter

شروط نشر التعليقات بموقع حقائق بريس : مرفوض كليا الإساءة للكاتب أو الصحافي أو للأشخاص أو المؤسسات أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم وكل ما يدخل في سياقها

مقالات ذات صلة
< >

الخميس 19 ديسمبر 2024 - 18:57 اغتيال عمر بنجلون جريمة لا تغتفر

أخبار | رياضة | ثقافة | حوارات | تحقيقات | آراء | خدمات | افتتاحية | فيديو | اقتصاد | منوعات | الفضاء المفتوح | بيانات | الإدارة و التحرير