تعتبر الجريمة ظاهرة اجتماعية قديمة قدم التاريخ،فلا يكاد يخلو مجتمع من المجتمعات الإنسانية عالميا من هذه الظاهرة التي اتخذت عدة إجراءات على مر التاريخ لمحاربتها،انطلاقا من الفكر الأسطوري مرورا بالفكر الديني وصولا للقوانين الوضعية على اختلافها من مجتمع لآخر.
وهناك أحداث قد تعتبر عند شعب جرائم فيما هي عند الشعوب الأخرى أحداث عادية إن لم تكن واجبة بحكم الأعراف والتقاليد، كإقدام الأب على قتل ابنته باسم الدفاع عن السمعة والشرف.
هنا سأحاول تناول الجريمة في المغرب انطلاقا من تنامي هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة حسب كل الملاحظين،غير أن مقاربة هذه الظاهرة عرفت أشكالا متعددة بتعدد الحقول المعرفية وسأحاول هنا أن أركز على حقلين أساسيين اعتبرا دائما الأكثر فهما للظاهرة وارتباطا بعلم الإجرام وأقصد هنا بالتحديد الحقل السوسيولوجي والسيكولوجي.
وقبل الحديث عن التناول السوسيولوجي والسيكولوجي لهذه الظاهرة لا بد من الإشارة إلى أمرين رئيسيين أولهما، أن المغرب يفتقد إلى دراسات علمية وأبحاث ميدانية تهتم بهذه الظاهرة انطلاقا من أسس وقواعد علمية وبالتالي وجب الإشارة إلى أننا نحتاج إلى معاهد ومراكز أبحاث متخصصة في علم الإجرام تكون كفيلة بتتبع هذه الظاهرة لتساهم في توفير معطيات قادرة على تسهيل بلورة سياسة إجرامية وإستراتيجية أمنية مجدية.
ثانيا،إن ارتفاع معدلات الجريمة في السنوات الأخيرة لا يؤشر على ارتفاع الجريمة بالمقارنة مع السنوات الماضية بقدر ما يؤشر على ظاهرة جديدة كان لها دور كبير في تسليط الضوء على مجموعة من النقاط السوداء التي كان يعتبر الإفصاح عنها في مجتمع محافظ مخالفة للأعراف والتقاليد خصوصا فيما يتعلق بزنا المحارم وغيرها من الجرائم التي تقيس عمق"الهوية المغربية"، وأقصد بالتحديد ظاهرة التناول الإعلامي للجريمة.
وقد ساهم في تنامي التناول الإعلامي للجريمة، هامش الحرية الذي أصبحت تتمتع به الصحافة المغربية، ولا أقصد بالحرية تلك الحرية القانونية التشريعية بقدر ما أقصد حرية تناول موضوعات كانت إلى عهد قريب تعتبر ضمن المحظورات والطابوهات، وقد ساهم هذا التقدم في كشف الغطاء عن مجموعة من الظواهر الخطيرة وأماط اللثام عن العديد من الممارسات المخالفة للقانون والأخلاق والتقاليد..وقد كان ذلك مهما جدا لكي نقترب أكثر من ملامسة مجموعة من الظواهر وفهمها والبحث عن السبل الناجعة لمعالجتها.
إن تناسل الجرائم الشاذة في المغرب اليوم يعبر عن ثلاث مؤشرات رئيسية:
-فشل الأسرة في تقديم الأمن العاطفي والاجتماعي لأفرادها، ذلك أن النظريات الاجتماعية تضفي أهمية كبرى على الدور الذي تمارسه الأسرة على أعضائها في تمثلهم للقيم الاجتماعية أو انحرافهم عنها باعتبارها الجماعة الأولية التي تقوم بعملية التنشئة الاجتماعية.فإذا تخلفت الأسرة عن ممارسة هذا الدور على الوجه الأكمل وبصورة لا تنسجم مع القيم والمعايير الاجتماعية السائدة فإن الفرد يتجه إلى ممارسة أفعال إجرامية وانحرافية مختلفة.
-إفلاس المشروع المجتمعي الذي يستوجب أكثر من وقفة تأمل لمداواة الخلل.فهذه الظاهرة لها ارتباط وثيق بسياسة التفقير والتهميش حيث ثبت أن الغالبية العظمى من الجانحين لا تمارس فعلها الإجرامي بقوة المرض فقط وإنما أيضا بسبب الفقر والإقصاء.
-يمكن أن يؤشر هذا التنامي للجرائم على مرحلة "انتقال سوسيولوجي" يمر منها المجتمع المغربي، وهي مرحلة مرت منها مختلف المجتمعات التي توصف بالمتقدمة.وبالتالي فالمجتمع يخضع الآن لسيرورة انتقال من بيئة تحكمها القيم والتقاليد والثقافة المحافظة إلى منظومة قيم جديدة موصوفة بالفر دانية والأنانية.
كما أن لتنامي الجريمة بالمغرب دلالات نفسية تتمثل في شعور الفرد بالإقصاء والتهميش، وهذا يخلق لديه ميولات ونزعات إجرامية.
هناك بعض النظريات السيكولوجية التي تعتبر الإساءة للآخر والتعدي على جسده نزعات طبيعية في مجموعة من الأفراد نتيجة لتكوينهم البيولوجي، لكنها نظريات أثبت فيما بعد بعض أخطائها.
بالتالي فلا يمكن أن نعتبر أن المجرم هو مجرم بالطبيعة ففي حالات معينة كالصدمة أو الانفعال يتحول الفرد من إنسان طبيعي إلى مجرم قاتل.
أخيرا لابد من الإقرار بأن ظاهرة الإجرام تهدد أمن المجتمع واستقراره وتعرقل حركة نموه الإنتاجي ولذلك فلابد من تضافر كل الجهود من أجل محاربتها والعمل على الحد من انتشارها وذلك عن طريق التعرف إلى دوافعها والقوى الكامنة وراءها، وذلك لا يتم إلا بتخصيص ميزانيات كبرى من أجل البحث العلمي في هذه الظاهرة وكذلك إنجاز مشاريع كبرى من أجل امتصاص المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها كل المغاربة بالإضافة إلى إعادة الثقة في العمل السياسي الجاد، حتى لا يشعر الشباب بالإقصاء والتهميش.