تعد الرشوة ظاهرة تشوه وجه الإدارة، تعايش معها الناس على مضض سنين طويلة، اكتست مظاهر عدة. منها العيني ومنها النقدي، منها المطلوب ومنها المهدي، منها المعجل ومنها المؤجل، منها المشروط ومنها العفوي. ورغم أن جل التشريعات بالعالم جرمتها لم تفلح في القضاء عليها تماما، إلا الدول التي أفلحت في تحكيم القانون بشكل تام وصحيح بالحياة العامة. وإن كانت الدول المتخلفة تبدو محاولة الحدو حدوها في محاربة الرشوة بغية القضاء عليها، عبر التشريع والتخليق وعبر التأديب… فالفرق شائع بين الدول وذلك كما بين قمة الجبل والحضيض. والمغرب بلدي الحبيب غير شاد عن القاعدة، طالعتنا الإحصائيات في بحر الأسبوع الماضي بنسب عالية من الارتشاء من خلال التقرير السنوي للهيأة المركزية للوقاية من الرشوة، وتتصدر الداخلية والعدل القوائم.
ومعلوم أن الوزارتين الحساستين في البلاد هما هاتين الوزارتين. ومعلوم أن الراحل الحسن الثاني، سنين طويلة وهو يعتبرهما وزارتي السيادة. فهل هذا الاعتبار هو سر البلاء، الاختباء وراء القصر، والذي غض الطرف عن إسرافها في التسلط وإطلاق يد العبث في جيوب المواطنين، بفعل إكراه الهاجس الأمني؟ ولماذا لم تخرج هذه الإحصائيات وبهذا الزخم إلا في هذه السنوات الأخيرة، وبعد أن خرجت هاتين الوزارتين من اعتبار قدسية السيادة؟ وهل هذا الفضح عربون تساوي الوزارات في الاعتبار مستقبلا؟ أم هو عارض أتى به الربيع الإسلامي ببلدان العربية، ورهين باستمراره، ومدى آثاره وتأثيره؟
أن الداخلية والعدل هما قلب الإدارة الحساس، وميزان قياس عافية المجتمعات. وحيث هما فاسدين بالمغرب منذ زمان، ما يعني أن المغرب مريض منذ زمان، واستفحل به المرض، حيث أضر بالمواطن طول المرض وينتفض للشفاء، الفيروسات على كثرتها لن تتركه يتعافى، ما يعني أنه في حاجة إلى عملية جراحية استئصالية قوية تعيد الثقة للمواطن المقهور، بفعل جبروت هاتين الإدارتين، على امتداد سنين طويلة. ما يعني أن المغرب يعيش بدون أمن سليم، وبدون عدل سليم..
الآمال معلقة على الحكومة الملتحية هذه المرة، ولا بديل إلا الظلام، إن لم يتحقق المستحيل المرموق بقلة ثقة وقلق شديد، والحكومة تعلم علم اليقين، الواقع الخفي لحقيقة الوزارتين، تعلم الممارسات الصغيرة والكبيرة، تعلم ما يريده المواطن، المواطن المفعول به لا المستفيد من انحياز وشطط هاتين الوزارتين. وتعلم تقرب الفاسدين بمختلف المواقع بهما، الذين يحسبون كل صيحة عليهم، ويمعنون في الارتشاء وتهريب أموالهم، حتى ما اعترضهم طارئ يكشرون عن أنيابهم ضد مبادرات الحكومة، منتظمين في جمعيات أو نقابات أو ما شابه ذلك، ينتصبون ضحايا ليخفون حقيقتهم كجناة.
المسيرة طويلة نحو التغيير بهاتين الوزارتين، والشعب في عجالة من أمره، نافذ صبره عن الانتظار، والحكومة لا تريد افتعال الفوضى بالصرامة في معاملة الفاسدين، وهنا وقف حمار الحكومة في العقبة، وترى ما الأفاق؟
ذاكرة الشعب قوية، فمهما يدجنها الإعلام، تأتي عليها الأعاصير فتنفض عنها غبار التعتيم والتضليل، فتستفيق مذعورة تجري وتصيح في غير اتجاه، تواقة إلى الإنعتاق مما هي فيه، رغم أنفها أجيالا من الزمن. وإرادة الشعب قوية، إذا ما فك عقالها، واستفاقت من غيبوبتها، وزالت أثار تخديرها، تصير عاشقة للموت من الحرية، كقيمة من أرقى القيم الإنسانية الموهوبة للبشر خاصة.
على الحكومة أيضا أن تختار: إما مع الشعب بقوة، فتضرب بقوة الفساد، وستبكي فئة قليلة وتقاوم ثم تنهار، وإما مع الفساد بالسكوت والتغاضي والمماطلة والتسويف، لفسح المجال للإفلات من العقاب، فتخسر الشعب، فينهار الأمل في التغيير فيحصل المحظور غير المرغوب فيه. ولا أظن خيار ثالث بينهما.
اللحظة حرجة، وشد الحزام مطلوب، والعمل بغير المألوف منتظر، يد تراجع الماضي وتحاسب وتعاقب، ويد تصحح وترمم وتبني، وأكف ممدودة إلى السماء تدعو باللطيف، حتى تعبر السفينة المضيق المتلاطم الأمواج بفعل العواصف العاتية بسلام، إلى بر الأمان. فلا هي سوريا لنا جارة ولا هي ليبيا لنا جارة ولا هي تونس لنا جارة ولا هي الجزائر لنا جارة ولا هي موريتانيا لنا جارة… ولتكن لنا الحكمة لنا جارة والموعظة الحسنة، ملكا وحكومة وشعبا حتى نحافظ على ما بنيناه ونسترجع ما ضيعناه ونرمم ما هدمناه. ونواصل المسير إلى الأمام، فإن لم تتيسر لنا مشية الأرنب فلنصبر على مشية السلحفاة خير من التوقف عن المسير، أو التدحرج من وسط الطريق إلى سفح الجبل، والله المستعان.