تكتنف عمل الشرطة القضائية حساسية كبيرة تظهر على أكثر من مستوى , سواء من حيث الصلاحيات الماسة بالحريات الممنوحة لضباطها أو الحجية التي تتمتع بها محاضرها, مما يثار معه بشكل قوي سؤال الشرعية .
في نفس السياق فقد أصدرت وزارة العدل بحر القليلة الماضية نموذجا أوليا لقانون تعديلي للمسطرة الجنائية بغية تعزيز استقلالية السلطة القضائية و ضمانات المحاكمة العادلة تناغما مع المقتضيات الدستورية , وكذلك إماطة اللثام عن أي لبس يشوب المسطرة الجنائية خاصة أعمال الضابطة القضائية لما لها من تأثير على الأحكام وتهديد للحريات ,فإلى أي حد توفقت مسودة القانون هذه في مبتغاها ؟ وما هي التدابير التي ابتكرتها لهذه الغاية ؟
سنحاول قدر المستطاع الإجابة عن هذه الأسئلة عبر معالجة النقط التالية :
1- سرية البحث والتحقيق:
أكدت مسودة القانون على مبدأ سرية الأبحاث و التحقيقات وذلك تحت طائلة العقوبة الجنائية إلا أن الجديد في المادة 15 هو إعطاؤها الحق للنيابة العامة دون غيرها في إطلاع الرأي العام على القضية و الإجراءات المتخدة فيها مع إمكانية الإذن بذلك للشرطة القضائية . وقد انتقد البعض من الباحثين و العاملين في مجال القانون المقتضيات المشار إليها أعلاه وذهبوا بالقول إلى اعتبارها خرقا واضحا لمبدأ سرية الأبحات و التحقيقات ,بينما رأى البعض الآخر في ذلك تطورا في العلاقة المؤسساتية مع الرأي العام و احتراما للحق في الحصول على المعلومة المنصوص عليه دستوريا .وبين الاتجاهين فإننا نميل أكثر إلى مسايرة الثاني وحجتنا في ذلك أنه مادامت المعلومات التي ستقدم من طرف النيابة العامة ستكون عامة و لاتهدف إلى التشهير بالمشتبه فيهم أو الإضرار بالسير العادي للبحث أو التحقيق فلا ضرر في ذلك , فعلى العكس تماما , فمن شأن ذلك أيضا أن يعزز العلاقة بين مؤسسات الدولة و وسائل الإعلام و كذا تعزيز ثقة المواطنين في مرفق القضاء إسوة بالتجربة الرائدة لبعض الدول التي لها باع طويل في مجال احترام حقوق الإنسان.
2- تحرر الشرطة القضائية :
مايسجل لمسودة القانون أنها نصت لأول مرة على مبدأ تحرر الضابطة القضائية , إذ أن جهاز الشرطة القضائية –ونقصد هنا ضباط الشرطة القضائية- وإن كان في الأصل جهة إدارية إلا أن له اختصاصات قضائية ,و تظهر أهمية هذا الجهاز جلية في القانون و الواقع العملي نظرا لما يتمتع به من صلاحيات ماسة بالحريات (تفتيش المنازل,الوضع تحت الحراسة النظرية...) ولما لمحاضره من حجية لاسيما في قضايا الجنح ,لكل هذه الأسباب كان من الضروري ضمان نوع من التحرر و الاستقلالية للشرطة القضائية لضمان الفعالية و التجرد في أعمالها و لارتباطها الوثيق بالجسم القضائي المستقل بنص الدستور , فلايمكن الحديث عن استقلال السلطة القضائية و نزاهة الأحكام دون تحرر الشرطة القضائية وهذا مانصت عليه المادة 2-17 بمنعها لضابط الشرطة القضائية من تلقي التعليمات من غير الجهات المؤهلة قانونا لذلك, كما رتبت الجزاء الجنائي عن كل تدخل أو ثأثير أو محاولة ثأثير على عمل الضابطة القضائية وحسنا فعلت.
3- مبدأ الصفة الضبطية :
مانقرأه كذلك في مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية ويثير الإنتباه هو نص المادة 21 على إمكانية استعانة ضباط الشرطة القضائية بالضباط و الأعوان العاملين بالإدارات التابعين إليها إداريا , وأشارت المادة 24 بعده إلى أنه في حالة استعان ضابط الشرطة القضائية بمساعد أو أكثر فإنهم يوقعون إلى جانبه في المحضر .
وقد طرحت الأحكام المنصوص عليها في المادتين 21 و 24 إشكالية خرق مبدأ الصفة الضبطية حيث أننا نجد أنفسنا حيارى في تحديد صفة المساعد المشار إليه في المادة 21 و الضباط ذوي الاختصاص في المادة 24 , لا نريد التسرع في اتخاد موقف معين دون معرفة المقصد الحقيقي للمواد المذكورة لكن يكفينا قولا أنه إذا ما كانت المسودة هنا تقصد اختصاصا إداريا فإن هذا سيكون غير مقبول لخرقه للمبدأ المذكور , أما إذا كان الاختصاص هنا قضائيا و كان الضباط المشار إليهم أحد الأشخاص المحددين على سبيل الحصر في المادة 20 من قانون المسطرة الجنائية أو المتصفين بالصفة الضبطية بقتضى نصوص خاصة فلا إشكال يطرح.
4- الوضع تحت الحراسة النظرية :
اعتبرت مسودة القانون الحراسة النظرية تدبيرا استثنائيا ونصت على ذلك بشكل واضح في المادة 66, إلا أنها جعلت هذا التدبير ممكن اللجوء إليه بمجرد تحقق سبب من الأسباب المشار إليها في المادة المذكورة وهوماقد يفرغ هذا التدبيرمن روحه كون ذلك سيعطي سلطة واسعة لضباط الشرطة القضائية في الوضع تحت الحراسة النظرية (خصوصا مع السلطة التقديرية الواسعة الممنوحة لهم) مماقد يتنافى مع كون الحراسة النظرية تدبيرا استثنائيا مع العلم أن المادة 66 توسعت في الأسباب الموجبة للوضع تحت الحراسة النظرية وبالتالي أصبح بإمكان الضابطة القضائية وضع المشتبه فيه تحت الحراسة النظرية بمجرد توافر أحد هذه الأسباب ولو كان غير كاف للوضع تحت الحراسة النظرية كحماية المشتبه فيه ، أو الحيلولة دون ممارسة أي ضغط على الشهود أو الضحايا أو سرهم أو اقاربهم ..>>. أيضا أتاحت المسودة إمكانية الاتصال بالمحامي ابتداء من الساعة الأولى لتوقيف المعني بالأمر وهو مانقرأه في المادة 1-66 بحيث أن القانون الحالي للمسطرة الجنائية يجعل هذا التدبير ممكنا شرط عدم تجاوز نصف المدة الأصلية للحراسة النظرية.
5- إنجاز المحاضر .
طرحت في العديد من الحالات إشكالية الطعن في محاضر الضابطة القضائية و الدفع بانتزاع الإعترافات تحت التعذيب وهو الأمر الذي نجد مسودة القانون قد سعت إلى الفصل فيه في المادة 1-67 حيث ألزمت ضباط الشرطة القضائية بالقيام بتسجيل سمعي بصري لاستجوابات الأشخاص الموضوعين تحت الحراسة النظرية بسبب جنايات أو جنح تتجاوز العقوبة المقررة لها قانونا سنتين حبسا , ويقوم ضابط الشرطة القضائية بإرفاق المحضر بنسخة من التسجيل توضع في ظرف مختوم ولا يمكن عرضها أمام المحكمة إلا في حالة المنازعة في التصريحات المدلى بها , و الإشكال الذي تطرحه هذه المادة هو فيما جاءت به الفقرة الثالثة التي تنص على : << إذا تعذرت عملية التسجيل لأسباب تقنية ، أشار ضابط الشرطة القضائية إلى ذلك في محضر مع بيان الأسباب بشكل دقيق ويشعر النيابة العامة فورا بذلك >>. وهو ما من شأنه تعطيل العمل بالفقرة السابقة , كذلك نلاحظ أن هذه المادة لم ترتب أي بطلان عن عدم القيام بالإجراءات السالفة الذكر أو عدم القيام بها بشكل صحيح و بالتالي يجب تدارك هذا الإغفال و إضافة فقرة ترتب البطلان بشكل صريح عن أي خرق للإجراءات المذكورة .
في معرض تحليلنا للفقرة الأخيرة من المادة 1-67 نلاحظ لبسا يفقؤ العين حيث تنص الفقرة المذكورة قائلة << لا يمكن الطعن في التسجيلات إلا عن طريق الطعن بالزور >> . وهو مايتعارض مع المادة 291 التي تعتبر محاضر الشرطة القضائية في قضايا الجنايات مجرد معلومات فإذا سلمنا بما ورد في هذه الفقرة من المادة 1-67 سوف تصبح المحاضر المرفقة بنسخة من التسجيل السمعي البصري في الميدان الجنائي محاضر يوثق بمضمونها كالجنح إلى ان يطعن فيها بالزور وهو ما يتناقض مع المادة 291 السالفة الذكر .
6- تقنيات البحث الخاصة :
تطرقت مسودة القانون في المادة 11-82 في الفرع الثاني من الباب الثالت المتعلق بتقنيات البحث الخاصة إلى ماسمته بالإختراق و هو – حسب نفس المادة – تدبير يمكن بمقتضاه لضابط الشرطة القضائية إذا اقتضت ضرورة البحث القيام بمعاينات لواحدة أو أكثر من الجرائم المنصوص عليها في المادة 108 من قانون المسطرة الجنائية بإذن من النيابة العامة و تحت مراقبتها أن يقوم بتتبع و مراقبة المشتبه فيهم من خلال التظاهر أمامهم بأنه فاعل أو مشارك أو مساهم أو مستفيد من هذه الأفعال الإجرامية ويمكنه لهذه الغاية استعمال هوية مستعارة , كما يمكنه في حالة الضرورة ارتكاب أحد الأفعال المنصوص عليها في المادة 12-82 كاكتساب أو حيازة أو نقل أو تسليم أو استلام ممتلكات أو أموال أو وثائق أو معلومات أو أشياء مجرمة أو متحصلة من جرائم أو معدة لارتكابها , كما يجوز له استعمال أو وضع رهن إشارة الأشخاص المتورطين في هذه الجرائم وسائل قانونية أو مالية أو وسائل نقل أو تخزين أو إيواء أو حفظ أو اتصال .
ولعل من أبرز ماعابه المتتبعون للشأن القانوني عن عملية الاختراق المنصوص عليها في مسودة قانون المسطرة الجنائية مسها بالحياة الخاصة للأشخاص الذاتيين المنصوص عليهم في قانون 08-09 كما أنها تتعارض مع مقتضيات الفصل 24 من الدستور المغربي التي ينص على مايلي << لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة >> . إلا أننا نميل إلى عدم مسايرة هذا النمط الصارم في تفسير مقتضيات الدستور فعملية الاختراق السالفة الذكر و إن كانت تتعارض مع نص الفصل 24 إلا أن لها هدفا أسمى يتجلى في جمع الأدلة عن الجريمة و المساعدة على ضبط مرتكبيها في حالة تلبس وفق مقاربة استباقية خصوصا أن جرائم المادة 108 تعتبر من الجرائم الماسة بالأمن الداخلي للدولة , كما أن النص على عملية الاختراق في قانون المسطرة الجنائية سيكون من شأنه إخضاع هذا الإجراء للسبب الثالث من أسباب التبرير المنصوص عليها في الفصل 124 من القانون الجنائي حيث يوجبه القانون ممثلا في قانون المسطرة الجنائية و تأمر به السلطة الشرعية و هي و الحالة هذه النيابة العامة و هو ما من شانه إضفاء طابع الشرعية على أعمال الشرطة القضائية في هذا الشأن .
كانت هذه إذا أبرز النقط التي أثارت انتباهنا في مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية فيما يخص أعمال الشرطة القضائية و التي اخترنا التطرق إليها لما لها من أهمية تظهر بجلاء في خطورة هذه الإجراءات الماسة بالحريات و الحقوق المكفولة بنص الدستور من جهة وعدم التطرق إليها من طرف الباحثين بشكل مفصل من جهة أخرى ,ولعل الخلاصة التي يمكن الخروج بها تسجل بعض النقط الإيجابية لمسودة القانون هذه إلا أنها لا تترفع و لاتسمو بها عن النقد حيث أننا نلاحظ طغيانا للسياسة الاتهامية على حساب ضمانات المحاكمة العادلة لا سيما مع عدم التنصيص على أي جزاء لمخالفة الضوابط القانونية للإجراءات التي تطرقنا إليها فما دام أن قواعد المسطرة الجنائية هي نصوص آمرة فإنه يتعين ترتيب الجزاء عن خرق هذه النصوص والقول ببطلان الإجراء المعيب وما قد يترتب عنه من إجراءات والملاحظ أن مسودة المشروع قفزت على الجزاء المترتب على خرق الإجراءات المسطرية وخاصة الدفوع الشكلية المثارة قبل كل دفع أو دفاع من خرق مقتضيات الفصول 23 – 24 – 47 – 66 – 66 /1 -67 -67 / 1 – 80 .... ,حيت يجب النص في آخر كل مادة من المواد المذكورة على بطلان الإجراء المعيب وما ترتب عنه من إجراءات لاحقة .كما هو الشأن في المادة 63 المتعلقة بإجراءات التفتيش والتي ينص على ما يلـــــــــــــي : << يعمل بالإجراءات المقررة في المواد 59 – 60 – 62 تحت طائلة بطلان الإجراء المعيب وما قد يترتب عنه من إجراءات >> .