في الوقت الذي كان فيه خريجو الجامعات المغربية يتطلعون للإعلان عن التوظيف في مباريات اطر الاكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، هروبا من شبح البطالة أو أملا في تحسين ظروف العمل الهشة بالانتقال من مؤسسات التعليم الخصوصي إلى التعليم العمومي، قامت الأكاديميات على حين غرة بكبح طموحاتهم، وتضييق سبيل الولوج إلى التعليم العمومي، بجعله حكرا فقط على المرشحين الذين لا يبلغ سنهم الثلاثين وعلى المرشحين الذين لم يسبق لهم التعاقد مع أي مشغل آخر، خصوصا مع مؤسسات التعليم الخصوصي.
هذه الشروط وغيرها، أثارت ضجة وسخطا عارما ليس فقط من قبل المعنيين بهذه المباراة الذين عبروا عن رفضهم المطلق لها باكتساح شوارع المغرب، بل تجاوز ذلك إلى كل فعاليات المجتمع المغربي الذي ندد واستنكر ذلك. بالمقابل، بررت الجهات الوصية على القطاع ذلك بدواعي تحصين القطاع التعليم وضمان جودته.
والحقيقة التي لا تحتاج لدليل أنه مهما تكن دوافع تسقيف سن التوظيف إلا أنها لا تستند على أي مسوغ قانوني، مما يجعلها عرضة للطعن والإلغاء في حالة ما إذا عرض الأمر أمام الجهة القضائية المختصة، على اعتبار أن فرملة سن التوظيف في هذا القطاع، اتخذت بناء على إعلانات أحادية مفاجئة لا ترقى إلى درجة قانون أو مرسوم. علما أن مسألة الرفع أو التخفيض من سن التوظيف بشكل عام تدخل ضمن صميم الاختصاصات المحددة دستوريا للسلطة التشريعية الممثلة في البرلمان، وهذا هو الأصل. وبالتالي فتخفيض سن التوظيف من طرف مديري الأكاديميات الجهوية، يعد تطاولا على اختصاصات السلطة التشريعية. فلا يمكن لمجرد إعلان يصدر هكذا بشكل عشوائي أن يضرب في عمق أهم مبادئ الدستور باعتباره أسمى وثيقة في البلد، وذلك بخرق الفصلين 19 و31 اللذان يكرسان للمساواة في الولوج إلى الوظائف العمومية وتكافؤ الفرص، وأيضا بتجاوز مقتضيات المادة الأولى من المرسوم المتعلق بتحديد السن الأقصى للتوظيف. هذا مع العلم أن ذات المقتضى الوارد في المرسوم المذكور هو ذاته المضمن في رحم النظم الأساسية الخاصة بأطر الاكاديميات الجهوية ذاتها، والتي تنص كلها بشكل صريح على أن السن الأقصى للترشح لاجتياز مباريات التوظيف محدد في أربعين سنة مع إمكانية رفعه الى 45 سنة. بل إن قرار التسقيف يعد أيضا مخالفا للمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، والتي كرس الدستور سموها على القوانين الوطنية، ونخص بالذكر، مقتضيات المادة 23 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان التي تضمن حق العمل وحرية اختياره وفي الحماية من البطالة.
كل هذه الترسانة التشريعية التي تضمن حق الترشح لاجتياز مباريات توظيف الأطر النظامية للأكاديميات، هي في نظر الجهات المكلفة بالتوظيف مجرد حبر على ورقة، فأبت إلا أن تضربها عرض الحائض، هذا الانقلاب والتمرد يدفعنا إلى وضع أكثر من علامة استفهام حول الأسباب والدوافع الحقيقية لهذه الشروط المجحفة التي لا تستند على أي أساس قانوني، فلمن تشرع الأكاديميات إذن هل فعلا لتحصين وتحسين قطاع التعليم العمومي، والرفع من جودته أم أن الأمر يتعلق بوقف نزيف الصندوق المغربي للتقاعد أم لجبر خاطر مؤسسات التعليم الخصوصي؟
لا شك أن فرملة سن التوظيف في 30 سنة كحد أقصى إنما يراد من خلاله تغطية العجز الذي يعانيه الصندوق المغربي للتقاعد، لأن التوظيف في سن مبكر يعني أداء أقساط الانخراط لمدة أكثر وهذا يضمن ضخ موارد مالية مهمة للصندوق من شأنها أن تأجل نفاد احتياطاته، فضلا عن ذلك، يبقى أيضا الاحتمال الأخير الأقرب إلى الصواب وهذا الأمر يمكن الوقوف عليه بشكل واضح من خلال التدقيق في شكل ومضمون الإعلانات التي صدرت في يوم واحد بأسلوب وشروط موحدة، إذ بمحاولة ربط هذه المعطيات مع خرجات وزير التربية والتكوين يبدو واضحا للعيان أن موضوع التسقيف قد دبر بالليل من طرف هذا الأخير وباقي أرباب مؤسسات التعليم الخصوصي، ووقع بالنهار من طرف جميع مديري الأكاديميات بدون أي تحفظ، هذ التدبير الذي توج صراحة بوضع علامة حمراء لمنع كل من سبق له التعاقد مع أي مؤسسة للتعليم المدرسي الخصوصي أو أي مشغل آخر من حق ترشح للتوظيف بقطاع التعليم العمومي … وكأن لسان حال واضع هذه الشروط يقول لأرباب المؤسسات التعليم الخصوصي، ها أنا ذا أضمن لكم جيشا لا يستهان به من اليد العاملة التي لم يعد بإمكانها الهرب من قبضتكم كلما تم الإعلان عن مباريات للتعليم العمومي، لقد حكم عليهم بالحرمان من الولوج إلى هذا القطاع العمومي بتهمة التعاقد مع أحدى مؤسساتكم الموقرة أو مع مشغل آخر لا يهم،…
أما بالنسبة لخريجي الجامعات الذين يشتغلون في التعليم الخصوصي، أو لدى أي مشغل آخر، فيقول لهم لسان حال واضع تلك الشروط، عفوا أيها السادة فقدركم المحتوم هو الاشتغال في القطاع الخصوصي كآلات دون الحد الأدنى للأجر، وبساعات تصل أحيانا إلى 10 ساعة أو أكثر وبلا أي ضمانات من شأنها أن تضمن استقراركم في الشغل … الخ.
واضح من ذلك، أن الجهات الوصية إنما تسعى إلى تضييق منافذ الولوج إلى التعليم العمومي، وفتح الباب على مصراعيه أمام أرباب مؤسسات التعليم الخصوصي، ولا يقف الأمر عند هذا الحد إذ سرعان ما سيتم تمرير القوانين والمراسيم التي تخدم أرباب المقاولات ليس فقط على مستوى قطاع التعليم، بل في قطاع الصحة أيضا، وفي شتى المجالات الخاصة الأخرى. وهو أمر جد سهل في ظل الحكومة الحالية التي أصبحت بقبضة أرباب المقاولات الذين اكتسحوا أيضا أغلب مقاعد البرلمان، هذا الاكتساح الذي سييسر لهم سبل إصدار القوانين والمراسيم التي تخدم مصالحهم.
فعلى المواطن اليوم وهو الذي وضع رأسه بيده (الانتخابات) في فم التمساح، أن ينتظر في كل لحظة وحين خروج وزير أو مسؤول ليبشره بانتظار صدمات أكبر من تسقيف سن التوظيف في قطاع التعليم العمومي أو فرملته في باقي القطاعات العمومية الأخرى، لأن القطاع الخاص بحاجة إلى اليد العاملة، وطبعا في ظل غياب معارضة برلمانية قوية، فالمواطن لا يملك إلا الإذعان والخضوع للقرارات الرسمية الصادرة عن أرباب المقاولات التي لا تنظر إليه إلا كآلة أو ماكينة للعمل لا غير. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أننا اليوم لم نعد أمام مؤسسات تشريعية بالمعنى المألوف تضع القوانين لصالح الشعب المغربي بل أصبحنا أمام مقاولات تشريعية مكونة من باطرونات لها أن تبرر وتمرر من داخل قبة البرلمان أو من خارجها ما تشاء من النصوص القانونية المؤيدة لمصالحها الخاصة وفقط، لأن المطالب الشعبية لم تعد توجد في ذاكرة المسؤول الحكومي ولا أدل على ذلك ما جاء على لسان وزير العدل والحريات الذي صرح مؤخرا بالقول، إن المطالب الشعبية المعبر عنها من خلال الشارع، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي (فايسبوك) هي آخر ما يمكن التفكير فيه، أو ما جاء على لسان الأمين العام لحزب جبهة القوى الديمقراطية الذي قال في أحد خرجاته العلنية أمام رئيس الحكومة الحالي بتأييد فكرة الانتقال من مشروع الدولة الإسلامية إلى مشروع الليبرالية في تحد غير مسبوق لمرتكزات المملكة المغربية التي تقوم على إمارة المؤمنين.
* باحث في سلك الدكتوراه وحدة القانون والتنمية