لولا اكتشاف هذه التربة التي ظلت ربما لملاين السنيين راسبة تحت قشرة أرض لم يعمرها إلا بشر قليل، ولم تشهد بنيانا حضاريا في كل مراحل تاريخها، كما تدل عل ذلك شعابها الصامته.، صمت هضابها وسهولها الحجرية، كأنها قطعة من أرض خلاء راح عنها البحر وترك في جوفها من ثرواته ما عجز عن معرفته أهل علم وذكر سادوا بنسوكهم وزهدهم الأرض فكانوا أولياءها وصلحاءها وساداتها، وما نفدوا. بسلطان إلى فضاءاتها و أعماقها.
وفي ثنايا متونهم الغابرة بقايا غبار قطاع الطرق المتربصين بالمارة العابرين يسلبونهم ما يملكون. وبه وحده شيدوا مملكة القراصنة الذين بايعوا كل من شرع غزواتهم على كل الغرباء الذين تاهت بهم الطرقات ووجدوا أنفسهم في حمى سبحة الولي الصالح وسيف الفارس الأوبيري الغادي الرائح يجوب أرضا لا تجود إلا بما يحمل على جانبي دواب العابرين الغرباء من زاد مسافرين محملين بحنطة القمح والشعير والزيت والحصير... لبيعها في أسواق حواضر مدينة مراكش.
ولقد كانت القرصنة بمعنى أوضح قوة إنتاجية مشروعة في بلاد يكاد من استوطنها وأنجب بها أبناءه أن يعتبر فارسا نبيلا ما دام يستطيع ضمان لقمة العيش ونجدة الصغار والنساء والشيوخ من الموت القاتل جوعا في أرض قلما تجود فيها السماء بالغيث، نادرة المياه.
ولم تكشف أرضها عما في جوفها من خيرات إلا بمجيء السيد ـ لوي جونتي ـ الولي الفرنسي الصالح الذي جاءت به الحملة الفرنسية الاستعمارية لبلاد المغرب.حيث قلبت الأرض بعد اكتشافه لباطنها من خيرات ستهب القرية ثم المدينة لأهلها والتي سيحج إليها العمال من كل فج عميق من بوادي وحواضر المغرب للعمل في مناجمها وإدارة مكتبها الشريف للفوسفاط ocp.
وامتدت عيون المهندسين الوفدين تبعا والقادمين من فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، لتلك الشعاب البعيدة، والتي ظلت إلى عهد مجيئهم مخيفة، للتنقيب. ودفعتهم تخميناتهم لاكتشاف مزيد من مناجم الفوسفاط باعتلاء سياراتهم والتوغل بها أكثر في منعرجات تلك الشعاب المنسية حتى اكتشفوها. وعادوا، و ظلوا يعاودون الرحالات الى مناطق الهضبة.
وكلما زاد توغلهم فيها كلما اسروا إلى بعضهم بالقول بأنهم قاموا بالجولة الكبرى في المنطقة.
ومن تلك الجولات المغامرة أطلق على الهضبة بمناطقها النائية ـ لوكرن تورـ وهو الاسم الذي ستعرف به منطقة ما يسمى بمنطقة الكنتور في التقسيم الإداري الترابي الاقليمي.
فالكنتور إذن هو هبة الفوسفاط، ولولا هذا الأخير لظلت أرضا خلاء لا تعرفها إلا السيارات والحافلات التي شقوا لها طريقا يربط ما بين مدن الساحل ومدينة مراكش.
وستشيد على الأرض الخلاء ما لم يكن في حسبان تاريخها الفقير من فيلات،. من الروعة الجمالية بما يحفها من أشجار باسقة وخمائل خضراء ظليلة وطرقات معبدة أنيقة وحدائق غناء جميلة وأحياء أوربية المعمار ومحلات تجارية راقية، وقاعات للحفلات وحانات وكنائس ونوادي في شتى أنواع الرياضات وملاعب لكرة القدم وكرة المضرب، ولعبة الجمباز .
لقد أصبحت صور العطار الذي طالما جاب الأرض الخلاء للوصول إلى دواوير ليعرض على نساءها حاجاتهن في خبر كان ... وأصبحت الشركات الكبرى في كل الصناعات تبعث ببضائعها وسلعها مستهدفة أموال المستخدمين بكل دراجاتهم من العامل في المنجم صاحب الكاتيكوري(الدرجة) اثنان إلى المهندسين من فئة ـ الإكس سنك ـ وما فوق إلى فئة المهندسين الكبار المشرفين على التخطيط والإدارة والتسيير.
ومهما حاولت فئة المهندسين الكبار من ترك مسافة بعد عن باقي المستخدمين بالعيش في عالم السكينة المترف في فيلاتهم وأحيائهم المتميزة بهدوءها وصمتها المخيم إلا ما هدر به المكان من أصوت سيارات العمل الفخمة أوصوت نباح كلاب كبيرة الحجم أو صوت امرأة أو رجل يناديان على بستاني أو خادم أو خادمة ترتدي وزرة بيضاء.
وانتعشت الأجواء في القرى النموذجية التي شيدتها الإدارة للمستخدمين الذين ضمنوا أجرتهم النصف الشهرية التي يقضون بها كل حوائجهم يبعثون منها ما يعينون به أهلهم في البوادي ... ونشطت التجارة في الأسواق التي جلب إليها كل ما يروج في باقي أنحاء المغرب من سلع.
كما أصبحت ساحات مشهورة قبلة لأصحاب الحلقة ممن يمتعون الأطفال والرجال بما يعرضون من أغاني ويروون من حكايات ويؤدون من روايات ومسرحيات يدخلون بها الفرحة والسرور على القلوب كما يدخلون بها في جيوبهم كثيرا من النقود...
ولأن المستخدمين كان أغلبهم من الوافدين من مناطق مختلفة من المغرب وخصوصا من البوادي من مناطق عبدة ودكالة والرحامنة والسراغنة وسوس وتافراوت وامينتانوت والشياظمة وكلميم ....فقد شكلوا بذلك نسيجا مجتمعيا مختلطا من كل الأنحاء تبادلوا فيه مع بعضهم العادات والتقاليد فكان ذلك عامل غنى ثقافي طبع المناطق التي شيدت فيها الإدارة القرى النموذجية.
وكان لاحتكاك الساكنة المختلطة بالفرنسيين أثار على الشخصية في الذوق والرؤية للحياة كما تجلى ذلك في استعمال العبارات الفرنسية، وممارسة كثير من الأنشطة الفنية والرياضية والثقافية.
وظهرت فئة من الشباب خصوصا أبناء فئة المهندسين الصغار والموظفين في المرافق الاجتماعية التابعة للمكتب الشريف للفوسفاط بعقلية متحضرة تجلت في اللباس والتحدث وقراءة الكتب والمجالات بالفرنسية وركوب السيارات ولعب كرة المضرب وإقامة مسابقات فنية وثقافية وحفلات أعياد الميلاد وارتياد قاعات السينما في نهاية كل أسبوع والذهاب إلى المسبح في فصل الصيف واقتناء التحف من شتى المدن المغربية العريقة كمراكش وفاس وبعض مدن الشمال.
ولم يحرم من نعيم هذه الحياة من كان شاطرا في إقامة علاقات ود من شباب القرى النموذجية الصغيرة.
ولم يكن هناك أي شعور بالنقص في أن تشتغل بعض النساء من القرى في منازل وفيلات المهندسين ... وكانت تحدث علاقات صداقة بين الناس من الطبقتين وقد يحب أحدهما من الشباب من الجنسين وينهيان علاقتهما بالزواج.
حينما تحل مناسبة التمتع بالعلاوة السنوية ويكون المبلغ محترما ومشجعا يفرح العمال ونساءهم وأبناءهم، ويشترون كل ما تشتهيه أنفسهم فيملأون السلال لحما وخضرا وفواكه، ويشترون الألبسة والأغطية والحقائب الجميلة والحلويات والدمى للفتيات والدراجات الهوائية والنارية للفتيان ويبعثون بالنقود للأهل ويشترون لهم الغنم والأبقار لتربيتها في البادية كما يبعثون لهم باللباس وبعض الأمتعة .
وأصبح الناس يتفننون في أنواع شتى من الأكل والشراب. وكان الرجال يحملون إلى منازلهم قنينات من المشروبات الغازية وخصوصا كوكاكولا ذات اللون الأسود وفانتا وكروش ذواتا اللون الأحمر والسيم التي بلون الماء غير أن مذاقها حلو...
ولقد وفر المكتب الشريف للعمال مرافق يرتادونها ويستفيدون من خدماتها دون دفع مقابل مادي ـ كالمستوصف والمستشفى الكبير والحمامات وعدم أداء ثمن استهلاك الماء والكهرباء بالإضافة إلى تمتع أبناء العمال بمنح جزافية لاستكمال دراستهم وشراء اللوازم المدرسية لفئات معينة، وتخصيص رحالات خارج المدينة للفتيان والفتيات، وفي كل سنة تخصص لهم أيضا جوائز جميلة تكون عبارة عن لعبة كبيرة وأنيقة الصنع، ومحافظ مملوءة بالأدوات وأكياس من الحلوى والشكولاتة ...ومن بين هذه الجوائز ـ الكمان والبيانوـ والدمى الكبيرة ذات العيون الزرق والشعر الأشقر المنسدل لتفرح بها البنات...
صار الخير دافقا على البيوت والنفوس مرتاحة والقلوب مطمئنة والإحساس بشمول النعمة وكأن الله أراد لهذه الأرض أن تأتيها الحضارة استجابة لدعوات أولياءها الصالحين وسادتها الزاهدين المخلصين أولائك الذين قضوا في كنف البعد والهامش والنسيان. ليفرح ويمرح حفدتهم بما جاد به جوف أرضهم مما لم يكن يخطر على بال أحد من أجدادهم من الذين ماتوا يسفون التراب أو يعتقهم من أبناءهم القراصنة الفرسان.
وربما وفاء لهؤلاء القراصنة الفرسان درج الناس في عادة سنوية إقامة مواسم الاحتفالات تغمرها الأفراح بالبيع والشراء ومشاهدة عروض الفرجة وأكل ما لذ وطاب من أنواع الحلوى والإسفنج والسمك المقلي واللحم المشوي وركوب الأراجيح والسيارات الحوامة الصغيرة ومشاهدة صاحب الدراجة النارية تدرع الحائط الخشبي الخطير. وفي الساحة الكبيرة تتراكض خيول الفرسان بالسروج المزركشة بالألوان والشعر المنسدل على رقاب الجياد المسيسة وعلى عيونها الجميلة، تترنح مزهوة بالعصر الذهبي تستحضر أسلافها وتبعث إليهم بطلقات النار من بنادق الحبة والبارود تحية الوفاء والعرفان بفروسية النجدة في أيام وزمن الانتظار الأسود الطويل والكدح الأحمر القاتل.
يعود الناس مساءا من الموسم مبتهجين ظافرين بما شاهدوا واقتنوا من أكل ولباس ولعب.
حين قرر الوالد شد الرحال إلى الأرض التي فاضت على حين غرة بالخيرات من تراب لم يدرك الناس سره عرج وعلى كتفه جلبابه مع صاحبه إلى أحد المكاتب التي تستقبل الراغبين في العمل بالمناجم قادمين من رحامنة إثنين بوشان، سجلت أسماءهما وارسلا فورا إلى مقر العمل وأخذا التعليمات وتسلما آلات الحفر وكانت البداية.
وبعث الوالد بعد مرور أسابيع بمن يحضر الوالدة من البادية وأقاما في مسكن من خشب ثالثهما صغيرتهما ابنتهما البكر عائشة...
ودعت الوالدة البادية وأهلها وانخرطت في حياة القرية. وكان الوقت زمن الاستعمار في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين وكان الحظر طالما أن شكوك ممثلي السلطات الفرنسية قائمة. ولم تكن من محاولات إلا ما تتناقله بعض الألسن في اجتماعات قلما تحدث في بعض المناسبات العائلية التي لا يمكن أن يسمح بإقامتها إلا بترخيص. وكان الناس غير مباليين، ويذهب الرجال إلى المناجم نهار أو ليلا ويعودون متعبين ليغتسلوا ويأكلوا ويناموا ولا علم لهم بأمر أخر غير هذا..
ومرت الأيام والشهور والسنوات وأصبح للوالد رصيد من المال والجاه في نظر أهل باديتنا الذين ظلوا يتطلعون إليه ولزيارته للبادية وإلى مساعدته المالية لهم، وما يمكنهم به من أغنام وأبقار ودواب وأراض لاستغلالها ولم تشغله الحياة الجديدة في القرية عن أصوله في البادية التي ظل يرعى فيها كثيرا من أهله وأقربائه بما توفر له من مال راكمه وذلك بما كان يناله من أجرة محترمة وذلك بما يقوم به من عمل مضاعف في المنجم، استحق عليه الجزاء والتشجيع بمضاعفة الأجر.
وعم الخير والرخاء المنزل الجديد في القرية وكثر الوافدون من البادية وكانوا يأتون راكبين دوابهم محملين بالدجاج والبيض والزبدة والتين. ويقضون أياما يتناولون أطباق من المرق واللحم والكسكس وشرب الشاي مع الرغيف المدهون بالزبدة والعسل وأيضا أطباق الفواكه الجافة وفي بعض الأحيان القهوة بالحليب مع الإسفنج.
وكانوا يدعون للوالد بعد تناول كل وجبة بالصحة والعافية وطول العمر، ولم يكن الوالد يبخل على كل مغادر للمنزل بورقة أو ورقتين ماليتين مع السكر والشاي ولفافة لحم البقر أو الغنم وبلغة أو جلباب جديد أو مستعمل.
وكانت الأم تضع في الشواري صرة مملوءة بأشياء لا تعلمها إلا من تتسلمها من النساء اللواتي يدعين لها أيضا ويترجون زيارتها لهن في البادية في فصل الصيف حين يقبل موسم الحصاد. وكن يتوجهن إلى البادية بأيدي مخضبة بالحناء ووجوه تبدو على ملامحها علامات النعمة بعد أسبوع من الراحة والأكل والنوم عكس ما تعودن عليه في البادية من عمل في الخيام أو كدح في الأرض أو رعي للماشية...
لقد كانت النار في المواقد دائمة الاشتعال، والقدور دائمة الانتصاب والصحون ما أن تغسل حتى تملأ بالمرق أو "الطعام" الكسكس ولحم الغنم من الذبيحة اليومية يملأ الجفنات والصحون الكبيرة. وفي كل لحظة تذبح دجاجتان أو ثلاث ...ولا يفرغ براد إلا ويملأ ثانية بالشاي فشربه مسترسل وامرأتان تساعدان الوالدة لا تكفان عن ترديد عبارات الترحيب: كلوا واشربوا مرحبا بكم ويرد عليهما ..الله يخلف ويقوي الخير
لم تكن قرية العمال بعيدة جدا عن بادية الرحامنة التي يتخذ أهلها من سوق اثنين بوشان وجهتهم الأسبوعية ليبيعوا أكياس من الشعير أو خراف أو نعاج وشراء ما يحتاجونه من شاي وسكر وبصل أو كيلوغرام من اللحم أو رأس غنم وشمع وزيت وكل ما يعتبر حاجات أساسية لتحضير أكل يسد الرمق أو ثوب يستر العورة أو كبريت يوقد النار في حطب فرن طهي الخبز.
وقد يعرج المتسوق على بائع أدوات الطين لشراء جرة الماء أو صحن طيني يحفظ اللبن. وحين يتيسر الحال لا يبخل الرجال على أبناءهم بشراء سلة عنب أو زوج من البطيخ الأحمر وفي أحسن الأحوال يقتني من السوق ما تتطلع إليه النساء من كحل أو بخور أو قطعة قماش.
وكان السوق هو الملتقى. ونشطت فيه عمليات البيع والشراء حركتها أموال العاملين في المناجم وبعثت الحياة في جسم البادية أيضا كما بعثتها في جسد القرية وأضحى شريان دمها المتدفق يملأ الأركان خيما تضرب مملوءة بعلب الزيت الكرتونية وعلب الصابون وعلب الشاي تحفها أكوام من الثوب وسواري من الحصائر وتعلو فضأتها روائح الشواء والحمص والفول الهاري مع غبار الدواب المحملة بشتى الأمتعة الوافدة من كل الأرجاء وبما لم يتعود عليه أيضا هؤلاء البدو من رؤية الحافلات الكبرى المخططة بالألوان البديعة يصيح من جنباتها رجال يرشدون كل مزمع على السفر إلى هذه المدينة أو تلك.
لوي جانتي ....... لوي جانتي
الدارالبيضاء .....الدارالبيضاء
مراكش ........ مراكش
ويضج بهدير الحافلة فضاء السوق ويرتقي بنعلي بأول صعود له إلى الحافلة أول درج في سلم الحضارة ويأخذ مكانه في المقعد ينظر من خلف زجاج النافذة لا يسع خاطره إلا أن يدعو للرجل الذي بعث له بثمن التذكرة للقدوم حالا إلى الدار في القرية ممتطيا الحافلة وليست الدابة حتى لا يدركه الليل .........