HakaikPress - حقائق بريس - جريدة الكترونية مستقلة

تقييم السياسات العمومية في مجال إنتاج الثروة


عبد اللطيف أعمو
الاحد 7 غشت 2016



هو فحص للعلاقة بين السبب والنتيجة


تقييم السياسات العمومية في مجال إنتاج الثروة






لا يمكن أن يكون للبناء الديمقراطي أثر عمودي في حياة الإنسان، إذا لم يستشعر المواطن بأنه معني بالشأن العام ومشارك فيه ومتتبع لكل ما يروج حوله ويحوم في فلكه من سياسات عمومية، يكون المواطن مصدر تمويلها بمساهمته في الدخل الوطني، ويكون هدفها ومبتغاها.
إن “تقييم السياسات العمومية” هو فحص للعلاقة بين السبب والنتيجة، وهو إدراك فائدة سياسة عامة ما، في وقعها وأثرها في حياة المواطنين وفي معيشهم اليومي.
ويتعين عدم الخلط بين التقييم évaluation و التدقيق audit الذي يركز على الكفاءة التنظيمية والمالية لمؤسسة ما، وينبغي عدم الخلط كذلك مع وضع المؤشرات ورصد ديناميتها.
وقد اعتمدت العديد من القطاعات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية التقييم من منطلق أن الضغط المالي وضرورة ترشيد النفقات يدفع المؤسسات إلى مراجعة وتقويم سياساتها وضبط نفقاتها، وبدافع التغيرات المسترسلة والمتسارعة، والتي تفرض التأكد باستمرار من ملائمة السياسات المعتمدة والأهداف المرسومة.
ويعتبر التقييم عنصرا حاسما وجوهريا وفاعلا ضمن عناصر الحكامة الرشيدة. وهو لا ينحصر في مجرد إبداء الرأي أو النقد أو الحكم، وإنما هو صيرورة دائمة ومستمرة تستهدف تحسين الأداء في جو من الشفافية الكاملة والنجاعة والفعالية.
وإذا كان الدستور الحالي قد أكد في كثير من مبادئه وقواعده على مقاربات التشارك والمشاركة، وأصر على ضرورة اعتماد أدوات الحكامة وخلق مؤسساتها وإسناد وظيفة تقييم السياسات العمومية إلى البرلمان، والعمل بمبدإ ربط المسؤولية بالمحاسبة، فإن ذلك كله لن يتم تفعيله بالشكل المطلوب، إلا إذا كان مصاحبا بتوفير آليات متعددة للتقييم على جميع المستويات الداخلية منها والخارجية، والحرص على أن تمارس مهام التقييم في شفافية مطلقة تضمن التمكين من الاطلاع والنشر وتلقي الملاحظات والانتقادات بناء على معطيات واضحة ودقيقة تقرب أكثر من الحقيقة.
الدستور أتى بوظيفة تقييم السياسات العمومية . والنتيجة اليوم أننا نسير بخطى حثيثة وبحذر مع الرغبة في تنزيل الدستور بشكل يتناسب مع الحفاظ على التوازنات والاستقرار دون المساس بجوهر الدستور. ويشفع لنا أن وظيفة التقييم، كإحدى الوظائف البرلمانية الجديدة، ما زالت في إرهاصاتها الأولية. لكنها خطوات مهمة تسير في الاتجاه الصحيح. ونتمنى أن يكون اللجوء إلى التقييم أقوى مأسسة وترسيخا في الولاية البرلمانية المقبلة.
إن ما تحقق على مستوى إنتاج الثروة من شأنه تحريك الآلية الإنتاجية، وكل المكتسبات التي تحققت في عهد هذا الدستور، يمكن اعتبارها دفعة قوية نحو تمكين وتعزيز المؤسسات وتقويتها، لأنه بخلق الثروة يتم توفير ما يكفي من الموارد الضرورية لتلبية تطلعات الشعب. هذه التطلعات التي هي في تزايد مطرد بشكل مشروع… لأن إنتاج الثروة ينعكس على الأوضاع الاجتماعية والبيئية والثقافية للمواطنين.
وأكاد أجزم بأنه بقدر ما نكثر الحديث في المغرب عن الحكامة الرشيدة في جميع المجالات – لدرجة أصبحت معها منهجا ملزما بحكم الدستور الجديد – بقدر ما تظل مواكبة أدوات تقييم السياسات العمومية ضعيفة، ويبقى هذا التقييم منحصرا في جزء يسير من بعض السياسات العمومية ، ويظل في كثير من الأحيان ذا طابع داخلي ومحدود.
فالتقرير يبدو لي تقريرا تركيبيا، لم يرتكز على نموذج علمي في مجال التقييم، لكنه اعتمد أساسا على قراءة القطاعات الحكومية والهيئات والمؤسسات الوطنية الواضعة لهذه البرامج، مع ضعف الدراسات والتحاليل والتقارير التقنية الدقيقة،
ويبقى المرجع الأساسي هو تقارير المجلس الأعلى للحسابات والمندوبية السامية للتخطيط ومراقبة المؤشرات وبعض الآراء التي يبلورها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. وهو ما يجعل البرلمان في صعوبة للتدقيق والفحص والوقوف على الاختلالات الحقيقية وأسبابها وفحصها وإبداع البدائل وتصحيح المسار …
والأدهى من هذا كله، هو غياب ثقافة وتقاليد النشر الواسع للمعطيات حول السياسات العمومية وضعف تداول المعلومة والتمكين من وسائل الوصول إليها، مع غياب أدوات التحليل ورصد المعلومة وتدقيقها وتفكيكها.
والملاحظ أن المرجعية التأسيسية لأدوات تقييم السياسات العمومية ما زالت غائبة، وما زلنا ننتظر تنزيل الدستور عن طريق القوانين التنظيمية والعادية . ومن واجبنا تنبيه المشرع إلى أدوات التقييم ليضع لها قاعدة مرجعية مؤسساتية ضامنة لممارسته وإلزاميته، مع ضرورة مأسسة أنظمة التقييم، وجعل تلكم الوظيفة أداة مرجعية لضمان حسن التسيير والارتقاء بالأداء الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والبيئي.
ف الناتج الداخلي الخام (P.I.B) من الدلالات الأساسية في تقييم مؤشر إنتاج الثروة. والمغرب في المرتبة الثامنة عربيا، بما مجموعه 104.5 مليار دولار، فيما احتل المرتبة ال 13 إفريقيا من حيث نصيب الفرد من الناتج الداخلي الخام، بمعدل 3.2 ألف دولار.
ومن المؤشرات التي يرشدنا إليها الناتج الداخلي الخام، والتي تهمنا في مجال السياسات العمومية، من موقعنا كغرفة برلمانية تعنى أساسا بالجماعات الترابية، هو تأمين جهتان فقط من أصل 12 لما يقارب نصف الناتج الداخلي الخام على الصعيد الوطني، أي أن محور القنيطرة – المحمدية يستحوذ على 48 % من الناتج الداخلي الخام. وأن أربع جهات تؤمن من جهتها ثلثي (2/3) الناتج الداخلي الخام. وهو ما يساهم في تركيز وتمركز قوي للثروة، ويسائلنا حول اللآتوازن واللآتكافئ بين الجهات. وهو ما يعني أن علينا حتما إنتاج الثروة، لكن علينا أن نعرف كيف نوزعها بشكل عادل.
لكن لهذا المؤشر نواقص وفي مقاربته نقاش، لأنه لا يحصي مظاهر الاقتصاد الغير المهيكل، كما أنه لا يقيس عدم المساواة ورفاهية السكان. وهي مؤشرات إضافية اعتمدتها العديد من الدول إضافة إلى مؤشر الناتج الداخلي. لذلك هناك حاجة إلى إدراج عدد من المؤشرات الأساسية لقياس نوعية تطور المجتمع وقياس مدى قدرته على إنتاج المزيد من الثروة لفائدة أوسع شرائح المجتمع، من ضمنها: نسبة التشغيل والجهد في مجال البحث العلمي والمديونية والرضا والارتياح والوضعية الصحية واللآمساواة في الأجور والفقر ومستوى العيش، والهدر المدرسي وانبعاثات الكربون واستغلال التربة …إلخ
وعلى البرلمان المغربي أن يوسع من جهته الاستشارة حول المؤشرات المعتمدة مع مختلف الفاعلين (المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، المندوبية السامية للتخطيط، …) من أجل وضع مؤشرات لمقاربة الثروة الشمولية للمغرب، وهي مؤشرات يجب أن تنسجم مع الإستراتيجية العامة للدولة، وتكون موضوع مقاربة تشاركية واسعة.
وهذا التمرين ضروري لأنه يعطي المكانة للتصورات البعيدة المدى. ويسمح بتطور المؤشرات على ضوء التوجهات العامة والتقدم الحاصل. كما يعطي فكرة حول الرهانات المطروحة.
ومن الرهانات الأساسية، رهان الرفع من وتيرة النمو، والذي له ارتباط وطيد بإنتاج الثروة وحسن توزيعها، فإذا كان من المطالب الأساسية للمواطنين المغاربة – بجانب مطلب الكرامة – التشغيل والرفع من الدخل، واعتمادا على مستوى وتيرة النمو في السنوات الأخيرة، والتي تتراوح بين 4.5 و 4.8 % … فإن معدل 4 % يمثل بالكاد نصف المعدل المطلوب للتقليص من مستوى البطالة بشكل ملحوظ، وهو معدل يجب أن يفوق نسبة 7 % ويتطلب كذلك الرفع من معدل دخل المغاربة إلى مستوى الدول الناشئة (والذي يتراوح بين 10 و 15 ألف دولار كمعدل) فيما يقل متوسط الدخل الفردي في المغرب عن 3500 دولار ، أي 5 مرات أضعف من متوسط الدخل بالدول الناشئة.
فكيف لنا أن نساير وتيرة النمو، ونتوقع بالتخطيط ورصد المؤشرات بتقلباتها مدى توافق طموحاتنا التنموية مع وضعنا الاقتصادي والاجتماعي العام؟ وكيف لنا أن نحصل على توقعات بمنأى عن التقلبات ونحافظ على مستوى سنوي قار من التنبؤ مع اعتماد تخطيط على المديين المتوسط والبعيد…
ف “تقييم السياسات العمومية” – كما سبق أن قلت – هو إدراك أثر سياسة عامة ما على حياة المواطنين وعلى معيشهم اليومي… في ارتباط مع الرهانات المجتمعية والتحديات الأساسية، وعلى رأسها تدهور الموارد الطبيعية، والتحكم في الفوارق المتعددة الواجهات والأوجه، وفي وتيرة النمو… وغيرها من التحديات .
وأن إخضاع تقييم السياسات العمومية في المجالات القطاعية التي تم تقييمها من طرف اللجنة البرلمانية، كشف بشكل واضح أن كل الاستراتيجيات القطاعية المعنية غير واثقة من نفسها، وهي متذبذبة في تقدير مسار أهدافها، إضافة إلى غياب الالتقائية، مما يؤدي إلى ضياع نسبة كبيرة من الثروة بسبب ضعف الحكامة وعدم التدقيق والحرص على مواكبة التقييم منذ الفكرة الأولى إلى حين تنفيذها وتقدير نسب المردودية والفئات المستهدفة وحماية الأهداف وتهيئتها وتقويمها للمراحل المقبلة.
فارتباطا برهان تدهور الموارد الطبيعية، مثلا يمكن القول بأن ثلث الأراضي القابلة للزراعة (1/3) أراضي مسقية، فيما يعتمد ثلثا الأراضي الزراعية (2/3) على مياه الأمطار، وعلى تعبئة الموارد المائية. إذن فالإنتاج الفلاحي رهين بتوفر الموارد المائية… وهو يرهن الاقتصاد الوطني… الذي ما زال مرتبطا بالتقلبات المناخية. وهذا خلل إضافي.
وقد أكد والي بنك المغرب في تقريره السنوي الأخير على أن نسبة نمو الاقتصاد الوطني في سنة 2015 بلغت 4.5 %، وذلك أساسا بفضل موسم فلاحي استثنائي. فيما بقيت وتيرة الأنشطة غير الفلاحية محدودة وبطيئة.
فعلاقة بإنتاج الثروة، هل حققت المجهودات العمومية أهدافها في المجال الفلاحي مثلا؟ وهل تبدو في الأفق بوادر حل لتدبير الموارد الطبيعية في ظل الاستدامة، ونحن سننتقل في أفق 2025 إلى مستوى الخصاص في الموارد المائية؟ ومن المستفيد من الاستثمارات العمومية في هذا المجال؟ وما هو تقييمنا “للمغرب الأخضر” وخصوصا فيما له صلة بالدعامة الثانية التي تهم الفلاحة المعيشية.
وما هو مصير الأهداف المرسومة للمخطط الأزرق … التي ما زالت غامضة؟ وما مصير استراتيجية المغرب الرقمي 2013، الذي يبدو أنه قد تم الإعلان قبل شهر عن مخطط بديل في أفق 2020 دون أن يتم القيام بتقييم وجرد لأسباب فشل المخطط السابق أو الفحص عن نواقصه؟ أين العلاقة والرابط بين مخطط “إقلاع” و استراتيجية تسريع التنمية الصناعية 2014 – 2020 ؟ وما هي حصيلة نتائج تقييم استراتيجية المغرب الأخضر منذ انطلاقه في سنة 2008، وخصوصا فيما له صلة بالدعامة الثانية
وهو ما يمكن معه القول بأن الاعتماد على مكاتب دراسات، غالبا ما تكون أجنبية والتي تستأجر خدمات غير موثوق بها… هو الذي يؤدي إلى هذا التعثر.
ولست بحاجة إلى التأكيد على أن إدراك أثر سياسة عمومية ما ، يتحدد بوقعها على حياة المواطنين وعلى معيشهم اليومي – وهو ما أكد عليه صاحب الجلالة في خطابه الأخير – في ارتباط مع الرهانات المجتمعية والتحديات الأساسية، وعلى رأسها تدهور الموارد الطبيعية.
ويبدو أن الاستمرار في نهج مقاربة الاستراتيجيات القطاعية غير مؤمن بما يكفي من أدوات التقييم لضمان إنجاحه، لما يتطلب من الملائمة والالتقائية والاتساق. مما يتعين معه التفكير بجد في الرجوع إلى منهج التخطيط المتحكم فيه ووضع منهج للتقييم الشمولي قبل الحديث عن التقييم القطاعي.

         Partager Partager

تعليق جديد
Twitter

شروط نشر التعليقات بموقع حقائق بريس : مرفوض كليا الإساءة للكاتب أو الصحافي أو للأشخاص أو المؤسسات أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم وكل ما يدخل في سياقها

أخبار | رياضة | ثقافة | حوارات | تحقيقات | آراء | خدمات | افتتاحية | فيديو | اقتصاد | منوعات | الفضاء المفتوح | بيانات | الإدارة و التحرير