منذ صدور مقالتي "مستقبل الإلحاد" ، وأنا أقف أمام عدد من المحاورين الأشدّاء والأكفاء، منافحاً عن فرضية جديدة تؤكد بأن الإسلام يظل، في كل أحواله، عقيدة مفتوحة على إمكانية الخروج من الدين.
كنتُ مدركاً، منذ الوهلة الأولى، بأني، بتلك الفرضية غير المعهودة، سألقي بنفسي في معاكسة التيار الفكري السائد، بما يعنيه ذلك من تحمل لتبعات مثل هذه المغامرة. وعلى وجه التحديد فقد كنت أنافح عن فرضية تعاكس ما يذهب إليه مارسيل غوشيه، معتبراً بأن الإصلاح الديني في الغرب لم يكتمل؛ طالما أنه لم يرق إلى مستوى إصلاح لاهوتي يُعيد النظر في وظائف الذات الإلهية وعلاقة الله بالتاريخ؛ فلم يكن الأمر أكثر من تسوية قائمة على أساس جدار الفصل الوهمي بين الدّولة والكنيسة، بين الزمني والمقدّس. الأمر الذي سيفتح الباب أمام انتكاسة دينية محافظة باتت تسم المجتمعات الغربية، رغم مناخ الحريات وحقوق الإنسان، بل وأحياناً، باستغلال ذلك المناخ نفسه.
كنتُ مدركاً بأني أخالف أطروحة مشيل أونفراي، والذي يبشرنا بأنّ الإلحاد كخلاص من العدمية لن يكون إلاّ ميسماً خاصاً بالمرحلة "ما بعد المسيحية". وهنا يظل السؤال : ما القول في الإسلام؟ أم أننا سنكتفي بالقول بأن "الإلحاد" ظاهرة "ما بعد مسيحية" على وجه الحصر والتخصيص؟ لعل تموقع أونفراي ضمن نزعة التمركز حول المسيحية الغربية، أوقعه في جملة من الأخطاء المعرفية حول الإسلام. ونذكر نموذجين من كتابه الشهير "رسالة في الأثيولوجيا" (traité d’athéologie) :
1/ يعتقد بأن الحاكم الإسلامي الذي أشرف على تجميع القرآن وأبقى على نسخة واحدة بعد إحراقه للنسخ الستة الأخرى، يُدعى "مروان" !! (Grasset 2005, p : 116). والواقع أن أبسط دارس للإسلام يعلم بأن من فعلها هو الخليفة الثالث عثمان بن عفان وليس غيره.
2/ يعتقد بأن أول شهيد في الإسلام صحابي يُدعى "أبو جهل" !! (p : 258). علماً بأن أبا جهل كان قد قاتل ضدّ الإسلام ومات على وثنيته. أما ابنه عكرمة بن أبي جهل، فقد أسلم فقط بعد فتح مكة، وتوفي في معركة اليرموك أثناء خلافة أبي بكر. وليس هناك من أبي جهل مذكور في التاريخ الإسلامي غيرهما.
وهنا لدينا تقدير :
ذلك أن التمركز المعرفي حول المسيحية الغربية لا يُمكنه أن يُقدم لأي مفكر غربي أية إمكانية لمقاربة شمولية ومقنعة لمسألة الخروج من الدين. لا سيما وأني أردد على مسامع الجميع بأن الأنطولوجيا الإسلامية تمنحنا خطاً أمامياً طليعياً لإمكانية التحرّر من سلط المعابد وتسلط الأديان. لو أننا فقط نحسن الإصغاء لذواتنا كما ينبغي!
في مقالة "الله والتاريخ أو نهاية أسطورة الخلاص" حاولتُ أن أدعم فرضيتي بتصور واضح لعلاقة الله بالتاريخ. وإن كان يتوجب عليّ أن أعود إلى ديانة الصابئة، وهي أقدم الديانات السماوية والتوحيدية والكتابية، إلا أني حصرتُ البدء في كتاب "العهد القديم"؛ لما سيحمله ذلك الكتاب من أثر على فلسفة التاريخ في الغرب.
أظهرتُ كيف أن فكرة الله كانت تتطور نحو مزيد من التعالي والتجريد والذي بلغ ذروته مع العقيدة الإسلامية، حيث انسحب الله عن غايات التاريخ، بل لم يعد هناك في الإسلام أي تاريخ كلي وشمولي.
ولعل منبع القلق الدّائم في العقيدة الإسلامية يتجلى في أن الإسلام يلقي بالمسلم في بحر تاريخ بلا اتجاه ومن دون غاية كلية أو شمولية، بمعنى أننا، في آخر التحليل، من دون "التاريخ".
لقد تخلى الإسلام عن مفهوم التاريخ الذي جعلته المسيحية الغربية يمتدّ، كحكاية كبرى، من الخروج من جنة عدن مروراً بالخروج من مصر وانتهاء بعودة المخلص في الزمن الأخير.
ولأجل ذلك جاء القرآن نفسه خالياً من أي زمن خطي. إذ لسنا نجد أية سورة من سور القرآن تقدم للقارئ حكاية مكتملة، بل إن القرآن في مجموعه لا يُحاكي أي تاريخ كوني يحمل أهدافاً وغايات خلاصية كونية.
في مرحلة الإسلام (العهد الثالث) انسحب الله من التاريخ الكلي تاركاً ذلك التاريخ ينهار وينتهي إلى مجرّد شظايا متناثرة من الأحداث والوقائع والأزمنة الدّائرية أحياناً ونصف الدّائرية أحيانا أخرى، في انتظار نهاية جعلها القرآن ضمن اللامفكر فيه.
لا يتموضعُ المسلم داخل أية حكاية كبرى، يُبرر بها مختلف الوقائع والأحداث والمآسي والحروب. وهو لذلك يُعاني من القلق والتوثر، غير أن ذلك القلق هو أيضاً ثمن الحرية الأنطولوجية التي تميز العقيدة الإسلامية وتجعل المسلم غير ملزم بأية غاية تاريخية أو سيناريو خلاصي جاهز سلفاً ومسبقاً.
في مقال "ثقب في سماء الغيب، أو نهاية العدمية" أوضحت إذن تلك المفارقة الكبرى التي تميز الإسلام. فبقدر ما هو متأخر في مستوى الشريعة، إلاّ أنه في مستوى العقيدة، أو تحديداً في مستواه الأنطولوجي، يمنحنا فرصة لإمكانية الخروج من الدين من غير المرور بالضرورة عبر نفق العدمية.
كانت هناك مشكلة بالنسبة للكثيرين والذين طالبوني بأن أكون واضحاً في التعبير عن قناعاتي الاعتقادية، إن كنت مؤمناً فهذا يلزمني بضوابط إيمانية محدّدة، وإن كنت ملحداً فهذا يلزمني بالتوقف عن الاجتهاد في قضايا الدين بالغة الحساسية. وهو المطلب الذي ازداد إلحاحاً أثناء النقاش حول مقال "الإله الخارج عن القانون.
في مقال "النار والمعبد"، حاولتُ أن أدحض أسطورة الفصل بين دائرة الإيمان ودائرة الإلحاد، وأن أكشف عن وجود مساحة شاسعة من المنطقة الرّمادية بين الألوان الاعتقادية. وقد بدا لي، من خلال النقاش، أن الغالبية العظمى من المحاورين قد اتفقوا معي في الأخير حول وجاهة المنطقة الرّمادية.
بل لعل القلق الذي يكتنف عقيدتنا الإسلامية انعكاس لطابعها الرّمادي والذي يجعلها تتموضع بين المطلق والعرضي، بين الحلول والتعالي، بين إثبات كل الصفات والامتناع عن كل تشبيه، بين الوجود الغيبي والوجود الرّمزي، بين قاعدة النفي (لا إله) والاستثناء (إلا الله).
إلاّ أن المنبع الأساس للقلق الجذري الذي يكتنف عقيدتنا الإسلامية، يتجلى في أنها عقيدة متمحورة حول مبدأ "الفراغ الأنطولوجي"؛ فلسنا مجرّد أمة اكتشفت الصفر العَددي كما يقال، ولسنا أيضا مجرّد أمة متصالحة مع مبدأ الفناء الوجودي كما يلاحظ البعض، لكننا أيضا، أمة جعلت مركز قبلتها المقدّسة هي الكعبة : صندوق حجري فارغ من الدّاخل وخال من أي وجود مادي أو رمزي غير الهواء.
هذا الفراغ الأنطولوجي سرعان ما يتحول إلى فراغ تشريعي يمسّ القوانين والقرارات. وهنا يكمن السبب في تضخم مدونة الفقه كتعويض مستحيل عن ذلك الفراغ الأصلي، وهو تضخم لا مثيل له في معظم الحضارات الأخرى.
وهنا تتجلى مشكلة أخرى أثارها المحاورون :
ما القول في القرآن وفيما يقوله القرآن وما يأمرنا به من شرائع وأحكام ثابتة ومحكمة؟
في مقالة "ما هو القرآن؟"، حاولتُ أن أجيب عن هذا الإشكال بالقول بأن القرآن، الذي نجح في دعم الزعامة الدينية للرّسول، وتأسيس أمّة جديدة، لم تعد له اليوم من وظيفة أخرى غير الوظيفة التعبدية.
مشكلة أخرى هذه المرّة :
تساءل الكثير من المحاورين؛ هل يجوز لي أن أنعت نفسي بأني مسلم؟
في مقال "لماذا أقول أنا مسلم؟"، واجهتُ ذلك التساؤل وحاولت أن أجيب وأزيح ما بقي من سوء تفاهم في الموضوع.
على أني، وفي مقال "هذا كتابي بيميني، إلهي هل تسمعني؟"، وجدت نفسي أمام تعاليق جعلتني، لأول مرّة، أكتشف عنواناً واضحاً وصريحاً لهذا المجهود الفكري والوجداني الذي أمارسه بمعية كافة المحاورين، والذي يتغيّى المساهمة في الإصلاح اللاهوتي، بأسلوب المحاورات السقراطية، وداخل هذه الأغورا الجديدة : الأوان.
في الأخير كانت بعض التعاليق تبوح بالقول :
-"إيمانك عميق حضرة الكاتب وأحسدك عليه وأنا الذي أسمي نفسي مؤمناً وتسمي نفسك (ملحداً)".
-"بعد بحث دام عشرين عاماً، وبعد أن استبدّت بي اللاّأدرية أفصحت أنت عن مكنونات ما كان يَجول في خاطري".
-"ما أراده ناشيد… أنه يحاول الاقتراب من برزخ التديّن فلا يستطيع".
-"أرى أن الانصراف إلى دحض فكرة سعيد ناشيد باعتبارها أطروحة إلحادية لا مبرر له ولا جدوى منه لأنها رسالة تتضمن خطابا يتجاوز الظاهرة الدينية ويتطلع صاحبه إلى إيمان حقيقي آخر تطمئن له النفس و تتجرّد من الحيرة والشك".
-أنا نفسي مع الأخ سعيد، لم أعد أثق في التبريرات التي أنسجها في نفسي نسجاً لأجل أن أفسر المتعارضات التي تحيرني سواء في النص القرآني أو النص السني".
بعد قراءتي لهذه التعليقات، كان عليّ أن أعترف، في الأخير، بما يلي :
كنتُ أظنّ بأني أميط اللثام عن وجود قلق متأصل في الإسلام. وأعترف الآن بأن ذلك القلق، الذي يقطن داخل العقيدة، قد أدركه الكثيرون ويُدركه الأكثرون، لولا أنهم قليلا ما يبوحون. ويكفيني أني جعلتُ بعضهم يفعلون.
كنتُ مدركاً، منذ الوهلة الأولى، بأني، بتلك الفرضية غير المعهودة، سألقي بنفسي في معاكسة التيار الفكري السائد، بما يعنيه ذلك من تحمل لتبعات مثل هذه المغامرة. وعلى وجه التحديد فقد كنت أنافح عن فرضية تعاكس ما يذهب إليه مارسيل غوشيه، معتبراً بأن الإصلاح الديني في الغرب لم يكتمل؛ طالما أنه لم يرق إلى مستوى إصلاح لاهوتي يُعيد النظر في وظائف الذات الإلهية وعلاقة الله بالتاريخ؛ فلم يكن الأمر أكثر من تسوية قائمة على أساس جدار الفصل الوهمي بين الدّولة والكنيسة، بين الزمني والمقدّس. الأمر الذي سيفتح الباب أمام انتكاسة دينية محافظة باتت تسم المجتمعات الغربية، رغم مناخ الحريات وحقوق الإنسان، بل وأحياناً، باستغلال ذلك المناخ نفسه.
كنتُ مدركاً بأني أخالف أطروحة مشيل أونفراي، والذي يبشرنا بأنّ الإلحاد كخلاص من العدمية لن يكون إلاّ ميسماً خاصاً بالمرحلة "ما بعد المسيحية". وهنا يظل السؤال : ما القول في الإسلام؟ أم أننا سنكتفي بالقول بأن "الإلحاد" ظاهرة "ما بعد مسيحية" على وجه الحصر والتخصيص؟ لعل تموقع أونفراي ضمن نزعة التمركز حول المسيحية الغربية، أوقعه في جملة من الأخطاء المعرفية حول الإسلام. ونذكر نموذجين من كتابه الشهير "رسالة في الأثيولوجيا" (traité d’athéologie) :
1/ يعتقد بأن الحاكم الإسلامي الذي أشرف على تجميع القرآن وأبقى على نسخة واحدة بعد إحراقه للنسخ الستة الأخرى، يُدعى "مروان" !! (Grasset 2005, p : 116). والواقع أن أبسط دارس للإسلام يعلم بأن من فعلها هو الخليفة الثالث عثمان بن عفان وليس غيره.
2/ يعتقد بأن أول شهيد في الإسلام صحابي يُدعى "أبو جهل" !! (p : 258). علماً بأن أبا جهل كان قد قاتل ضدّ الإسلام ومات على وثنيته. أما ابنه عكرمة بن أبي جهل، فقد أسلم فقط بعد فتح مكة، وتوفي في معركة اليرموك أثناء خلافة أبي بكر. وليس هناك من أبي جهل مذكور في التاريخ الإسلامي غيرهما.
وهنا لدينا تقدير :
ذلك أن التمركز المعرفي حول المسيحية الغربية لا يُمكنه أن يُقدم لأي مفكر غربي أية إمكانية لمقاربة شمولية ومقنعة لمسألة الخروج من الدين. لا سيما وأني أردد على مسامع الجميع بأن الأنطولوجيا الإسلامية تمنحنا خطاً أمامياً طليعياً لإمكانية التحرّر من سلط المعابد وتسلط الأديان. لو أننا فقط نحسن الإصغاء لذواتنا كما ينبغي!
في مقالة "الله والتاريخ أو نهاية أسطورة الخلاص" حاولتُ أن أدعم فرضيتي بتصور واضح لعلاقة الله بالتاريخ. وإن كان يتوجب عليّ أن أعود إلى ديانة الصابئة، وهي أقدم الديانات السماوية والتوحيدية والكتابية، إلا أني حصرتُ البدء في كتاب "العهد القديم"؛ لما سيحمله ذلك الكتاب من أثر على فلسفة التاريخ في الغرب.
أظهرتُ كيف أن فكرة الله كانت تتطور نحو مزيد من التعالي والتجريد والذي بلغ ذروته مع العقيدة الإسلامية، حيث انسحب الله عن غايات التاريخ، بل لم يعد هناك في الإسلام أي تاريخ كلي وشمولي.
ولعل منبع القلق الدّائم في العقيدة الإسلامية يتجلى في أن الإسلام يلقي بالمسلم في بحر تاريخ بلا اتجاه ومن دون غاية كلية أو شمولية، بمعنى أننا، في آخر التحليل، من دون "التاريخ".
لقد تخلى الإسلام عن مفهوم التاريخ الذي جعلته المسيحية الغربية يمتدّ، كحكاية كبرى، من الخروج من جنة عدن مروراً بالخروج من مصر وانتهاء بعودة المخلص في الزمن الأخير.
ولأجل ذلك جاء القرآن نفسه خالياً من أي زمن خطي. إذ لسنا نجد أية سورة من سور القرآن تقدم للقارئ حكاية مكتملة، بل إن القرآن في مجموعه لا يُحاكي أي تاريخ كوني يحمل أهدافاً وغايات خلاصية كونية.
في مرحلة الإسلام (العهد الثالث) انسحب الله من التاريخ الكلي تاركاً ذلك التاريخ ينهار وينتهي إلى مجرّد شظايا متناثرة من الأحداث والوقائع والأزمنة الدّائرية أحياناً ونصف الدّائرية أحيانا أخرى، في انتظار نهاية جعلها القرآن ضمن اللامفكر فيه.
لا يتموضعُ المسلم داخل أية حكاية كبرى، يُبرر بها مختلف الوقائع والأحداث والمآسي والحروب. وهو لذلك يُعاني من القلق والتوثر، غير أن ذلك القلق هو أيضاً ثمن الحرية الأنطولوجية التي تميز العقيدة الإسلامية وتجعل المسلم غير ملزم بأية غاية تاريخية أو سيناريو خلاصي جاهز سلفاً ومسبقاً.
في مقال "ثقب في سماء الغيب، أو نهاية العدمية" أوضحت إذن تلك المفارقة الكبرى التي تميز الإسلام. فبقدر ما هو متأخر في مستوى الشريعة، إلاّ أنه في مستوى العقيدة، أو تحديداً في مستواه الأنطولوجي، يمنحنا فرصة لإمكانية الخروج من الدين من غير المرور بالضرورة عبر نفق العدمية.
كانت هناك مشكلة بالنسبة للكثيرين والذين طالبوني بأن أكون واضحاً في التعبير عن قناعاتي الاعتقادية، إن كنت مؤمناً فهذا يلزمني بضوابط إيمانية محدّدة، وإن كنت ملحداً فهذا يلزمني بالتوقف عن الاجتهاد في قضايا الدين بالغة الحساسية. وهو المطلب الذي ازداد إلحاحاً أثناء النقاش حول مقال "الإله الخارج عن القانون.
في مقال "النار والمعبد"، حاولتُ أن أدحض أسطورة الفصل بين دائرة الإيمان ودائرة الإلحاد، وأن أكشف عن وجود مساحة شاسعة من المنطقة الرّمادية بين الألوان الاعتقادية. وقد بدا لي، من خلال النقاش، أن الغالبية العظمى من المحاورين قد اتفقوا معي في الأخير حول وجاهة المنطقة الرّمادية.
بل لعل القلق الذي يكتنف عقيدتنا الإسلامية انعكاس لطابعها الرّمادي والذي يجعلها تتموضع بين المطلق والعرضي، بين الحلول والتعالي، بين إثبات كل الصفات والامتناع عن كل تشبيه، بين الوجود الغيبي والوجود الرّمزي، بين قاعدة النفي (لا إله) والاستثناء (إلا الله).
إلاّ أن المنبع الأساس للقلق الجذري الذي يكتنف عقيدتنا الإسلامية، يتجلى في أنها عقيدة متمحورة حول مبدأ "الفراغ الأنطولوجي"؛ فلسنا مجرّد أمة اكتشفت الصفر العَددي كما يقال، ولسنا أيضا مجرّد أمة متصالحة مع مبدأ الفناء الوجودي كما يلاحظ البعض، لكننا أيضا، أمة جعلت مركز قبلتها المقدّسة هي الكعبة : صندوق حجري فارغ من الدّاخل وخال من أي وجود مادي أو رمزي غير الهواء.
هذا الفراغ الأنطولوجي سرعان ما يتحول إلى فراغ تشريعي يمسّ القوانين والقرارات. وهنا يكمن السبب في تضخم مدونة الفقه كتعويض مستحيل عن ذلك الفراغ الأصلي، وهو تضخم لا مثيل له في معظم الحضارات الأخرى.
وهنا تتجلى مشكلة أخرى أثارها المحاورون :
ما القول في القرآن وفيما يقوله القرآن وما يأمرنا به من شرائع وأحكام ثابتة ومحكمة؟
في مقالة "ما هو القرآن؟"، حاولتُ أن أجيب عن هذا الإشكال بالقول بأن القرآن، الذي نجح في دعم الزعامة الدينية للرّسول، وتأسيس أمّة جديدة، لم تعد له اليوم من وظيفة أخرى غير الوظيفة التعبدية.
مشكلة أخرى هذه المرّة :
تساءل الكثير من المحاورين؛ هل يجوز لي أن أنعت نفسي بأني مسلم؟
في مقال "لماذا أقول أنا مسلم؟"، واجهتُ ذلك التساؤل وحاولت أن أجيب وأزيح ما بقي من سوء تفاهم في الموضوع.
على أني، وفي مقال "هذا كتابي بيميني، إلهي هل تسمعني؟"، وجدت نفسي أمام تعاليق جعلتني، لأول مرّة، أكتشف عنواناً واضحاً وصريحاً لهذا المجهود الفكري والوجداني الذي أمارسه بمعية كافة المحاورين، والذي يتغيّى المساهمة في الإصلاح اللاهوتي، بأسلوب المحاورات السقراطية، وداخل هذه الأغورا الجديدة : الأوان.
في الأخير كانت بعض التعاليق تبوح بالقول :
-"إيمانك عميق حضرة الكاتب وأحسدك عليه وأنا الذي أسمي نفسي مؤمناً وتسمي نفسك (ملحداً)".
-"بعد بحث دام عشرين عاماً، وبعد أن استبدّت بي اللاّأدرية أفصحت أنت عن مكنونات ما كان يَجول في خاطري".
-"ما أراده ناشيد… أنه يحاول الاقتراب من برزخ التديّن فلا يستطيع".
-"أرى أن الانصراف إلى دحض فكرة سعيد ناشيد باعتبارها أطروحة إلحادية لا مبرر له ولا جدوى منه لأنها رسالة تتضمن خطابا يتجاوز الظاهرة الدينية ويتطلع صاحبه إلى إيمان حقيقي آخر تطمئن له النفس و تتجرّد من الحيرة والشك".
-أنا نفسي مع الأخ سعيد، لم أعد أثق في التبريرات التي أنسجها في نفسي نسجاً لأجل أن أفسر المتعارضات التي تحيرني سواء في النص القرآني أو النص السني".
بعد قراءتي لهذه التعليقات، كان عليّ أن أعترف، في الأخير، بما يلي :
كنتُ أظنّ بأني أميط اللثام عن وجود قلق متأصل في الإسلام. وأعترف الآن بأن ذلك القلق، الذي يقطن داخل العقيدة، قد أدركه الكثيرون ويُدركه الأكثرون، لولا أنهم قليلا ما يبوحون. ويكفيني أني جعلتُ بعضهم يفعلون.