لطالما ردد الكثير من العرب والمسلمين مقولة إن أوضاع الأمتين العربية والإسلامية قد تدهورت بمجرد أنهما ابتعدتا عن الإسلام. وبالتالي فهم يعزون سبب تأخر العرب والمسلمين إلى اضمحلال شأن الدين في الحياة بشكل عام. لكن الحقيقة أن الدين لم يتلاش مطلقاً من حياة العرب والمسلمين، بل يبقى كامناً في أصغر تفاصيل حياتهم بمختلف مجالاتها. وأكبر دليل على ذلك الأسئلة التي يطرحها المسلمون على المفتين ورجال الدين وأهل الذكر في البرامج الإعلامية، وخاصة أثناء شهر رمضان المبارك. ومن شدة اهتمام الناس بالدين تراهم يسألون عن أدق التفاصيل، فهذا يسأل إذا كان يجوز له أن يشم رائحة الماء أثناء الصيام، وذاك يسأل إذا كان رش الماء على الوجه في رمضان يفسد صيامه، ناهيك عن الأسئلة المتعلقة بالعلاقات الزوجية وتفاصيلها الدقيقة في شهر الصوم.
ولا يمكن في الوقت نفسه أن تلوم الأنظمة العربية والإسلامية على ابتعادها عن الإسلام أو تنفير الشعوب من الدين، بل على العكس من ذلك نجد أن الأنظمة وخاصة التي ترفع شعارات علمانية كاذبة كالنظام السوري، نجدها تخصص ميزانيات مهولة لبناء المساجد والمؤسسات الدينية وتخريج الوعاظ والجماعات المتدينة بأنواعها كافة. لا بل إن البعض يتهم النظام السوري مثلاً بأنه بنى مئات الجوامع، بينما لم يبن سوى بضع جامعات. ولو فعلاً نظرت إلى عدد الجوامع ودور العبادة وقارنتها بعدد المعاهد والمؤسسات التعليمية لوجدت أن الأخيرة أقل بعشرات المرات. وقد شاهدنا الرئيس السوري نفسه قبل فترة وهو يمالئ رجال الدين، لا بل إنه تنكر للأصول السريانية والعربية لسوريا، واعتبرها بلداً إسلامياً من رأسه حتى أخمص قدميه. كما وعد الحضور من الشيوخ والعلماء بمزيد من الدعم لنشر الدين. ولطالما سمعنا بعض منتقدي النظام وهم يتهمونه بأنه يبالغ في إرضاء الإسلاميين والتزلف لهم. فإذا كان النظام «العلمانجي» السوري يقدم كل هذه العروض الدينية، فما بالك بالدول التي أسلمت كل جوانب الحياة منذ نشأتها كالنظام السعودي مثلاً، الذي وصل فيه عدد حملة الدكتوراه في الشؤون الدينية إلى عشرات الألوف، فلم يبق أي تفصيل بسيط في الأحاديث إلا وقدم أحدهم رسالة دكتوراه حوله. ولا ننسى مئات المليارات التي أنفقتها السعودية على نشر الدين داخلياً وخارجياً.
ولا ننسى أن الأحزاب الإسلامية وصلت إلى السلطة في أكثر من بلد كالمغرب والسودان وتونس. وقد حكم عمر حسن البشير السودان بقبضة إسلامية لعشرات السنين. وحتى البلدان التي لم يصل فيها الإسلاميون إلى السلطة كانت ومازالت تخصص ميزانيات هائلة للشأن الديني بغض النظر عن توجهاتها السياسية. باختصار إذاً، فإن الذين يزعمون بأن العصور القديمة كانت مزدهرة بسبب الدين ليسوا على صواب. هل كان العصران الأموي والعباسي مثلاً مزدهرين لأسباب دينية، وهل التخلف الحالي في العالمين العربي والإسلامي سببه تلاشي الشأن الديني في الحياة العامة، أم إن هذه شماعة يرفعها البعض للتغطية على الفشل العربي والإسلامي في مجاراة الأمم الأخرى؟
تعالوا ننظر الآن إلى الصين التي تستعد لاستلام مشعل القيادة الدولية من أمريكا تكنولوجياً ومالياً واقتصادياً وربما ثقافياً في قادم العقود. ما هو دور الدين في الحياة العامة في الصين؟ طبعاً صفر، لأن غالبية الشعب الصيني بلا دين كي لا نقول ملحدين. وتبلغ النسبة أكثر من تسعين بالمائة. بعبارة أخرى، فإن هذه النهضة العظيمة التي حققها الشعب الصيني خلال فترة وجيزة لا علاقة لها بالدين مطلقاً، وأن الذين حققوها هم بالأصل لا دينيون، أو بالمفهوم الإسلامي هم «كفار» ليس لأنهم ينتمون إلى أي دين آخر، بل لأنهم ليس لديهم أي دين أو مرجعية دينية أصلاً. قل ما تشاء عن الصينيين وعاداتهم وجرائمهم، لكن البلاد الإسلامية ليست أفضل حالاً في عاداتها وتقاليدها وجرائمها بحق المسلمين أنفسهم.
باختصار المشكلة ليست مشكلة دين، بل مشكلة عقليات وسياسات وأنظمة بالدرجة الأولى، فلا تنسوا أن الغرب الذي يعتبره البعض كافراً يمارس أفضل الجوانب الموجودة في الإسلام. ولعلكم تذكرون مقولة المصلح الإسلامي الشهير محمد عبده: «رأيت في أوروبا إسلاماً بلا مسلمين وفي بلدنا مسلمين بلا إسلام». ولا تنسوا القول الإسلامي الشهير: « إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن». أي أن القانون أقوى من التعاليم الدينية أحياناً في ضبط البشر وتهذيبهم.
ومن المفارقات الكبرى الملموسة أن أكثر الدول تقدماً وازدهاراً اليوم هي الدول «الكافرة» أي منظومة الدول العلمانية واللادينية، وإلا لماذا أن أكثر من يهرب ويلجأ لها ويحتمي بحكامها «الكفار والمشركين» هم العرب والمسلمون أنفسهم لا بل كبار زعامات الإسلام السياسي ورموز التطرف الذين وجدوا عند هؤلاء «الكفار» العدالة والأمان أكثر مما وجدوها عند أمراء المؤمنين وخلفاء الله في الأرض.
باختصار كفاكم التباكي على العصور القديمة وربطها بالدين، والنواح على العصر الحالي وجلده لأنه ليس قائماً على الدين. التجربة الصينية اللادينية تدحض هذه النظريات كلياً. لماذا تقدم الذين تعتبرونهم كفاراً، وتأخر «المؤمنون» بين قوسين طبعاً؟
ولا يمكن في الوقت نفسه أن تلوم الأنظمة العربية والإسلامية على ابتعادها عن الإسلام أو تنفير الشعوب من الدين، بل على العكس من ذلك نجد أن الأنظمة وخاصة التي ترفع شعارات علمانية كاذبة كالنظام السوري، نجدها تخصص ميزانيات مهولة لبناء المساجد والمؤسسات الدينية وتخريج الوعاظ والجماعات المتدينة بأنواعها كافة. لا بل إن البعض يتهم النظام السوري مثلاً بأنه بنى مئات الجوامع، بينما لم يبن سوى بضع جامعات. ولو فعلاً نظرت إلى عدد الجوامع ودور العبادة وقارنتها بعدد المعاهد والمؤسسات التعليمية لوجدت أن الأخيرة أقل بعشرات المرات. وقد شاهدنا الرئيس السوري نفسه قبل فترة وهو يمالئ رجال الدين، لا بل إنه تنكر للأصول السريانية والعربية لسوريا، واعتبرها بلداً إسلامياً من رأسه حتى أخمص قدميه. كما وعد الحضور من الشيوخ والعلماء بمزيد من الدعم لنشر الدين. ولطالما سمعنا بعض منتقدي النظام وهم يتهمونه بأنه يبالغ في إرضاء الإسلاميين والتزلف لهم. فإذا كان النظام «العلمانجي» السوري يقدم كل هذه العروض الدينية، فما بالك بالدول التي أسلمت كل جوانب الحياة منذ نشأتها كالنظام السعودي مثلاً، الذي وصل فيه عدد حملة الدكتوراه في الشؤون الدينية إلى عشرات الألوف، فلم يبق أي تفصيل بسيط في الأحاديث إلا وقدم أحدهم رسالة دكتوراه حوله. ولا ننسى مئات المليارات التي أنفقتها السعودية على نشر الدين داخلياً وخارجياً.
ولا ننسى أن الأحزاب الإسلامية وصلت إلى السلطة في أكثر من بلد كالمغرب والسودان وتونس. وقد حكم عمر حسن البشير السودان بقبضة إسلامية لعشرات السنين. وحتى البلدان التي لم يصل فيها الإسلاميون إلى السلطة كانت ومازالت تخصص ميزانيات هائلة للشأن الديني بغض النظر عن توجهاتها السياسية. باختصار إذاً، فإن الذين يزعمون بأن العصور القديمة كانت مزدهرة بسبب الدين ليسوا على صواب. هل كان العصران الأموي والعباسي مثلاً مزدهرين لأسباب دينية، وهل التخلف الحالي في العالمين العربي والإسلامي سببه تلاشي الشأن الديني في الحياة العامة، أم إن هذه شماعة يرفعها البعض للتغطية على الفشل العربي والإسلامي في مجاراة الأمم الأخرى؟
تعالوا ننظر الآن إلى الصين التي تستعد لاستلام مشعل القيادة الدولية من أمريكا تكنولوجياً ومالياً واقتصادياً وربما ثقافياً في قادم العقود. ما هو دور الدين في الحياة العامة في الصين؟ طبعاً صفر، لأن غالبية الشعب الصيني بلا دين كي لا نقول ملحدين. وتبلغ النسبة أكثر من تسعين بالمائة. بعبارة أخرى، فإن هذه النهضة العظيمة التي حققها الشعب الصيني خلال فترة وجيزة لا علاقة لها بالدين مطلقاً، وأن الذين حققوها هم بالأصل لا دينيون، أو بالمفهوم الإسلامي هم «كفار» ليس لأنهم ينتمون إلى أي دين آخر، بل لأنهم ليس لديهم أي دين أو مرجعية دينية أصلاً. قل ما تشاء عن الصينيين وعاداتهم وجرائمهم، لكن البلاد الإسلامية ليست أفضل حالاً في عاداتها وتقاليدها وجرائمها بحق المسلمين أنفسهم.
باختصار المشكلة ليست مشكلة دين، بل مشكلة عقليات وسياسات وأنظمة بالدرجة الأولى، فلا تنسوا أن الغرب الذي يعتبره البعض كافراً يمارس أفضل الجوانب الموجودة في الإسلام. ولعلكم تذكرون مقولة المصلح الإسلامي الشهير محمد عبده: «رأيت في أوروبا إسلاماً بلا مسلمين وفي بلدنا مسلمين بلا إسلام». ولا تنسوا القول الإسلامي الشهير: « إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن». أي أن القانون أقوى من التعاليم الدينية أحياناً في ضبط البشر وتهذيبهم.
ومن المفارقات الكبرى الملموسة أن أكثر الدول تقدماً وازدهاراً اليوم هي الدول «الكافرة» أي منظومة الدول العلمانية واللادينية، وإلا لماذا أن أكثر من يهرب ويلجأ لها ويحتمي بحكامها «الكفار والمشركين» هم العرب والمسلمون أنفسهم لا بل كبار زعامات الإسلام السياسي ورموز التطرف الذين وجدوا عند هؤلاء «الكفار» العدالة والأمان أكثر مما وجدوها عند أمراء المؤمنين وخلفاء الله في الأرض.
باختصار كفاكم التباكي على العصور القديمة وربطها بالدين، والنواح على العصر الحالي وجلده لأنه ليس قائماً على الدين. التجربة الصينية اللادينية تدحض هذه النظريات كلياً. لماذا تقدم الذين تعتبرونهم كفاراً، وتأخر «المؤمنون» بين قوسين طبعاً؟