تشير أغلب التوقعات في الآونة الأخيرة إلى أن فترة ما بعد كورونا قد تشهد موجات احتجاجات أكبر من تلك التي شهدها المغرب سابقا. محمد الطوزي، في حواره الأخير مع «أخبار اليوم»، توقع أن تكون الاحتجاجات أقوى في المدن المتوسطة والصغرى مستقبلا، لسبب رئيس يتمثل في أن استجابات الدولة أقل من حجم المطالب والتطلعات التي عبر عنها المواطنون.
تستحضر مثل هذه التوقعات، من جهة أولى، الخبرة الاحتجاجية للمغاربة في السنوات السابقة على انتشار فيروس كورونا، حيث تتفق جل الدراسات التي أنجزت حول الجيل الجديد من الاحتجاجات التي عرفها المغرب بعد 2011، على ارتفاع الطلب على الكرامة والحرية من لدن المغاربة، وأنه كلما تحسّنت وضعية الناس طمعوا في وضعية أفضل، وبالتالي، في خدمات أوفر وأكثر جودة، بشكل يفوق إمكانات الدولة، ربما، وما تخططه من سياسات وترصده من اعتمادات في هذا الصدد؛ كما تستحضر تلك التوقعات، من جهة ثانية، آثار الجفاف، وكذا التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لوباء كورونا على المغاربة، وخصوصا على الفئات المتضررة من السياسات الرسمية سواء في المدن أو القرى، حيث من المتوقع أن ترتفع مؤشرات الفقر والبطالة والتهميش.
لقد كشفت الدراسة، التي أنجزتها المندوبية السامية للتخطيط حول «تأثير كورونا في الوضع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي للأسر»، أن 34 في المائة من الأسر المغربية لم يعد لها أي مصدر للدخل بسبب توقف أنشطتها خلال الحجر الصحي؛ منها 44 في المائة أسر فقيرة، و42 في المائة من الأسر تعيش في مساكن عشوائية. كما سبق للمندوبية السامية أن كشفت أن 57 في المائة من المقاولات أوقفت نشاطها بشكل دائم أو جزئي، حيث علّقت 135 ألف مقاولة نشاطها بشكل مؤقت، فيما أغلقت 6300 مقاولة أبوابها نهائيا. ولعل من نتائج ذلك، ارتفاع البطالة بشكل حاد في المرحلة المقبلة، حيث تشير توقعات اقتصادية، غير رسمية، إلى احتمال ارتفاع البطالة بنقطة واحدة، ما يعني انضمام نحو 200 ألف شخص جديد إلى مئات الآلاف من العاطلين عن العمل.
ومما يفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي عندنا، أن الوضع لدى جيراننا في الاتحاد الأوربي ليس بأفضل حال، علما أن دول الاتحاد تستقطب 58 في المائة من الصادرات المغربية، فيما تمثل استثماراته الأجنبية المباشرة نسبة 59 في المائة، فضلا عن نسبة 70 في المائة في قطاع السياحة، ويبدو أن هذا الوضع قد يتغير سلبا بسبب سياسات الانكفاء والاعتماد على الذات، والتي باتت مغرية أكثر لجل الدول بسبب تداعيات كورونا.
نحن مقبلون، إذن، على أزمة اقتصادية واجتماعية قد تستمر سنوات، إحدى نتائجها المحتملة جدا، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، موجات من الاحتجاجات الاجتماعية التي ستلح في الطلب على الاقتسام العادل للثروة، وعلى الشراكة الحقيقية في السلطة، ما يتطلب نقاشا سياسيا عميقا حول الإصلاحات السياسية والمؤسساتية الممكنة لاحتواء الأزمة قبل انفجارها.
البعض ممن استشعروا هذا السيناريو اقترح الدعوة إلى حكومة وحدة وطنية، وكأنه سيخوض حربا، فيما اقترح البعض الآخر حكومة تقنوقراط اعتقادا منه أن الأزمة توجد في الجانب الإجرائي والتنفيذي، وتتطلب خبراء وتقنيين ممن يحسنون الأجرأة والتنفيذ، والحال أن القضية أكبر من ذلك، لأنها لا تتعلق بالمغرب فقط، بل بخيارات سياسية واستراتيجية ذات بعد دولي أثبتت محدوديتها وتتطلب المراجعة.
في المرحلة المقبلة بعد كورونا، من المرجح أن تنكفئ الدول على نفسها لإعادة النظر في أولوياتها وسياساتها، ولن تصغي في ذلك كثيرا إلى البنك الدولي والمؤسسات المماثلة. وإذا كان البعض عندنا من قصيري النظر يرون أنها فرصة لإعادة النظر في الاختيارات السياسية ذات النفس الديمقراطي والحقوقي، خصوصا أن القمع صار سمة ظاهرة في الغرب كما في الشرق، فإن هؤلاء يتجاهلون حقيقة أخرى تتبلور منذ مدة بوضوح شديد، تتمثل في أن الطلب على الديمقراطية لم يعد إملاءات واردة من الخارج، بل ملاذا وخيارا للشعوب في الداخل.
بعبارة أخرى، لن يكون ممكنا في المرحلة الآتية تبني السلطة عندنا للديمقراطية وحقوق الإنسان شعارا للتمويه في الداخل، وتحصيل المشروعية الدولية في الخارج؛ لأسباب منها، أولا، أن دول الغرب لم تعد الديمقراطية وحقوق الإنسان أولوية لها في سياساتها الخارجية، بل صار القمع وسيلتها المفضلة، كذلك، لفك الاحتجاجات، وخير مثال على ذلك ما جرى في فرنسا مع حركة «السترات الصفراء»، وما يجري اليوم في أمريكا حيث تعامل قوى الأمن مع المتظاهرين لا يختلف كثيرا عن تعامل أي قوى أمنية أخرى في منطقتنا؛ ومنها، ثانيا، أن الشعوب، ومنها المغاربة، باتت الأكثر طلبا على الديمقراطية وحقوق الإنسان، لأنها تظل الطريق الأفضل، حتى الآن، لاقتسام السلطة والثروة، بغاية العيش بكرامة في ظل القانون. وعليه، ليس أمام المغرب سوى تقوية مؤسساته، وتعزيز ديمقراطيته وتماسك مجتمعه، إذا هو أراد تجاوز الأزمات والاحتجاجات المقبلة أو التي تليها.