لعبت البورجوازية الفرنسية والبرجوازية الأوربية ككل، دورا حاسما في رسم الخريطة الفكرية ثم السياسية والاقتصادية لأوروبا الجديدة ابتداء من فرنسا، بل واعتلت مربط الفرس في الثورة الفرنسية قبل أن تتصادم المصالح البورجوازية و البروليتاريا الفرنسية، وتُسقط الثورة العمّالية بعد تحالف البورجوازية الفرنسية مع الجيش الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت الذي عينته البورجوازية الفرنسية حاكما لفرنسا في انقلاب على حليفتها في الثورة الفرنسية "الطبقة الكادحة".
وقد كان لهذه البورجوازية الدور الأساسي في بروز وتطور النظام الرأسمالي الأوربي، وكذلك ظهور مفاهيم جديدة "كبرنيكية"، سواء في الميادين الفكرية والثقافية والاقتصادية منها، واتسعت لتشمل شتى المجالات في الحياة السياسية والاجتماعية للدولة الفرنسية، وهذا ما يفسر أن الثقافة الفرنسية تغلب عليها البصمة البورجوازية، إلى أن ذهب البعض إلى حد وصفها "بالثقافة البورجوازية" التي تتميز بكثرة التدقيقات والمتأنّقات وتسيطر عليها البروتوكولات وتعقيدات الإتيكيت (حتى في المقهى لا يجب أن تترك مقعدك دون أن تترك "جغيمات" خلفك تملأ كأس عصيرك، وإلا سيعدّونك قليل ذوق ومدعاة سخرية!!!
في مقارنة مع الثقافة الروسية أو الثقافة الأمريكية المتفتحة والتي يغلب عليها شيء من العفوية بإطلاق العنان للشخصية وملكات التواصل، والتخلص من التعقيدات والتصنع لصالح العفوية الذاتية، دون أية تدقيقات أو تعقيدات سلوكية، هذا دون غياب أو إغفال الجانب الجمالي والإبداعي للكلمة والحركة، وفي سمات الأسلوب ككل.
رغم دفاع البرجوازية الفرنسية "الطبقة الجديدة" والصاعدة آنذاك عن مصالحها "الأنانية" في كثير من الأحيان، سواء الاقتصادية أو السياسية منها بشتى الطرق، أكانت ثورية أو دبلوماسية، وذلك باللجوء إلى تحالفات، كان أولها مع الطبقة العاملة أثناء الثورة، ثم إلى تحالف مع الجيش بتآمر مع ضابط في الجيش الفرنسي ذي الأصول الإيطالية "نابليون بونابارت" ليصبح حاكما على فرنسا الجديدة في انقلاب عسكري، كان العقدة في بداية الفلم التاريخي لظهور صراع جديد وحاد،بعد نهاية عصر الإقطاعية بزعامة الإكليروس والأرستقراطية، وذلك بين الفكر الرأسمالي بقيادة البرجوازية والفكر الاشتراكي الذي مثلت البروليتاريا والطبقة العاملة القاعدة الأساسية لبروز هذا التيار، الذي سيجد سندا وتعاطفا قويا من الطبقة المتوسطة على المستوى الفكري والعمل السياسي، وبرز في صفوف الحركات الطلابية والأحزاب السياسية والزعامات النقابية على مدى عقود من الزمن. قبل أن تحتوي الرأسمالية الذكية في إطارها الليبرالي هذا الفكر تحت زعمها الديمقراطي، على شكل أحزاب سياسية كما هو الشأن في العديد من الدول الغربية الرأسمالية الديمقراطية.
وسنتجاوز الحديث عن السياق التاريخي لبروز شوكة البرجوازية على مستوى المسرح السياسي والاقتصادي الأوروبي حيث لن يسعنا المجال لتفصيلها، وننتقل بالتساؤل المحوري والأهم، وهو: هل يمكن إسقاط مصطلح "البرجوازية" وما يحمله من ثقل ودلالات فكرية وأدبية على "الطبقة الغنية" في المجتمعات العربية؟
الجواب المنطقي والعقلاني سيكون لا وألف لا.
لا علاقة بالبورجوازية الأوربية ودورها التنويري والتاريخي "بالبرجوازية" العربية إن صح القول.ولا يمكن إسقاط هذا المصطلح على الطبقات الغنية بالمجتمعات العربية، ومنه يجب على متخصّصي السوسيولوجيا وعلم الاصطلاح "terminologie" والمؤرخين، إيجاد مصطلح بديل يشير إلى مفهوم دقيق ومحدد في هذا السياق لهذه الطبقة التي تجمع بين ملامح الإقطاعية القديمة، مع الاندماج في الرأسمالية العالمية الحديثة، مع غياب لأي دور إيجابي، تنويري نهضوي يؤثر في المجتمعات على المستوى الفكري والثقافي .
وحسب رأيي الخاص (فالبورجوازية العربية) هي بورجوازية هجينة للبرجوازية الأوروبية، ويمكن أن تلاحظوا ذلك في طرق عيشها وسلوكياتها بل والأكثر رفضا لمشروع التحديث والنهوض بالتراث والثقافة المحلية والوطنية، بل هي تشكل في كثير من الأحيان حجر عثرة وعامل إعاقة أمام السعي والنهوض بالثقافة الوطنية، حيث نجدها أقرب إلى الثقافة الفرنسية والإنجليزية حسب البلد "الجلاد" الذي استعمر الوطن أثناء الحقبة الاستعمارية، منه إلى الثقافة العربية والأمازيغية الوطنية في بلدان المغرب العربي، وكل ذلك على أرض شعوبها التي (تنتمي إليها)، تلك الشعوب التي كافحت بالغالي والنفيس من اجل تحقيق ذاتها والحفاظ على كيانها واستقلالها.. وفي اقتباس بنائي لابن خلدون ضعاف النفوس من البشر تقلد جلادها"
لذلك فهم يحتقرون الثقافة والتراث المحلي في جانبه القومي والوطني، وتقليد أسلوب الحياة الغربية في جانبها الاستهلاكي بغض النظر عن إيجابيات هذه الحضارة وحتمية الانفتاح على ما حققته من مكاسب ديمقراطية وإنسانية، على الأقل في نطاق حدودها الوطنية لشعوبها الأصلية. طبقة غنية تفتقر للوطنية نتيجة استمرار العديد من الخونة وعملاء الجيش الفرنسي داخل هياكل ومؤسسات الدولة بعد الاستقلال، انصهار تام لا نجده حتى عند الجيل الثالث في دول المهجر للمهاجرين المغاربة الذين يبدون رغبة واهتماما قويا بالثقافة واللغة.
وما يميز البرجوازية العربية هو نسجها لعلاقات معقدة ومتشابكة مع مختلف أجهزة السلطة، بل أن العديد من وجوهها ينتمون إلى عالم السلطة، إما عن طريق الأحزاب لولوج قبة البرلمان،أو الجهازين الأمني والعسكري مما مكن العديد من وجوها من تضخم وجناتها وبروز أنيابها الحادة والمتوحشة، دون أية قيود في غياب مراقبة حقيقية، إلى أن أصبحت ديناصورات ثقيلة على المستوى الأمني والمالي والمشهد السياسي، وذلك أمام أعين الدولة، بل أحيانا اختلطت مصالحهما وأصبحوا من الدولة والى الدولة،وصعب التخلص منها، تلك الدولة التي كانت تعلم جيدا أن نموها غير شرعي، وغير قانوني، ومع ذلك، تغض الطرف عنها ولا تحرك ساكنا تجاهها، لأنها تورطت فيهم في حقبة خاصة، وظرفية زمنية خاصة، أهمها الانتهاكات الخطيرة والكارثية لحقوق الإنسان، وأصبحوا اعتقادا منها، أنها تساهم في استقرار النظام السياسي وتحريك العجلة الاقتصادية، وهي في ذلك لا تدرك أن "بورجوازية" خاصة من هذا النوع، لا يمكن أن تقوم إلا بدور غير صحي وسلبي في إعاقة التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة والاستقرار السياسي الحقيقي، وهي بذلك تضر بالمجتمع ولا تنفعه.
وخلاصة القول فالبورجوازية العربية لا تعدو إلا أن تكون الظل الهجين للبورجوازية الفرنسية، وجزء مهم منها "طبقة غنية بدوية" كما صنفها بعض الباحثين. ولكن الخبر الذي يجب أن يضاف إلى المبتدأ هو كلمة "متوحشة".
بورجوازية متوحشة نظرا للدور السلبي والكارثي الذي لعبته هذه الطبقة في كل المجالات. فهذه الطبقة الغنية المتوغلة والمتغوّلة، تساند الفساد الإداري لأنها تستفيد من الفساد الإداري كمظهر من مظاهر تطورها وضمان لإستمراريتها في غياب المنافسة الشريفة القائمة على حرية المبادرة والابتكار والذكاء التجاري والاستثماري، فالفساد رهان فاعليتها لأنهم يخافون من الضوء كاللصوص تماما، حيث غياب تكافؤ الفرص وسيادة الشفافية وتطبيق القانون الرادع الذي يضرب بقوة القانون على الأيدي التي تتعامل من تحت الطاولة في غفلة عن سيادته المقدسة، لإحقاق الحق. لذلك فهي تنمّي الفساد وتشجعه وتمارسه لأنه مصدر ثرائها ونفوذها.
إن ثلاثية الاقتصاد والسياسة والثقافة التي لعبت فيها البرجوازية الأوربية الثقل الأهم في إحداثيات التطور التاريخي للمجتمعات الأوروبية الحديثة، نجد أن البرجوازية العربية تلعب في ثلاثية أخرى، وهي الفساد الاقتصادي والتهجين الثقافي، لصالح السلطة السياسية، وتماشيا مع أجندة الأنظمة الرأسمالية التي تنظر إلى دول الجنوب كحقل من الفواكه بنظرة استغلالية واستعمارية أكثر منها نظرة إنسانية في إطار حوار وتنافح الحضارات وتعاون الشعوب لما فيه خير للإنسان والإنسانية.
وفي الختام يمكن أن نجمل دور هذه "البرجوازية' العربية التي تجمع بين السلطة والاقتصاد، على المستويات الفكرية والثقافية : في تهميش وازدراء الثقافة المحلية لصالح ثقافة المستعمر في جانبها الرأسمالي والاستهلاكي دون بعدها الإنساني وهو حجر الزاوية للحضارة الأوربية في جانبها التنويري، والعلمي والتكنولوجي، وفي التأثير والتناقح بين الحضارتين على الضفتين الشمالية والجنوبية. هذا الازدراء يولد شعورا بالدونية لدى الفئات البسيطة من المجتمع أمام طبقة "البرجوازية" العربية من جانب والثقافات الأجنبية من جانب آخر، في غياب بورجوازية وطنية حقيقية تتبنى مشروع النهوض والدفاع عن الثقافة المحلية، كما هو الشأن في النموذج الياباني واستفادته من الحضارة الأوربية مع الحفاظ على شخصية الإنسان الياباني ومكانتها بين شعوب العالم.
والمميز لفئة منها، هو ممارستها للدجل الديني والرهبنة، الذي أثر في النظرة الصحيحة لسمو تعاليم الدين الإسلامي، وكل ذلك لتكريس الاستغلال، واكتساب الشرعية الدينية في صفوف الجمهور المتدين، الذي يعتبر أن ما تقوم به تلك "البورجوازية" من استغلال همجي للسلطة وللكادحين، إنما هو قضاء وقدر، وتسخير من الله حيث جعل البعض سخريا للبعض الآخر(وليس بمعنى تكامل الأدوار لسيرورة المجتمع دون هضم للحقوق أو تفريط في الواجبات) وأن ما تمارسه هذه الطبقة من تسلط وفساد وتكديس للثروات، هو قضاء وقدر وعطاء وابتلاء من عند الله، وبالتالي فإخضاع أموال هذه الطبقة للمراقبة وتقييد نفوذها،إنما يدخل في خانة الحسد على النعم التي منحها الخالق إياها، وهذا عمل مكروه وغير وارد، حيث من الصالح تركها ورزقها كما يحلو لها، والعمل على كسب الرزق دون النظر إليها!
وما ذلك إلا مفعول أفيوني، ودعوة إلى التسليم والقبول في جو احتكاري يعمه الفساد والزبونية والوساطة والتسلط، وبذلك نجد أن هذه البورجوازية الاستغلالية تضفي على نفسها شيئا من القداسة. من خلال الدجل الذي تمارسه، عوض السعي إلى إصلاح بيت القصيد ومكمن النزيف،وبذلك يكون الجري نحو العدالة الاجتماعية التي تضمن تطور المجتمع وتحريك عجلة الاقتصاد تحت ركائز قوية، كمن يسقي رملا في بحر من السراب وهو في انتظار ازهرار بذور لا تزهر ولا تنمو أبدا، إلا في وسط صحي، وتلك أسس التقدم وسننه الحميدة!
"البورجوازية" العربية المتوحشة في انتظار استخراج واستنباط مصطلح دقيق وعلمي على الطبقة الغنية في مجتمعاتنا الراقية والتي تجمع بين النفوذ والمال خارج القانون، لا يمكن أن أشبها إلا بذلك الجرد السمين الذي امتطى ظهر السفينة"الوطن" وشرع في قرض ألواحها الخشبية بجشع وجنون "متوحش" !.
هل تعلمون إلى أين ستؤول إليه الأوضاع ومصير السفينة إذا استمر الجرذ في قرض ألواح السفينة!
هذا ما أوشك العالم العربي أن يصل إليه..
أهو يا ترى الانهيار الأخير والغرق في بحور من التخلف؟
كل ذلك بسبب أنانية متوحشة وجشع لا يطاق، في غياب حب حقيقي للوطن وللأمة وللشعب، الوطن الذي لم يعد منذ زمن بعيد ذلك البيت الدافئ الذي يجمعنا ويحمينا معا، بل أصبح المَهرب نحو بلدان الشمال الباردة والقارسة، منذ أن أصبح بيتنا أوهن من بيت العنكبوت؟
حيث يأكل بعضنا بعضا وهذا ما لا تفعله الذئاب..
وليس الذئب يأكل لحم ذئب*******ويأكل بعضنا بعضا عيانــا
ترى هل يمكن الاستدراك بعد طول انتظار لنلحق قطارا في اليابسة، من الضفة الشمالية من عالمنا الجديد (قريتنا الصغيرة) من زمن العولمة!!؟
وقد كان لهذه البورجوازية الدور الأساسي في بروز وتطور النظام الرأسمالي الأوربي، وكذلك ظهور مفاهيم جديدة "كبرنيكية"، سواء في الميادين الفكرية والثقافية والاقتصادية منها، واتسعت لتشمل شتى المجالات في الحياة السياسية والاجتماعية للدولة الفرنسية، وهذا ما يفسر أن الثقافة الفرنسية تغلب عليها البصمة البورجوازية، إلى أن ذهب البعض إلى حد وصفها "بالثقافة البورجوازية" التي تتميز بكثرة التدقيقات والمتأنّقات وتسيطر عليها البروتوكولات وتعقيدات الإتيكيت (حتى في المقهى لا يجب أن تترك مقعدك دون أن تترك "جغيمات" خلفك تملأ كأس عصيرك، وإلا سيعدّونك قليل ذوق ومدعاة سخرية!!!
في مقارنة مع الثقافة الروسية أو الثقافة الأمريكية المتفتحة والتي يغلب عليها شيء من العفوية بإطلاق العنان للشخصية وملكات التواصل، والتخلص من التعقيدات والتصنع لصالح العفوية الذاتية، دون أية تدقيقات أو تعقيدات سلوكية، هذا دون غياب أو إغفال الجانب الجمالي والإبداعي للكلمة والحركة، وفي سمات الأسلوب ككل.
رغم دفاع البرجوازية الفرنسية "الطبقة الجديدة" والصاعدة آنذاك عن مصالحها "الأنانية" في كثير من الأحيان، سواء الاقتصادية أو السياسية منها بشتى الطرق، أكانت ثورية أو دبلوماسية، وذلك باللجوء إلى تحالفات، كان أولها مع الطبقة العاملة أثناء الثورة، ثم إلى تحالف مع الجيش بتآمر مع ضابط في الجيش الفرنسي ذي الأصول الإيطالية "نابليون بونابارت" ليصبح حاكما على فرنسا الجديدة في انقلاب عسكري، كان العقدة في بداية الفلم التاريخي لظهور صراع جديد وحاد،بعد نهاية عصر الإقطاعية بزعامة الإكليروس والأرستقراطية، وذلك بين الفكر الرأسمالي بقيادة البرجوازية والفكر الاشتراكي الذي مثلت البروليتاريا والطبقة العاملة القاعدة الأساسية لبروز هذا التيار، الذي سيجد سندا وتعاطفا قويا من الطبقة المتوسطة على المستوى الفكري والعمل السياسي، وبرز في صفوف الحركات الطلابية والأحزاب السياسية والزعامات النقابية على مدى عقود من الزمن. قبل أن تحتوي الرأسمالية الذكية في إطارها الليبرالي هذا الفكر تحت زعمها الديمقراطي، على شكل أحزاب سياسية كما هو الشأن في العديد من الدول الغربية الرأسمالية الديمقراطية.
وسنتجاوز الحديث عن السياق التاريخي لبروز شوكة البرجوازية على مستوى المسرح السياسي والاقتصادي الأوروبي حيث لن يسعنا المجال لتفصيلها، وننتقل بالتساؤل المحوري والأهم، وهو: هل يمكن إسقاط مصطلح "البرجوازية" وما يحمله من ثقل ودلالات فكرية وأدبية على "الطبقة الغنية" في المجتمعات العربية؟
الجواب المنطقي والعقلاني سيكون لا وألف لا.
لا علاقة بالبورجوازية الأوربية ودورها التنويري والتاريخي "بالبرجوازية" العربية إن صح القول.ولا يمكن إسقاط هذا المصطلح على الطبقات الغنية بالمجتمعات العربية، ومنه يجب على متخصّصي السوسيولوجيا وعلم الاصطلاح "terminologie" والمؤرخين، إيجاد مصطلح بديل يشير إلى مفهوم دقيق ومحدد في هذا السياق لهذه الطبقة التي تجمع بين ملامح الإقطاعية القديمة، مع الاندماج في الرأسمالية العالمية الحديثة، مع غياب لأي دور إيجابي، تنويري نهضوي يؤثر في المجتمعات على المستوى الفكري والثقافي .
وحسب رأيي الخاص (فالبورجوازية العربية) هي بورجوازية هجينة للبرجوازية الأوروبية، ويمكن أن تلاحظوا ذلك في طرق عيشها وسلوكياتها بل والأكثر رفضا لمشروع التحديث والنهوض بالتراث والثقافة المحلية والوطنية، بل هي تشكل في كثير من الأحيان حجر عثرة وعامل إعاقة أمام السعي والنهوض بالثقافة الوطنية، حيث نجدها أقرب إلى الثقافة الفرنسية والإنجليزية حسب البلد "الجلاد" الذي استعمر الوطن أثناء الحقبة الاستعمارية، منه إلى الثقافة العربية والأمازيغية الوطنية في بلدان المغرب العربي، وكل ذلك على أرض شعوبها التي (تنتمي إليها)، تلك الشعوب التي كافحت بالغالي والنفيس من اجل تحقيق ذاتها والحفاظ على كيانها واستقلالها.. وفي اقتباس بنائي لابن خلدون ضعاف النفوس من البشر تقلد جلادها"
لذلك فهم يحتقرون الثقافة والتراث المحلي في جانبه القومي والوطني، وتقليد أسلوب الحياة الغربية في جانبها الاستهلاكي بغض النظر عن إيجابيات هذه الحضارة وحتمية الانفتاح على ما حققته من مكاسب ديمقراطية وإنسانية، على الأقل في نطاق حدودها الوطنية لشعوبها الأصلية. طبقة غنية تفتقر للوطنية نتيجة استمرار العديد من الخونة وعملاء الجيش الفرنسي داخل هياكل ومؤسسات الدولة بعد الاستقلال، انصهار تام لا نجده حتى عند الجيل الثالث في دول المهجر للمهاجرين المغاربة الذين يبدون رغبة واهتماما قويا بالثقافة واللغة.
وما يميز البرجوازية العربية هو نسجها لعلاقات معقدة ومتشابكة مع مختلف أجهزة السلطة، بل أن العديد من وجوهها ينتمون إلى عالم السلطة، إما عن طريق الأحزاب لولوج قبة البرلمان،أو الجهازين الأمني والعسكري مما مكن العديد من وجوها من تضخم وجناتها وبروز أنيابها الحادة والمتوحشة، دون أية قيود في غياب مراقبة حقيقية، إلى أن أصبحت ديناصورات ثقيلة على المستوى الأمني والمالي والمشهد السياسي، وذلك أمام أعين الدولة، بل أحيانا اختلطت مصالحهما وأصبحوا من الدولة والى الدولة،وصعب التخلص منها، تلك الدولة التي كانت تعلم جيدا أن نموها غير شرعي، وغير قانوني، ومع ذلك، تغض الطرف عنها ولا تحرك ساكنا تجاهها، لأنها تورطت فيهم في حقبة خاصة، وظرفية زمنية خاصة، أهمها الانتهاكات الخطيرة والكارثية لحقوق الإنسان، وأصبحوا اعتقادا منها، أنها تساهم في استقرار النظام السياسي وتحريك العجلة الاقتصادية، وهي في ذلك لا تدرك أن "بورجوازية" خاصة من هذا النوع، لا يمكن أن تقوم إلا بدور غير صحي وسلبي في إعاقة التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة والاستقرار السياسي الحقيقي، وهي بذلك تضر بالمجتمع ولا تنفعه.
وخلاصة القول فالبورجوازية العربية لا تعدو إلا أن تكون الظل الهجين للبورجوازية الفرنسية، وجزء مهم منها "طبقة غنية بدوية" كما صنفها بعض الباحثين. ولكن الخبر الذي يجب أن يضاف إلى المبتدأ هو كلمة "متوحشة".
بورجوازية متوحشة نظرا للدور السلبي والكارثي الذي لعبته هذه الطبقة في كل المجالات. فهذه الطبقة الغنية المتوغلة والمتغوّلة، تساند الفساد الإداري لأنها تستفيد من الفساد الإداري كمظهر من مظاهر تطورها وضمان لإستمراريتها في غياب المنافسة الشريفة القائمة على حرية المبادرة والابتكار والذكاء التجاري والاستثماري، فالفساد رهان فاعليتها لأنهم يخافون من الضوء كاللصوص تماما، حيث غياب تكافؤ الفرص وسيادة الشفافية وتطبيق القانون الرادع الذي يضرب بقوة القانون على الأيدي التي تتعامل من تحت الطاولة في غفلة عن سيادته المقدسة، لإحقاق الحق. لذلك فهي تنمّي الفساد وتشجعه وتمارسه لأنه مصدر ثرائها ونفوذها.
إن ثلاثية الاقتصاد والسياسة والثقافة التي لعبت فيها البرجوازية الأوربية الثقل الأهم في إحداثيات التطور التاريخي للمجتمعات الأوروبية الحديثة، نجد أن البرجوازية العربية تلعب في ثلاثية أخرى، وهي الفساد الاقتصادي والتهجين الثقافي، لصالح السلطة السياسية، وتماشيا مع أجندة الأنظمة الرأسمالية التي تنظر إلى دول الجنوب كحقل من الفواكه بنظرة استغلالية واستعمارية أكثر منها نظرة إنسانية في إطار حوار وتنافح الحضارات وتعاون الشعوب لما فيه خير للإنسان والإنسانية.
وفي الختام يمكن أن نجمل دور هذه "البرجوازية' العربية التي تجمع بين السلطة والاقتصاد، على المستويات الفكرية والثقافية : في تهميش وازدراء الثقافة المحلية لصالح ثقافة المستعمر في جانبها الرأسمالي والاستهلاكي دون بعدها الإنساني وهو حجر الزاوية للحضارة الأوربية في جانبها التنويري، والعلمي والتكنولوجي، وفي التأثير والتناقح بين الحضارتين على الضفتين الشمالية والجنوبية. هذا الازدراء يولد شعورا بالدونية لدى الفئات البسيطة من المجتمع أمام طبقة "البرجوازية" العربية من جانب والثقافات الأجنبية من جانب آخر، في غياب بورجوازية وطنية حقيقية تتبنى مشروع النهوض والدفاع عن الثقافة المحلية، كما هو الشأن في النموذج الياباني واستفادته من الحضارة الأوربية مع الحفاظ على شخصية الإنسان الياباني ومكانتها بين شعوب العالم.
والمميز لفئة منها، هو ممارستها للدجل الديني والرهبنة، الذي أثر في النظرة الصحيحة لسمو تعاليم الدين الإسلامي، وكل ذلك لتكريس الاستغلال، واكتساب الشرعية الدينية في صفوف الجمهور المتدين، الذي يعتبر أن ما تقوم به تلك "البورجوازية" من استغلال همجي للسلطة وللكادحين، إنما هو قضاء وقدر، وتسخير من الله حيث جعل البعض سخريا للبعض الآخر(وليس بمعنى تكامل الأدوار لسيرورة المجتمع دون هضم للحقوق أو تفريط في الواجبات) وأن ما تمارسه هذه الطبقة من تسلط وفساد وتكديس للثروات، هو قضاء وقدر وعطاء وابتلاء من عند الله، وبالتالي فإخضاع أموال هذه الطبقة للمراقبة وتقييد نفوذها،إنما يدخل في خانة الحسد على النعم التي منحها الخالق إياها، وهذا عمل مكروه وغير وارد، حيث من الصالح تركها ورزقها كما يحلو لها، والعمل على كسب الرزق دون النظر إليها!
وما ذلك إلا مفعول أفيوني، ودعوة إلى التسليم والقبول في جو احتكاري يعمه الفساد والزبونية والوساطة والتسلط، وبذلك نجد أن هذه البورجوازية الاستغلالية تضفي على نفسها شيئا من القداسة. من خلال الدجل الذي تمارسه، عوض السعي إلى إصلاح بيت القصيد ومكمن النزيف،وبذلك يكون الجري نحو العدالة الاجتماعية التي تضمن تطور المجتمع وتحريك عجلة الاقتصاد تحت ركائز قوية، كمن يسقي رملا في بحر من السراب وهو في انتظار ازهرار بذور لا تزهر ولا تنمو أبدا، إلا في وسط صحي، وتلك أسس التقدم وسننه الحميدة!
"البورجوازية" العربية المتوحشة في انتظار استخراج واستنباط مصطلح دقيق وعلمي على الطبقة الغنية في مجتمعاتنا الراقية والتي تجمع بين النفوذ والمال خارج القانون، لا يمكن أن أشبها إلا بذلك الجرد السمين الذي امتطى ظهر السفينة"الوطن" وشرع في قرض ألواحها الخشبية بجشع وجنون "متوحش" !.
هل تعلمون إلى أين ستؤول إليه الأوضاع ومصير السفينة إذا استمر الجرذ في قرض ألواح السفينة!
هذا ما أوشك العالم العربي أن يصل إليه..
أهو يا ترى الانهيار الأخير والغرق في بحور من التخلف؟
كل ذلك بسبب أنانية متوحشة وجشع لا يطاق، في غياب حب حقيقي للوطن وللأمة وللشعب، الوطن الذي لم يعد منذ زمن بعيد ذلك البيت الدافئ الذي يجمعنا ويحمينا معا، بل أصبح المَهرب نحو بلدان الشمال الباردة والقارسة، منذ أن أصبح بيتنا أوهن من بيت العنكبوت؟
حيث يأكل بعضنا بعضا وهذا ما لا تفعله الذئاب..
وليس الذئب يأكل لحم ذئب*******ويأكل بعضنا بعضا عيانــا
ترى هل يمكن الاستدراك بعد طول انتظار لنلحق قطارا في اليابسة، من الضفة الشمالية من عالمنا الجديد (قريتنا الصغيرة) من زمن العولمة!!؟