الذين يكتبون دفاعا عن الاختيارات السياسية لحزب العدالة والتنمية، وعن حكومة السيد بنكيران، وعن كامل التجربة السياسية التي أنتجها الربيع العربي في المغرب، ينطلقون دائما من فكرة تُعدّ عندهم من المُسَلَّمات التي لا تقبل المراجعة والمناقشةَ، ولا يجوز النظرُ إليها بعين التردد والارتياب، وهذه الفكرة هي أن النظام المخزنيَّ، الذي تشكل الملكيةُ الوراثية التنفيذية نواتَه الصلبة، لا علاقة له بالصراع السياسي القائم بين الأحزاب، سواء بين الأغلبية والمعارضة، أو بين أحزاب اللون الواحد.
معنى هذا، حسب هذه الفكرة/المُسلَّمة، عند أصحابها، أن ما يدور في الساحة السياسية، بين الأحزاب وفي البرلمان والحكومة، لا يدَ فيه، من قريب أو بعيد، للمخزن، وإنما هو شأن حزبيّ سياسيٌّ طبيعي، مثلُه مثلُ ما يجري في سائر الأنظمة الديمقراطية.
وانطلاقا من هذه المُسلَّمة، يذهب المدافعون عن الحكومة وعن التجربة السياسية التي ولدتها، في تحليلاتهم وتعليلاتهم وتخميناتهم وتوقعاتهم، مذهبا سياسيا يظن المطلع عليه أن أصحابه يتكلمون وكأنهم يعيشون في دولة ديمقراطية حقيقية، تتنافس فيها الأحزاب وتتصارع، وفق ما تقتضيه قواعد اللعبة، بما في ذلك الاعتماد على تأويل نصوص الدستور، وإسقاط هذا التأويل على الواقع السياسي، ومحاولة استشراف المستقبل بناء على هذه التأويلات والإسقاطات.
يكتبون ويحللون ويتوقعون ويستشرفون استنادا دائما إلى مسلَّمَتهم، وهي أن المَلِك بعيد عن شأن الأحزاب وصراعاتها، وليس له أيُّ يدٍ من وراء الستار تحرك اللاعبين على الرقعة، وتخطط وتوجه وفق سيناريوهات رسمها المخزن سلفا، فيها الخطة(أ)، والخطة(ب) والخطة(ج)، حسب الأحوال وتقلبها، والظروف وتغيرها، والسياسة ومفاجآتها.
وعندنا هنا احتملان لا ثالث لهما: إما أن هؤلاء المحللين المنظرين مصيبون في مُسلَّمَتهم، وأن المَلِك، بالفعل، لا يتدخل فيما يقع بين الأحزاب، في الحكومة والبرلمان، وغيرهما من ساحات الاصطراع السياسي، ومن ثَمَّ فإن ما نسمعه ونشاهده في الواقع، وما يتسرب من هنا وهناك من أخبار وفضائح وغرائب، ما هو إلا ثمرة طبيعية لتدافع سياسي طبيعي، في إطار تنافس طبيعي بين أحزاب طبيعية.
وإما أن هؤلاء المحللين المنظرين مخطئون في مُسلَّمتهم، وأن يدَ الملك حاضرة بقوة لا تخطئها عين المراقب العادي، بَلْهَ المراقبَ اللبيب المتخصص، وراء كل ما تعتمل به الساحة السياسية، وخاصة في الشأن الحكومي وما يتعلق به من صراعات ظاهرة وخفية.
المنظرون المحللون التابعون لحزب العدالة والتنمية يبنون اجتهادَهم السياسيَّ وما يرتبط به من تصورات وتوقعات على أن الملك أكبرُ من أن يتدخل في النزاعات السياسية بين الأحزاب، فيتحيز لجهة ضد جهة، أو يميل إلى طرف على حساب طرف.
فهل هذه المسلَّمة التي يبني عليها أنصار تجربة العدالة والتنمية من الكتاب والمحللين والمنظرين سليمة وصحيحة؟
هناك العديدُ من الأسباب والمعطيات والأحداث التي تجعل متابعا مثلي يجزم بأن المسلمةَ التي يبني عليها أنصار العدالة والتنمية تنظيراتهم وتحليلاتهم السياسية فاسدة من أساسها، وأن كل ما ينبني عليها من آراء وتوقعات واستشرافات هو فاسد لزوما.
أولا، هناك كل ما يتعلق بالتاريخ والعرف والممارسة الواقعية، الذي يشهد بأن النظام المخزني، وعلى رأسه الملك، كان دائما في قلب التفاعلات السياسية التي تعرفها البلاد، بل يشهد أن المخزن كان دائما هو الفاعل البارز المسيطر في كل تلك التفاعلات.
ثانيا، هناك نصوص الدستور الممنوح، في مختلف طبعاته -وآخرها طبعة فاتح يوليوز2011- التي تشهد بأن الملك في النظام السياسي القائم هو الفاعل الأول بما يملكه من سلطات وصلاحيات، تجعله متحكما في كل ما يروج في الساحة السياسية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ثالثا، هناك التفسيرات الاستبدادية لعبارات وممارسات واصطلاحات ومفاهيم إسلامية تاريخية، كالبيعة والإمامة العظمى وإمارة المؤمنين، التي حوّلَها المخزن ومفسروه الاستبداديون، عبر تاريخ طويل، إلى أداة فعالة بيد الملك، تجعله حاكما فوق المراقبة والمتابعة والمحاسبة، بل تجعله يتحكم حتى في شؤون الناس الدينية، بما هو الوحيد من دون الناس الذي له الحق في الجمع بين الدين والسياسية.
رابعا، هناك التأويلات الاستبدادية لنصوص الدستور الممنوح، التي تجعل الملك دائما صاحبَ الكلمة الفصل فيما يقع في الساحة السياسية. وقد رأينا، في واقع التجربة والممارسة، أن السيد بنكيران، قبل غيره من السياسيين المخزنيين، في مقدمة الذين يذهبون في تأويل كثير من نصوص الدستور تأويلا استبداديا، بل يتعدى هذا ليضفيَ على العرف المخزني غير المكتوب وما يتبعه من عادات وطقوس وبروتوكولات هالةً من الجلالة والقداسة.
خامسا، هناك سوابق سياسية عديدة، في الماضي والحاضر، على أن التوافقات والخصومات والتنسيقات والتحالفات الحزبية، في البرلمان والحكومة وخارجهما، لا تجري إلا بضوء أخضر مباشر من النظام، أو تحت رعايته ومراقبته، عن قرب أو عن بعد، أو بمبادرة منه وتخطيط وتوجيه. وليس عندنا اليوم ما يجعلنا نستبعد أن تتكرَّر مثلُ هذه السوابق تحت لافتات وأسماء مختلفة، لكن بمضامين وأهداف واحدة.
سادسا، هناك الأحزاب السياسية، التي يفوق عددها الثلاثين، والتي تُعدّ الوقودَ الحيويَّ الذي ينشّط واجهة اللعبة الديمقراطية، التي يتحكم النظامُ في كل خيوطها، من الألف إلى الياء. وهذه الأحزاب، بلا استثناء، كانت دائما تأتمر بأمر المخزن، ولا تملك إلى أن تكون طوع إرادته وفي خدمة أهدافه.
سابعا، هناك الموقف المخزني الصارم الصريح من الإسلاميين، الخاضعين المشاركين، أو المعارضين الثوريين، الذي هو في أصله موقف قمعي استئصالي-ليس السياق ههنا مناسبا للتفصيل في الأسباب والملابسات- لكن بعض الظروف والحسابات والضرورات جعلت هذا الموقف يتعرض لبعض التعديلات، التي لا تمس الجوهر، فبات الإسلاميون في السياسة المخزنية، بشيء من التجوز، فئتين: إما موالون خاضعون تابعون، وإما معارضون رافضون مبعدون. ولولا أن حزب العدالة والتنمية، ومن ورائه حركة التوحيد والإصلاح، من الفئة الأولى، لما كان له أن يحظى من المخزن بالمكانة والاهتمام اللذين حظي بهما بعد اندلاع شرارة الربيع العربي في المغرب في 20 فبراير 2011.
ثامنا، هناك المناخ الاجتماعي والثقافي العام، الذي تسعى الدولة المخزنية بكل جهدها لتجعله مناخا يسود في مختلف المرافق والمجالات، ويسير وفق مخطط مرسوم ومدروس بعناية. فمثلا، مهرجان موازين، رغم ما يلاقيه من رفض واعتراض واحتجاج، من مختلف الاتجاهات والحيثيات، فإنه مهرجان مفروض باسم الرعاية الملكية السامية، ولا يملك أحد أن يرد أو يناقش أو يراجع هذه الرعاية. معنى هذا أن يد الملك حاضرةٌ حتى في شؤون الناس الخاصة، التي تمس معتقدهم وسلوكهم وأذواقهم وعواطفهم، فأحرى في الشؤون السياسية العامة.
فبالنظر إلى هذه المعطيات الذي ذكرتها-وهناك أخرى لم أذكرها لأني قدّرت أنها ثانوية بمقارنتها بما ذكرت- تصبح المُسلَّمة التي يبني عليها منظرو حزب العدالة والتنمية ومحللوه رؤاهم واستنتاجاتِهم السياسية بمثابة المقدمة أو الأساس الفاسد، الذي لا يمكن البناء عليه، ومن ثَمَّ، يمكن، في رأيي، وصفُ التحليلات والتوقعات المبنية على هذه المسلمة الفاسدة بأنها إنشاء سياسي مثالي لا يُرجى من ورائه طائل. وإلى جانب هذه المثالية، تصبح مثلُ هذه التحليلات والتوقعات، بقصد أو بغير قصد، خطابا فاتلا في حبل النظام المخزني، مزكيا لخطابه السائد، ومبيِّضا لصفحاته من الشوائب، ومبرِّئا لسلوكاته وسياساته من أي قصد غير بريء.
إن تبرئة المخزن أن يكون له يدٌ فيما يجري في الساحة السياسية اليوم عامة، وداخل الحكومة بخاصة، هو من السذاجة السياسية التي ما بعدها سذاجة، إن لم نقل هو من الخدمات التي تُقدَّم للاستبداد مجانا أو بمقابل.
لقد بدأ ما يسمى بالأزمة داخل الأغلبية الحكومية مباشرة بعد انتخاب حميد شباط على رأس حزب الاستقلال. ولا يهمنا هنا كثيرا الوقوف عند ما قيل عن هذا الانتخاب، الذي ذهب البعض إلى التشكيك في نزاهته، وذهب آخرون إلى اتهام شباط صراحة بالتواطؤ والعمالة للمخزن.
ومن الفصول المثيرة في هذه الأزمة قرارُ الحزب بالانسحاب من الحكومة، والرجوع إلى الملك في إيجاد الحل السياسي المناسب.
وبعد رجوع الملك من غيبته الطويلة، وبعد اجتماعاته-التي لا نعرف عن عمومياتها ولا تفصيلاتها شيئا- بالأطراف المعنية، انتهى الأمر بتقديم خمسة وزراء من حزب الاستقلال استقالاتهم لرئيس الحكومة، التي ما زلنا إلى اليوم لا نعرف على وجه الدقة الطريقَ التي سلكها السيد بنكيرن إزاء هذه الاستقالات، وكأن قدرَ المواطنين، في ظل دولة المخزن، أن تظل أفكارهم ومعلوماتهم خاضعة للإشاعات المغرضة، والتسريبات الغامضة، والأخبار الغريبة، والحقائق المشوهة.
الشاهد من كل هذا أن هذه الأزمة التي افتعلها السيد شباط ما كان لها، في رأيي وتقديري، أن توجد بلا دافع أو حافز من خارج الحزب.
في رأيي، ما كان لشباط-وهو من خدّام المخزن الأوفياء- أن يتسبب في أزمة داخل "حكومة صاحب الجلالة" من غير أن يكون عنده ضوء أخضر من المخزن، الذي له هدفٌ محدد من وراء هذه الأزمة، ستكشفه الأيام القريبة القادمة.
القاعدةُ التي نستفيدها من تاريخنا السياسي الحديث أن حزب الاستقلال برمته، وعلى رأسه أمينه العام، لم يكن، في يوم من الأيام، ليجرؤ على شيء يتعلق بالحكومة من غير وجود أمرٍ صريح أو إشارةِ إجازةٍ أو تلميحٍ بعدم الاعتراض من النظام المخزني الذي يهيمن على مختلف دواليب الدولة. وما الحكومة إلا دولاب من هذه الدواليب.
وانظرْ إلى الأخبار المتداولة اليوم عن استعداد حزب العدالة والتنمية لبدء مشاورات مع الأحزاب من أجل سدّ الفراغ الذي أحدثه انسحاب حزب الاستقلال من الأغلبية. فمن هذه الأخبار أن حزب التجمع الوطني للأحرار، وهو حزبٌ مخزني قحّ، في ميلاده وتطوره وممارسته، يوجد في مقدمة الأحزاب التي يقصدها السيد بنكيران بمشاوراته، ويليه، حسب الأخبار الرائجة، حزب الاتحاد الدستوري، وهو أيضا حزب مخزني بامتياز.
هل هذا جدّ سياسي؟ أم أن اللعبة من أولها إلى آخرها هزل في هزل، وعبث في عبث؟
هل يمكن أن نتصور انضمامَ حزبِ السيد مزوار إلى حكومة السيد بنكيران بلا إجازة من القصر؟
هل يمكن أن يُقنعنا المنظرون والمحللون الموالون للسيد بنكيران-إلا في إطار قصص الهزل والعبث- بأنَّ تكوين الأغلبية الحكومية يمكن أن يتم بعيدا عن عين القصر التي لا تنام عن الشاذة والفاذة؟
هل يمكن أن يقنعونا-إلا أن يكون عابثين- بأن هذه التغيرات السياسية الجارية ليست واقعة وفق سيناريو من وضع المخزن، ولأهداف حددها المخزن، وما الحكومة وما يتعلق بها من أحزاب وبرلمان إلا أدوات للتنفيذ؟
باختصار، إما أن المخزن، بمفهومه الاستبدادي، ما يزال هو المتحكم في كل خيوط اللعبة، وإما أن المخزن أصبح نظاما ديمقراطيا حقيقيا، وأن ما يجري اليوم في الحكومة وبين الأحزاب إنما هو شكل من أشكال التدافع السياسي الديمقراطي الطبيعي.
وفي اعتقادي، لا أرى منظري العبث السياسي، من حزب العدالة والتنمية ومن غيره من الأحزاب المشاركة الموالية، إلا مسلوكين في الذين باتوا يتحدثون إلى المغاربة ويبشرونهم بشيء لا يوجد إلا في أمانيهم وأوهامهم، وهو أن عهد المخزن المستبد قد ولّى إلى غير رجعة، وأن الزمان اليوم زمنُ الديمقراطية والحريات والمؤسسات المسؤولة!!
إذن، سنظل مع هؤلاء الواهمين الحالمين نتحدثُ عن العبث على أنه الجد، ونكتبُ عن جحيم الاستبداد على أنه جنة الديمقراطية، وننظرُ إلى ظلام الجبر والطغيان على أنه أنوار العدل والانعتاق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
معنى هذا، حسب هذه الفكرة/المُسلَّمة، عند أصحابها، أن ما يدور في الساحة السياسية، بين الأحزاب وفي البرلمان والحكومة، لا يدَ فيه، من قريب أو بعيد، للمخزن، وإنما هو شأن حزبيّ سياسيٌّ طبيعي، مثلُه مثلُ ما يجري في سائر الأنظمة الديمقراطية.
وانطلاقا من هذه المُسلَّمة، يذهب المدافعون عن الحكومة وعن التجربة السياسية التي ولدتها، في تحليلاتهم وتعليلاتهم وتخميناتهم وتوقعاتهم، مذهبا سياسيا يظن المطلع عليه أن أصحابه يتكلمون وكأنهم يعيشون في دولة ديمقراطية حقيقية، تتنافس فيها الأحزاب وتتصارع، وفق ما تقتضيه قواعد اللعبة، بما في ذلك الاعتماد على تأويل نصوص الدستور، وإسقاط هذا التأويل على الواقع السياسي، ومحاولة استشراف المستقبل بناء على هذه التأويلات والإسقاطات.
يكتبون ويحللون ويتوقعون ويستشرفون استنادا دائما إلى مسلَّمَتهم، وهي أن المَلِك بعيد عن شأن الأحزاب وصراعاتها، وليس له أيُّ يدٍ من وراء الستار تحرك اللاعبين على الرقعة، وتخطط وتوجه وفق سيناريوهات رسمها المخزن سلفا، فيها الخطة(أ)، والخطة(ب) والخطة(ج)، حسب الأحوال وتقلبها، والظروف وتغيرها، والسياسة ومفاجآتها.
وعندنا هنا احتملان لا ثالث لهما: إما أن هؤلاء المحللين المنظرين مصيبون في مُسلَّمَتهم، وأن المَلِك، بالفعل، لا يتدخل فيما يقع بين الأحزاب، في الحكومة والبرلمان، وغيرهما من ساحات الاصطراع السياسي، ومن ثَمَّ فإن ما نسمعه ونشاهده في الواقع، وما يتسرب من هنا وهناك من أخبار وفضائح وغرائب، ما هو إلا ثمرة طبيعية لتدافع سياسي طبيعي، في إطار تنافس طبيعي بين أحزاب طبيعية.
وإما أن هؤلاء المحللين المنظرين مخطئون في مُسلَّمتهم، وأن يدَ الملك حاضرة بقوة لا تخطئها عين المراقب العادي، بَلْهَ المراقبَ اللبيب المتخصص، وراء كل ما تعتمل به الساحة السياسية، وخاصة في الشأن الحكومي وما يتعلق به من صراعات ظاهرة وخفية.
المنظرون المحللون التابعون لحزب العدالة والتنمية يبنون اجتهادَهم السياسيَّ وما يرتبط به من تصورات وتوقعات على أن الملك أكبرُ من أن يتدخل في النزاعات السياسية بين الأحزاب، فيتحيز لجهة ضد جهة، أو يميل إلى طرف على حساب طرف.
فهل هذه المسلَّمة التي يبني عليها أنصار تجربة العدالة والتنمية من الكتاب والمحللين والمنظرين سليمة وصحيحة؟
هناك العديدُ من الأسباب والمعطيات والأحداث التي تجعل متابعا مثلي يجزم بأن المسلمةَ التي يبني عليها أنصار العدالة والتنمية تنظيراتهم وتحليلاتهم السياسية فاسدة من أساسها، وأن كل ما ينبني عليها من آراء وتوقعات واستشرافات هو فاسد لزوما.
أولا، هناك كل ما يتعلق بالتاريخ والعرف والممارسة الواقعية، الذي يشهد بأن النظام المخزني، وعلى رأسه الملك، كان دائما في قلب التفاعلات السياسية التي تعرفها البلاد، بل يشهد أن المخزن كان دائما هو الفاعل البارز المسيطر في كل تلك التفاعلات.
ثانيا، هناك نصوص الدستور الممنوح، في مختلف طبعاته -وآخرها طبعة فاتح يوليوز2011- التي تشهد بأن الملك في النظام السياسي القائم هو الفاعل الأول بما يملكه من سلطات وصلاحيات، تجعله متحكما في كل ما يروج في الساحة السياسية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ثالثا، هناك التفسيرات الاستبدادية لعبارات وممارسات واصطلاحات ومفاهيم إسلامية تاريخية، كالبيعة والإمامة العظمى وإمارة المؤمنين، التي حوّلَها المخزن ومفسروه الاستبداديون، عبر تاريخ طويل، إلى أداة فعالة بيد الملك، تجعله حاكما فوق المراقبة والمتابعة والمحاسبة، بل تجعله يتحكم حتى في شؤون الناس الدينية، بما هو الوحيد من دون الناس الذي له الحق في الجمع بين الدين والسياسية.
رابعا، هناك التأويلات الاستبدادية لنصوص الدستور الممنوح، التي تجعل الملك دائما صاحبَ الكلمة الفصل فيما يقع في الساحة السياسية. وقد رأينا، في واقع التجربة والممارسة، أن السيد بنكيران، قبل غيره من السياسيين المخزنيين، في مقدمة الذين يذهبون في تأويل كثير من نصوص الدستور تأويلا استبداديا، بل يتعدى هذا ليضفيَ على العرف المخزني غير المكتوب وما يتبعه من عادات وطقوس وبروتوكولات هالةً من الجلالة والقداسة.
خامسا، هناك سوابق سياسية عديدة، في الماضي والحاضر، على أن التوافقات والخصومات والتنسيقات والتحالفات الحزبية، في البرلمان والحكومة وخارجهما، لا تجري إلا بضوء أخضر مباشر من النظام، أو تحت رعايته ومراقبته، عن قرب أو عن بعد، أو بمبادرة منه وتخطيط وتوجيه. وليس عندنا اليوم ما يجعلنا نستبعد أن تتكرَّر مثلُ هذه السوابق تحت لافتات وأسماء مختلفة، لكن بمضامين وأهداف واحدة.
سادسا، هناك الأحزاب السياسية، التي يفوق عددها الثلاثين، والتي تُعدّ الوقودَ الحيويَّ الذي ينشّط واجهة اللعبة الديمقراطية، التي يتحكم النظامُ في كل خيوطها، من الألف إلى الياء. وهذه الأحزاب، بلا استثناء، كانت دائما تأتمر بأمر المخزن، ولا تملك إلى أن تكون طوع إرادته وفي خدمة أهدافه.
سابعا، هناك الموقف المخزني الصارم الصريح من الإسلاميين، الخاضعين المشاركين، أو المعارضين الثوريين، الذي هو في أصله موقف قمعي استئصالي-ليس السياق ههنا مناسبا للتفصيل في الأسباب والملابسات- لكن بعض الظروف والحسابات والضرورات جعلت هذا الموقف يتعرض لبعض التعديلات، التي لا تمس الجوهر، فبات الإسلاميون في السياسة المخزنية، بشيء من التجوز، فئتين: إما موالون خاضعون تابعون، وإما معارضون رافضون مبعدون. ولولا أن حزب العدالة والتنمية، ومن ورائه حركة التوحيد والإصلاح، من الفئة الأولى، لما كان له أن يحظى من المخزن بالمكانة والاهتمام اللذين حظي بهما بعد اندلاع شرارة الربيع العربي في المغرب في 20 فبراير 2011.
ثامنا، هناك المناخ الاجتماعي والثقافي العام، الذي تسعى الدولة المخزنية بكل جهدها لتجعله مناخا يسود في مختلف المرافق والمجالات، ويسير وفق مخطط مرسوم ومدروس بعناية. فمثلا، مهرجان موازين، رغم ما يلاقيه من رفض واعتراض واحتجاج، من مختلف الاتجاهات والحيثيات، فإنه مهرجان مفروض باسم الرعاية الملكية السامية، ولا يملك أحد أن يرد أو يناقش أو يراجع هذه الرعاية. معنى هذا أن يد الملك حاضرةٌ حتى في شؤون الناس الخاصة، التي تمس معتقدهم وسلوكهم وأذواقهم وعواطفهم، فأحرى في الشؤون السياسية العامة.
فبالنظر إلى هذه المعطيات الذي ذكرتها-وهناك أخرى لم أذكرها لأني قدّرت أنها ثانوية بمقارنتها بما ذكرت- تصبح المُسلَّمة التي يبني عليها منظرو حزب العدالة والتنمية ومحللوه رؤاهم واستنتاجاتِهم السياسية بمثابة المقدمة أو الأساس الفاسد، الذي لا يمكن البناء عليه، ومن ثَمَّ، يمكن، في رأيي، وصفُ التحليلات والتوقعات المبنية على هذه المسلمة الفاسدة بأنها إنشاء سياسي مثالي لا يُرجى من ورائه طائل. وإلى جانب هذه المثالية، تصبح مثلُ هذه التحليلات والتوقعات، بقصد أو بغير قصد، خطابا فاتلا في حبل النظام المخزني، مزكيا لخطابه السائد، ومبيِّضا لصفحاته من الشوائب، ومبرِّئا لسلوكاته وسياساته من أي قصد غير بريء.
إن تبرئة المخزن أن يكون له يدٌ فيما يجري في الساحة السياسية اليوم عامة، وداخل الحكومة بخاصة، هو من السذاجة السياسية التي ما بعدها سذاجة، إن لم نقل هو من الخدمات التي تُقدَّم للاستبداد مجانا أو بمقابل.
لقد بدأ ما يسمى بالأزمة داخل الأغلبية الحكومية مباشرة بعد انتخاب حميد شباط على رأس حزب الاستقلال. ولا يهمنا هنا كثيرا الوقوف عند ما قيل عن هذا الانتخاب، الذي ذهب البعض إلى التشكيك في نزاهته، وذهب آخرون إلى اتهام شباط صراحة بالتواطؤ والعمالة للمخزن.
ومن الفصول المثيرة في هذه الأزمة قرارُ الحزب بالانسحاب من الحكومة، والرجوع إلى الملك في إيجاد الحل السياسي المناسب.
وبعد رجوع الملك من غيبته الطويلة، وبعد اجتماعاته-التي لا نعرف عن عمومياتها ولا تفصيلاتها شيئا- بالأطراف المعنية، انتهى الأمر بتقديم خمسة وزراء من حزب الاستقلال استقالاتهم لرئيس الحكومة، التي ما زلنا إلى اليوم لا نعرف على وجه الدقة الطريقَ التي سلكها السيد بنكيرن إزاء هذه الاستقالات، وكأن قدرَ المواطنين، في ظل دولة المخزن، أن تظل أفكارهم ومعلوماتهم خاضعة للإشاعات المغرضة، والتسريبات الغامضة، والأخبار الغريبة، والحقائق المشوهة.
الشاهد من كل هذا أن هذه الأزمة التي افتعلها السيد شباط ما كان لها، في رأيي وتقديري، أن توجد بلا دافع أو حافز من خارج الحزب.
في رأيي، ما كان لشباط-وهو من خدّام المخزن الأوفياء- أن يتسبب في أزمة داخل "حكومة صاحب الجلالة" من غير أن يكون عنده ضوء أخضر من المخزن، الذي له هدفٌ محدد من وراء هذه الأزمة، ستكشفه الأيام القريبة القادمة.
القاعدةُ التي نستفيدها من تاريخنا السياسي الحديث أن حزب الاستقلال برمته، وعلى رأسه أمينه العام، لم يكن، في يوم من الأيام، ليجرؤ على شيء يتعلق بالحكومة من غير وجود أمرٍ صريح أو إشارةِ إجازةٍ أو تلميحٍ بعدم الاعتراض من النظام المخزني الذي يهيمن على مختلف دواليب الدولة. وما الحكومة إلا دولاب من هذه الدواليب.
وانظرْ إلى الأخبار المتداولة اليوم عن استعداد حزب العدالة والتنمية لبدء مشاورات مع الأحزاب من أجل سدّ الفراغ الذي أحدثه انسحاب حزب الاستقلال من الأغلبية. فمن هذه الأخبار أن حزب التجمع الوطني للأحرار، وهو حزبٌ مخزني قحّ، في ميلاده وتطوره وممارسته، يوجد في مقدمة الأحزاب التي يقصدها السيد بنكيران بمشاوراته، ويليه، حسب الأخبار الرائجة، حزب الاتحاد الدستوري، وهو أيضا حزب مخزني بامتياز.
هل هذا جدّ سياسي؟ أم أن اللعبة من أولها إلى آخرها هزل في هزل، وعبث في عبث؟
هل يمكن أن نتصور انضمامَ حزبِ السيد مزوار إلى حكومة السيد بنكيران بلا إجازة من القصر؟
هل يمكن أن يُقنعنا المنظرون والمحللون الموالون للسيد بنكيران-إلا في إطار قصص الهزل والعبث- بأنَّ تكوين الأغلبية الحكومية يمكن أن يتم بعيدا عن عين القصر التي لا تنام عن الشاذة والفاذة؟
هل يمكن أن يقنعونا-إلا أن يكون عابثين- بأن هذه التغيرات السياسية الجارية ليست واقعة وفق سيناريو من وضع المخزن، ولأهداف حددها المخزن، وما الحكومة وما يتعلق بها من أحزاب وبرلمان إلا أدوات للتنفيذ؟
باختصار، إما أن المخزن، بمفهومه الاستبدادي، ما يزال هو المتحكم في كل خيوط اللعبة، وإما أن المخزن أصبح نظاما ديمقراطيا حقيقيا، وأن ما يجري اليوم في الحكومة وبين الأحزاب إنما هو شكل من أشكال التدافع السياسي الديمقراطي الطبيعي.
وفي اعتقادي، لا أرى منظري العبث السياسي، من حزب العدالة والتنمية ومن غيره من الأحزاب المشاركة الموالية، إلا مسلوكين في الذين باتوا يتحدثون إلى المغاربة ويبشرونهم بشيء لا يوجد إلا في أمانيهم وأوهامهم، وهو أن عهد المخزن المستبد قد ولّى إلى غير رجعة، وأن الزمان اليوم زمنُ الديمقراطية والحريات والمؤسسات المسؤولة!!
إذن، سنظل مع هؤلاء الواهمين الحالمين نتحدثُ عن العبث على أنه الجد، ونكتبُ عن جحيم الاستبداد على أنه جنة الديمقراطية، وننظرُ إلى ظلام الجبر والطغيان على أنه أنوار العدل والانعتاق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.