في عدة مناسبات كانت القاعات الواسعة تبدو فارغة ،إلا من بضع أناس لاتجمع بين رغباتهم ومقاصد هم ودوافع حضورهم ،أية علاقة أوصفة،وصار من الطبيعي أن تنظم اللقاءات الفكرية ، ويقطع المشاركون فيها المسافات ،حتى ولو حضرها عدد قليل من المهتمين ،لاقتناع الأطراف المنظمة أن الظاهرة لم تعد مسالة متعالية على الواقع ،بل هي قطعه منه ،وعلامة ساطعة على اختلالات سياق تاريخي وتشوهات نموذج اجتماعي ،وشقاء بنية ثقافية ،وانهزام عقل منتج للأفكار المهيكلة والمؤسسة،وانغلاق نسق سياسي.
الآن ،وبعد الدينامية التي فجرتها حركة 20 فبراير، حدث تحول كبير وجوهري في فهم وسلوك المغاربة ،واستعادت فضاءات النقاش والتناظر حيويتها ،ولم يعد من الأمور المثيرة للغرابة والتساؤل ،أن نجد القاعات ممتلئة عن آخرها ،وأن نلاحظ حرص الجمهور على الإنصات والتتبع إلى آخر وهلة ،لم يعد هناك شعور بعدمية الفعل الثقافي ،الشيء الذي عزز القناعة لدى كثير من الفاعلين ،بكون اللحظات المفصلية في تاريخ الشعوب والأمم تستدعي،نقاشا وتفكيرا عموميين ،وهذا ماحفزعددا لايستهان به من المواطنين يتحملون مسؤوليات كبيرة ،أو يحتلون مواقع متقدمة في المجتمع للانخراط بحماس غير مسبوق في هذه الدينامية.
أتذكر أنه قبل التأسيس الفعلي لحركة 20 فبراير،وتحديدا الجمعة 19 من نفس الشهر نظمت صحيفة أخبار اليوم المغربية ،مائدة مستديرة تحت عنوان "العالم العربي مابعد ثورتي تونس ومصر:هل نحن أمام موجة رابعة من الديمقراطية " ولفت انتباهي الأعداد الغفيرة من كل الفئات العمرية والمستويات الثقافية والانتماءات السياسية والفكرية والاجتماعية ،وقع إشكال كبير في استيعاب كل من جاء لمتابعة أطوار تلك المائدة ،ومع ذلك تحمل الكثير من الناس أعباء الوقوف وحرارة الجو ،ربما لأن المتدخلين في تلك الندوة كانوا يعكسون حالة من التنوع في المشارب الفكرية والمواقف السياسية ،وربما لأن عددا منهم كانت لهم مكانة خاصة في بنية الدولة ،لكن الشيء المؤكد هو أن السياق الذي نظمت فيه تلك المائدة المستديرة ،هو الذي أضفى عليها تلك الجاذبية.كونها تأتي بعد ثورتي تونس ومصر وعشية انطلاق حركة 20فبراير في المغرب ،و من المسلم به ،أن سياقا من هذا الحجم والنوع ،لايمكن إلا أن يكون ضاجا بالأسئلة القلقة التي تهم مجتمعا بأكمله.
شخصيا شاركت في مجموعة من الموائد المستديرة ، في مدن مختلفة ،حول حركة 20 فبراير كأفق للتفكير ،وحول الإصلاحات الدستورية والسياسية المرتقبة ، وحول علاقة الإعلام بالسياسة و حول دور الإعلام وتأثيره في الثورات العربية ،وحول حرية الصحافة والديمقراطية في ظل الحراك الذي تعرفه بلادنا ، وكنت في معظم هذه النقاشات متدخلا ،وفي جزء يسير منها مسيرا للنقاش،وما لاحظته هو رغبة المواطنين في الحديث والتعبير عما يخالجهم بصدق وانفعال وحماس ورزانة وحكمة ،لاتهم الحالة النفسية والذهنية ،الأهم في كل هذا، هو استعادة الثقة في النقاش الفكري والسياسي ،ومراهنة الناس من جديد ، على يقظة والتزام الفاعلين على اختلاف مواقعهم ،للخروج من وضع اللامبالاة ،ولتطليق الممارسات التي أنتجت اليأس والشك والعزوف.
خلال لقاء تواصلي نظمته الكتابة الجهوية –مراكش تانسيفت الحوز في 23إبريل الماضي تحت عنوان "المشهد السياسي بالمغرب وأوراش الإصلاحات الكبرى"وكنت مسيرا لهذا للقاء، شعرت بسعادة قل نظيرها ،وبطمأنينة فكرية وسكينة نفسية ،كانت القاعة رحبة وممتدة ،لكنها كانت ممتلئة عن آخرها بالمآت ،واستمر النقاش ساخنا وحيا ومستفزا بالمعنى الايجابي لأكثر من خمس ساعات ،حرص أغلبية الذين حضروا اللقاء على التعبير عن رأي أو طرح سؤال ،لدرجة وجدت معها صعوبة كبيرة في تلبية كل الرغبات ،وشعرت بكثير من الحرج أيضا ،لأنه كيف يعقل ،أن تقمع جماح مناضل مثل علال الأزهر، وتلجم عنانه، بأن تطلب منه أن لايتجاوز تدخله دقيقتين ؟ كل هذه المؤشرات والتحولات ،تجسد بوضوح إدانة جماعية للعقليات وللسياسيات التي غيبت وأعدمت النقاش والتناظر والحوار في الإعلام العمومي ،أو الرسمي على وجه الدقة.