ما إن كادت تجف دموعنا على الفقد الكبير الذي بكيناه هنا على رحيل الإعلامي الكبير خليل الهاشمي الإدريسي، حتى كنا إزاء جنازة أخرى في المجال الصحافي. جنازة لا علاقة للحق جل وعلا بها، بل هي محاولة تصفية تجربة وليدة للتنظيم الذاتي لمهنة الصحافة، ممثلة في مجلس وطني حيكت حوله كل المناورات والدسائس للسطو عليه حتى أصبح بلا روح، وها نحن نشيّعه إلى مثواه الأخير لأن سلطته المعنوية قد انتهت.
والقصة بسيطة وعميقة كالجرح. فقد توافقنا بعد 20 سنة تقريبا من المحاولات على إخراج مؤسسة وطنية تهتم بشق المسؤولية في العمل الصحافي، بمعنى أن الصحافي هو سلطة مضادة معنوية للسلط الأخرى، وهو يراقب باسم الرأي العام، ولذلك يجب أن يكون محميا بضمانات حرية التعبير. إلا أنه لكي لا يسقط في الشطط، فلابد له من ضوابط وكوابح، ولمّا كانت السلط، وخصوصا التنفيذية، هي محط مساءلة من طرف هذا الإعلام إذا كان مستقلا، فإنها لا يمكن أن ترسم له حدوده الأخلاقية، بل هي يجب أن تنتج قواعد حماية الحق في النقد والتعرية والإخبار عن طرق تدبير الشأن العام خيرها وشرها، وأن يتكلف الصحافيون أنفسهم بالمساهمة في تدبير شق المسؤولية عن طريق التنظيم الذاتي أو ما يسمى بقضاء الزملاء.
اخترنا في المغرب أن يكون هذا التدبير الذاتي لمهنتنا عبارة عن مؤسسة وطنية خرجت بقانون، وأبسط شيء كان يجب أن يتضمنه هذا القانون هو أن يكون الزملاء الذين يشرفون على هذه المهنة النبيلة مختارين ديموقراطيا من طرف الأسرة الإعلامية، وبالفعل جرت انتخابات هذا المجلس المكون من ممثلي الصحافيين وممثلي ناشري الصحف وممثلين عن بعض المؤسسات المفروض أنها تمثل المجتمع الحقوقي سنة 2018، وتنازل الناشرون عن التنافس على رئاسة المجلس بشرط مكتوب وهو ألا تكون المواد التي تنص على انتخاب أعضاء المجلس ولا على التداول محط أي تعديل أو سعي إليه.
لقد تم اتخاذ هذا الاحتياط، على الرغم من أن الدستور واضح، وذلك لأن انتخابات المجلس أصلا، في الشق المتعلق بممثلي الصحافيين، عرفت صخبا كبيرا، ونُظمت الوقفات الاحتجاجية على طريقة تدبيرها واضطر الجميع إلى انتظار 3 أشهر بعد انتخاب الأعضاء لينتخبوا الرئيس.
وسارت الأمور في إطار تجربة التأسيس بما لَها وما عليها، ونحن اليوم مطوقين بواجب التحفظ لسنتين، حسب القانون، لئلا نتحدث عن مداولات المجلس، وسيأتي يوم نتحدث فيه عن أشياء فادحة وفاضحة، ومنها السبب الحقيقي في تأخر صدور النظام الداخلي لهذا المجلس لمدة سنتين!
ومع اقتراب نهاية ولاية المجلس، ونحن نتهيأ لاستحقاقات انتخابية عادية، تم نكث عهد الاتفاق، المكتوب، وبدأت المناورات، وبدأنا نسمع عن مشاكل في الترسانة القانونية، وعن كون مبدأ الانتخابات أصلا هو «مؤامرة إسلامية» لأن الذي فرضها هو وزير إسلامي كان مكلفا بالاتصال!!! وتم استغلال انشقاق وقع في صفوف الناشرين بسبب تداعيات جائحة كورونا لاختلاق متاهات، الهدف الوحيد منها كان في البداية هو التمديد للمجلس حتى تعطى فرصة لإيجاد حل يُعفي الذين خططوا لهذا العجب من الرجوع للصناديق.
وفعلا جاء التمديد غير المفهوم لمدة ستة أشهر، وذلك بمباركة وزير التواصل الذي كان بإمكانه أن يطبق سطرا في المادة 54 من القانون المحدث للمجلس ويستدعي لجنة الإشراف على الانتخابات التي يترأسها قاض وينتهي الموضوع. بل إن المبرر الصادر في الجريدة الرسمية كان هو أن المجلس لم يستطع إجراء انتخاباته مع العلم أنه غير مخول لذلك، وجاء الناطق الرسمي للحكومة ليؤكد أن هذا التمديد استثنائي ولن يتكرر وأنه سيتوج بإجراء انتخابات المجلس. هذا لم يحدث، وخلال هذه المدة، تم التمطيط، لأن البعض كان يريد التأزيم ليضعنا أمام الأمر الواقع، ونظمت أيام دراسية بالبرلمان، وتم إخراج مقترح قانون مفصل على المقاس ينص على التعيين، وتدخلت أياد حكيمة لإسقاطه. وفي المحصّلة، خرجت مرّة أخرى أسطوانة القوانين المعيبة ومدونة الصحافة التي يجب أن تعدّل قبل أي استحقاقات انتخابية دون إعطاء ولو مؤشر واحد على ما هو خطير في هذه المدونة، ولابد أن نغيره حتى نجدد هياكل هذه المؤسسة بشكل ديموقراطي.
وبدل إعمال المادة 54 بشكل منسجم مع القانون المحدث للمجلس، أو المادة 9 التي تنص على أنه في حالة عجز المجلس عن القيام بمهامه تستدعي الإدارة اللجنة المنصوص عليها في المادة 54 والتي يترأسها قاض وهي التي تعين لجنة مؤقتة لتسيير المجلس حتى يتم التهييء للانتخابات في غضون 6 أشهر. بدل كل هذا، قفزت الوزارة الوصية في الهواء، واقترحت سيناريو يدخل في باب الخيال العلمي، وهيأت مشروع قانون في جنح الظلام مع طرف معين ينص على التمديد لجزء من المجلس ليمارس كافة اختصاصات هذا المجلس التي كانت تقوم بها خمس لجان مع إقصاء اللجنتين بالضبط اللتين كانت تترأسهما الفيدرالية المغربية لناشري الصحف!!
وأصبح المجلس، بحكم هذا المشروع الذي صادق عليه المجلس الحكومي الخميس الماضي، يسيره نفس الرئيس مع 3 أعضاء ينتمون بالضبط للطرف الذي كان ضد الانتخابات، وأوكلت لهم، إضافة إلى صلاحيات التأديب والولوج إلى المهنة والتأهيل والتعاون، مهمتان خطيرتان وهما تفصيل قوانين جديدة للصحافة والنشر على المقاس والإشراف على انتخابات سيكونون من ضمن المتنافسين فيها!!
وقد سمي هذا الفيلم بـ«اللجنة المؤقتة لتسيير قطاع الصحافة والنشر»، وهذا المؤقت أعطوه سنتين كاملتين ليقوم بمهمة الإجهاز على المختلفين معهم، بعدما تم بنفس المشروع الإجهاز على الدستور الذي تنص مادته 28 على أن السلطات العمومية تشجع على التنظيم الذاتي بشكل مستقل وعلى أسس ديموقراطية ولا تعين. سنتين للإجهاز على التعددية، ومحاولة فرض الرأي الواحد والصوت الواحد، والتلاعب بالتمثيلية عن طريق الهروب من الانتخابات، واحتقار إرادة أكثر من 3000 من الصحافيات والصحافيين، ودق آخر مسمار في نعش مصداقية هذا التنظيم الذاتي بسبب التواطؤ مع مصالح شخصية وفئوية لا تهمها لا مصلحة المهنة ولا مصلحة البلاد إذا كان الهدف هو السطو على حلم جيل في تنظيف القطاع وتأهيله وجعله مرفوع الرأس بجديته واستقلاليته.
اليوم، الكرة عند البرلمان، وفي انتظار ذلك خرج الطرف الذي يشرف على هذه الجنازة بخطة لإسكات الأصوات المنددة بذبح الديموقراطية، ورجعوا إلى الماضي لاستخراج الأراجيف والاتهامات الباطلة، تارة بالحصول على دعم عمومي للصحافة غير مستحق، وتارة بتقارير للمجلس الأعلى للحسابات، مع أن كل هذا يعتبر جزءا من عملية التصفية المقترفة في حق التنظيم الذاتي: هو نفس الأسلوب ونفس المكر!
إن الكذب هو حيلة الضعفاء، وها قد انكشف كل شيء أمام الرأي العام الذي أصدر حكمه النهائي بأن ما يجري انتهاك صارخ لحرمة صاحبة الجلالة، وغاية المُنى اليوم هو أن تتدخل الإرادات الحكيمة لوقف هذا النزيف، وأن نعود إلى منطق دولة المؤسسات واحترام الدستور، وأن نكبح جماح الأطماع الشخصية التي تسيء للمصلحة العامة، وأن نعيد إلى الصدور الحلم بترميم جسر الثقة المزلزل اليوم بين المجتمع وصحافة هي في مفترق الطرق، والعاقبة للصادقين.
والقصة بسيطة وعميقة كالجرح. فقد توافقنا بعد 20 سنة تقريبا من المحاولات على إخراج مؤسسة وطنية تهتم بشق المسؤولية في العمل الصحافي، بمعنى أن الصحافي هو سلطة مضادة معنوية للسلط الأخرى، وهو يراقب باسم الرأي العام، ولذلك يجب أن يكون محميا بضمانات حرية التعبير. إلا أنه لكي لا يسقط في الشطط، فلابد له من ضوابط وكوابح، ولمّا كانت السلط، وخصوصا التنفيذية، هي محط مساءلة من طرف هذا الإعلام إذا كان مستقلا، فإنها لا يمكن أن ترسم له حدوده الأخلاقية، بل هي يجب أن تنتج قواعد حماية الحق في النقد والتعرية والإخبار عن طرق تدبير الشأن العام خيرها وشرها، وأن يتكلف الصحافيون أنفسهم بالمساهمة في تدبير شق المسؤولية عن طريق التنظيم الذاتي أو ما يسمى بقضاء الزملاء.
اخترنا في المغرب أن يكون هذا التدبير الذاتي لمهنتنا عبارة عن مؤسسة وطنية خرجت بقانون، وأبسط شيء كان يجب أن يتضمنه هذا القانون هو أن يكون الزملاء الذين يشرفون على هذه المهنة النبيلة مختارين ديموقراطيا من طرف الأسرة الإعلامية، وبالفعل جرت انتخابات هذا المجلس المكون من ممثلي الصحافيين وممثلي ناشري الصحف وممثلين عن بعض المؤسسات المفروض أنها تمثل المجتمع الحقوقي سنة 2018، وتنازل الناشرون عن التنافس على رئاسة المجلس بشرط مكتوب وهو ألا تكون المواد التي تنص على انتخاب أعضاء المجلس ولا على التداول محط أي تعديل أو سعي إليه.
لقد تم اتخاذ هذا الاحتياط، على الرغم من أن الدستور واضح، وذلك لأن انتخابات المجلس أصلا، في الشق المتعلق بممثلي الصحافيين، عرفت صخبا كبيرا، ونُظمت الوقفات الاحتجاجية على طريقة تدبيرها واضطر الجميع إلى انتظار 3 أشهر بعد انتخاب الأعضاء لينتخبوا الرئيس.
وسارت الأمور في إطار تجربة التأسيس بما لَها وما عليها، ونحن اليوم مطوقين بواجب التحفظ لسنتين، حسب القانون، لئلا نتحدث عن مداولات المجلس، وسيأتي يوم نتحدث فيه عن أشياء فادحة وفاضحة، ومنها السبب الحقيقي في تأخر صدور النظام الداخلي لهذا المجلس لمدة سنتين!
ومع اقتراب نهاية ولاية المجلس، ونحن نتهيأ لاستحقاقات انتخابية عادية، تم نكث عهد الاتفاق، المكتوب، وبدأت المناورات، وبدأنا نسمع عن مشاكل في الترسانة القانونية، وعن كون مبدأ الانتخابات أصلا هو «مؤامرة إسلامية» لأن الذي فرضها هو وزير إسلامي كان مكلفا بالاتصال!!! وتم استغلال انشقاق وقع في صفوف الناشرين بسبب تداعيات جائحة كورونا لاختلاق متاهات، الهدف الوحيد منها كان في البداية هو التمديد للمجلس حتى تعطى فرصة لإيجاد حل يُعفي الذين خططوا لهذا العجب من الرجوع للصناديق.
وفعلا جاء التمديد غير المفهوم لمدة ستة أشهر، وذلك بمباركة وزير التواصل الذي كان بإمكانه أن يطبق سطرا في المادة 54 من القانون المحدث للمجلس ويستدعي لجنة الإشراف على الانتخابات التي يترأسها قاض وينتهي الموضوع. بل إن المبرر الصادر في الجريدة الرسمية كان هو أن المجلس لم يستطع إجراء انتخاباته مع العلم أنه غير مخول لذلك، وجاء الناطق الرسمي للحكومة ليؤكد أن هذا التمديد استثنائي ولن يتكرر وأنه سيتوج بإجراء انتخابات المجلس. هذا لم يحدث، وخلال هذه المدة، تم التمطيط، لأن البعض كان يريد التأزيم ليضعنا أمام الأمر الواقع، ونظمت أيام دراسية بالبرلمان، وتم إخراج مقترح قانون مفصل على المقاس ينص على التعيين، وتدخلت أياد حكيمة لإسقاطه. وفي المحصّلة، خرجت مرّة أخرى أسطوانة القوانين المعيبة ومدونة الصحافة التي يجب أن تعدّل قبل أي استحقاقات انتخابية دون إعطاء ولو مؤشر واحد على ما هو خطير في هذه المدونة، ولابد أن نغيره حتى نجدد هياكل هذه المؤسسة بشكل ديموقراطي.
وبدل إعمال المادة 54 بشكل منسجم مع القانون المحدث للمجلس، أو المادة 9 التي تنص على أنه في حالة عجز المجلس عن القيام بمهامه تستدعي الإدارة اللجنة المنصوص عليها في المادة 54 والتي يترأسها قاض وهي التي تعين لجنة مؤقتة لتسيير المجلس حتى يتم التهييء للانتخابات في غضون 6 أشهر. بدل كل هذا، قفزت الوزارة الوصية في الهواء، واقترحت سيناريو يدخل في باب الخيال العلمي، وهيأت مشروع قانون في جنح الظلام مع طرف معين ينص على التمديد لجزء من المجلس ليمارس كافة اختصاصات هذا المجلس التي كانت تقوم بها خمس لجان مع إقصاء اللجنتين بالضبط اللتين كانت تترأسهما الفيدرالية المغربية لناشري الصحف!!
وأصبح المجلس، بحكم هذا المشروع الذي صادق عليه المجلس الحكومي الخميس الماضي، يسيره نفس الرئيس مع 3 أعضاء ينتمون بالضبط للطرف الذي كان ضد الانتخابات، وأوكلت لهم، إضافة إلى صلاحيات التأديب والولوج إلى المهنة والتأهيل والتعاون، مهمتان خطيرتان وهما تفصيل قوانين جديدة للصحافة والنشر على المقاس والإشراف على انتخابات سيكونون من ضمن المتنافسين فيها!!
وقد سمي هذا الفيلم بـ«اللجنة المؤقتة لتسيير قطاع الصحافة والنشر»، وهذا المؤقت أعطوه سنتين كاملتين ليقوم بمهمة الإجهاز على المختلفين معهم، بعدما تم بنفس المشروع الإجهاز على الدستور الذي تنص مادته 28 على أن السلطات العمومية تشجع على التنظيم الذاتي بشكل مستقل وعلى أسس ديموقراطية ولا تعين. سنتين للإجهاز على التعددية، ومحاولة فرض الرأي الواحد والصوت الواحد، والتلاعب بالتمثيلية عن طريق الهروب من الانتخابات، واحتقار إرادة أكثر من 3000 من الصحافيات والصحافيين، ودق آخر مسمار في نعش مصداقية هذا التنظيم الذاتي بسبب التواطؤ مع مصالح شخصية وفئوية لا تهمها لا مصلحة المهنة ولا مصلحة البلاد إذا كان الهدف هو السطو على حلم جيل في تنظيف القطاع وتأهيله وجعله مرفوع الرأس بجديته واستقلاليته.
اليوم، الكرة عند البرلمان، وفي انتظار ذلك خرج الطرف الذي يشرف على هذه الجنازة بخطة لإسكات الأصوات المنددة بذبح الديموقراطية، ورجعوا إلى الماضي لاستخراج الأراجيف والاتهامات الباطلة، تارة بالحصول على دعم عمومي للصحافة غير مستحق، وتارة بتقارير للمجلس الأعلى للحسابات، مع أن كل هذا يعتبر جزءا من عملية التصفية المقترفة في حق التنظيم الذاتي: هو نفس الأسلوب ونفس المكر!
إن الكذب هو حيلة الضعفاء، وها قد انكشف كل شيء أمام الرأي العام الذي أصدر حكمه النهائي بأن ما يجري انتهاك صارخ لحرمة صاحبة الجلالة، وغاية المُنى اليوم هو أن تتدخل الإرادات الحكيمة لوقف هذا النزيف، وأن نعود إلى منطق دولة المؤسسات واحترام الدستور، وأن نكبح جماح الأطماع الشخصية التي تسيء للمصلحة العامة، وأن نعيد إلى الصدور الحلم بترميم جسر الثقة المزلزل اليوم بين المجتمع وصحافة هي في مفترق الطرق، والعاقبة للصادقين.