لأول مرة أكتب وأنا لا أضع عنوانا مسبقا لما سأكتب،إلا بعد أن أفرغت بعض ما في رأسي، لما اعتبرته خطوطا رئيسة، تطورت إليها معركة طوفان الأقصى، وما تنبئ به في المستقبل القريب والبعيد. وكلمتي الأولى في هذا الصدد، “تضامنوا مع فلسطين، و لا تيأسوا، النصر قادم ” أقول هذا، وأنا أعرف أن المنعطف الحرج الذي بلغته الصراعات الجارية حمالة أوجه، نصرا أو هزيمة أو تعادلا. ومع ذلك، فإن من يقرأ العناصر الفاعلة في موازين القوى لهذا المنعطف، قد ينتهي معي إلى الخلاصة التالية : في الحروب الوطنية المعاصرة، لم ينتصر يوما العدو المحتل المتفوق عسكريا و في جميع عناصر القوة الأخرى. بل كان ينتهي دائما إلى انغلاق لأفقه الاستراتيجي وإلى الاعتراف بحق الشعب المظلوم. وهذا ما سنراه في التفاصيل القادمة. و هذه الخلاصة التاريخية تحتوي ضمنا على أن من يدركها، يستطيع أن يبصر آفاقها في التفاصيل الصغيرة و الكبيرة. ولهذا لابد أن يكون في المنطلق مؤمنا بحق الشعوب في تقرير مصيرها ، أي أن تكون له قضية يدافع عنها. فليس هناك من حياد مطلق . أو من موضوعية مجردة خالصة، لأن هذا الزعم لا يليق إلا ب “روبو”، ما دام الإنسان ليس إلا تكثيفا أعلى لعلاقاته الاجتماعية في مرحلة من مراحلها. ولهذا، أقول ثانية، حذاري ثم حذاري في زحمة الوقائع المؤلمة أو المبشرة، من كثرة هؤلاء الزاعمين للحياد المطلق في الظاهر، لاسيما و قد أضحى جليا في العقود الأخيرة على الأقل، أن الإعلام بات من أهم جبهات الحرب النفسية .
*****
لنترك هذا الموضوع الكبير عند هذا الحد، لكي ننتقل إلى ما يهمنا أساسا، وفي بدئه، أني اخترت في الأخير العنوان ( ليلة القبض على إسرائيل ). وهو تعبير مجازي، قصدت منه، أن معركة 7 أكتوبر في مجابهتها لحرب الإبادة، و في تعدد فعالية جبهات المساندة، قد وضعت إسرائيل في كماشة لا مخرج لها منها لأزمة انحدار يتفاقم استراتيجيا و وجوديا . هذه هي حال إسرائيل اليوم، بعد أن ورطت نفسها في معركة أكبر منها. لم يسبق لها مثيل في كل المعارك و الحروب السابقة. ولهذا تستحق ليلة 7 أكتوبر أن يطلق عليها مجازيا “ليلة القبض على إسرائيل” والسؤال هنا، هل هي فعلا في هذا المآل المهزوم سلفا؟
لنبدأ بسؤال فرعي تكرر طرحه طيلة هذه المعركة : من يحكم من، هل أمريكا أم إسرائيل ؟ كيفما قلبنا وجوه الترابط بين الولايات المتحدة وإسرائيل، تكون النتيجة لصالح الأقدم و الأكبر والأقوى على كافة الأصعدة، مهما كان دور العوامل الأخرى الثانوية المؤثرة ولكنها متغيرة أيضا،كهيمنة الإيديلوجية الصهيونية على قطاع كبير من النخبة و المجتمع ، و منها الدور الوظيفي المهيكل الذي تقوم به الطائفة المستحدثة المعروفة بالمسيحية الصهيونية، ويقدرها البعض بزهاء أربعين مليونا منتميا، ومنهم قادة ومسؤولونَ كبار، ثم فضلا عن النفود القوي للوبي الصهيوني “إيباك” لقوته المالية و الإعلامية ولانغراسه في كافة مؤسسات الدولة . ويزيدهما سلاسة لا مرئية الترسبات الباقية في اللاوعي الجمعي عن نشأة الدولة الأمريكية على أنقاض شعبها الأصيل، فيما يشبه قيام الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني. لكن لتلك الظواهر الواقعية حدودها النسبية إذا ما دعت المصلحة القومية الأمريكية لخلاف ما، وإذا ما تراجع النفود الأمبريالي الأمريكي عالميا. ولأن هذا النظام العالمي الأمبريالي يشهد في المرحلة الحالية صراعات تصبو إلى تغييره نحو عالم متعدد الأقطاب، يكون مفهوما لماذا يتسابق كل عتاة الأمبريالية لحماية إسرائيل، وفي مقدمتهم أمريكا، كي لا تضعف إسرائيل ويتراجع تفوقها ودورها الوظيفي كقوة ضاربة في المنطقة للنظام العالمي الوحيد القطب.
في هذه الأجواء، ثمة ظاهرة أخرى فرعية من المحبذ الالتفات إليها، وهي سمة ملازمة غالبا لأية دولة كبرى تكون في مرحلة التراجع لفقدان قدراتها الأكبر في الحفاظ على دورها و نفوذها السابقين. إذ في هذه الحالة يستمر بل يتضخم لديها غرور العظمة كرد فعل إنكاري لتراجعها الفعلي، ريثما تستفيق بعد وقت ما، من غيبوبتها و ردود فعلها اللاعقلانية على واقعها الجديد. وبهذا المعنى، تمارس لوقت ما سياسة تنبني فقط على القوة لكنها “قوة مفوتة “لأن عضلاتها تراخت و فقدت قدراتها على ما كانت عليه. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لم تستفق بريطانيا العظمى و (فرنسا) على واقعهما الجديد الذي خلفته موازين القوى للحرب العالمية الثانية، إلا بعد إدعانهما لوقف عدوانهما الثلاثي (مع إسرائيل )على مصر في سنة 1956 بإنذار من الولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفياتي من جهة ثانية وهما القطبان اللذان توليا قيادة العالم في المرحلة التالية.
هذه الملاحظة، كما بينت تبدو لي سارية المفعول على الوضع الحالي للولايات المتحدة ولحلفائها الأمبرياليين ولإسرائيل أيضا، باعتبارها قاعدة ضاربة في النظام العالمي الأمبريالي الوحيد القطب، ينطبق عليها ما ينطبق على مكوناته الأخرى الرئيسة. وباختصار شديد، أي تحليل يغفل عن مفهوم “الأمبريالية “في تحليله للنظام العالمي، وبما هو استخلاص لمنهجية أشمل في التحليل تعطي الأولوية للكشف عن مكامن الاستغلال والاستعباد في كلية البنيات الاجتماعية القائمة وطنيا و عالميا، ويهدف إلى تجاوزها والتحرر منها. أي إغفال من هذا النوع في أية منهجية أخرى، لن يقدم في أفضل الأحوال سوى صورة مسطحة أو فكروية تستلذ ذاتيا بتوالد الأفكار الغارقة في التجريد لكنها لا تحبل بأي مشروع إنساني تعبوي تغييري. ويحضرني هنا مثلا، تصورات نقدية كثيرة سقوفها ليبرالية تُحيل المآسي الإنسانية إلى الحداثة نفسها بدل أن تحيلها إلى معوقات بنى النظام الرأسمالي الذي أخد بعضا منها بالقدر الذي يسمح له بتكريس الاستغلال والاستلاب والاستعمار والهيمنة .
وبالعودة إلى موضوعنا المباشر، يبقى السؤال قائما، لماذا تبدو السياسة الأمريكية في المسالة الفلسطينية تابعة في التفاصيل العملية لما تريده الإدارة الفاشية لإسرائيل. ليس صعبا على أي متابع أن يتبين العنصرين الفاعلين المتناقضين في نفس اللحظة، واللذين يجران الولايات المتحدة إلى مسارها الديبلوماسي المتلعثم و الفاقد القدرة على كبح الفاشية الإسرائيلية. فمن جهة، أمريكا تخوض” حربا عالمية ” غير مباشرة في أوكرانيا مع روسيا الاتحادية و تستعد لها مع الصين، وإن مازالت ساحتها الرئيسة اقتصادية إلى اليوم، وهاجسها الاستراتيجي، العسكري و غيره، في أغلب بقاع العالم (وكما قلت مرارا) الأولوية للحفاظ على مكانتها على عرش النظام الدولي. وفي هذا السياق، لا يمكنها قطعا أن تقبل بأي شكل لهزيمة متوقعة لأداتها الضاربة إسرائيل لما سيتلو ذلك من تغيرات لموازين القوى في المنطقة عامة، ولما سيحدثه بالتالي من تأثير قوي على مجمل الصراعات العالمية أيضا. والثغرة الاستراتيجية المستعصية على الحل لدى أمريكا وحلفائها، أن الأمر لا يتوقف على تحريك ما لديهم من عناصر ” القوة المفوتة” لدعم إسرائيل، وإنما أساسا على صمود الشعب الفلسطيني و مقاومته، وعلى جبهات الإسناد، بل وعلى كل الطاقات التي ما زالت كامنة لدول المنطقة و لشعوبها، إذا ما طالت حرب الإبادة . ومن جهة ثانية، تجد الإدارة الأمريكية القائمة نفسها، وهي تخوض هذه المعركة بجانب إسرائيل في ظرفية انتخابية رئاسية غير ملائمة و ضاغطة عليها . فإذا كان الوضع الانتخابي يكاد يكون متعادلا في تارجحاته الممكنة كما تظهر ذلك استطلاعات الرأي بين المرشحين ” الديمقراطي و الجمهوري”، فإن الحزب الجمهوري أكثر اطمئنانا على كتلته الانتخابية الصلبة في نسبة كبيرة منها، بينما على الحزب الديمقراطي أن يحسب ألف حساب بين الوزن الانتخابي الكبير للنفوذ و الهيمنة الأيديلوجية الصهيونية، على النخب و قطاعات واسعة في المجتمع، وبين المعارضة النامية لصالح فلسطين داخله و خارجه من جماهيره الناخبة وفي طليعتهم الشبيبة الطلابية الجامعية . و يظهر أن الإدارة الأمريكية قد غلبت في تقديراتها الانتخابية (مع ترشيح كمالا هاريس) مصلحتها العالمية في دعم إسرائيل ، و رجحت في حساباتها الوزن الثقيل للصهيونية على الحياة السياسية العامة، تاركة دور المعارضة الداخلية لاحتواء تبعاتها للتعاملات الظرفية . ولهذا جميع العمليات الإجرامية المنفلتة التي قامت بها إسرائيل، بعد خطاب “نتنياهو” أمام مهرجان الكونغريس التكريمي لفاشيته، كانت بمباركة أمريكية لها، بعد أن تنصلت الإدارة الأمريكية من خطوتها الفريدة المتوازنة فيما عرف بمشروع بايدن للسلام في غزة، والذي تبني أسسه قرار مجلس الأمن، واستندت حماس والمقاومة عليهما في موقفها الإيجابي منهما معا.
قد لا تكون هناك فائدة كبرى في تفكيك اللغة الديبلوماسية الإنشائية المنمقة لأمريكا ولحلفائها. فمن الواضح لدينا أن، بعد اندفاعهم الجماعي الأعمى بجانب السردية الصهيونية بالكامل طيلة الأشهر الأولى من الحرب على غزة، بدأ لحنهم يتغير قليلا تجاه الهمجية الإبادية الإسرائيلية،لاحتواء التحركات الشعبية الضخمة المناصرة لفلسطين في بلدانهم ، و لفشل العدوان الإسرائيلي في تحقيق أهدافه حتى النصر الكامل. صلب هذه الديبلوماسية المبنية على مصلحة رجعية عالمية عارية، لا أخلاق و لا قوانين دولية، تضبطها و تلزمها، أن الزمن لديها مطاط لا قيمة إنسانية له، مهما كانت التضحيات الفلسطينية غالية ودامية. ما دام البحث جاريا على صورة ما لنصر سياسي إسرائيلي مزعوم .
ولعل ما يثير الفضول أكثر في السياسات الدولية الغربية عامة، ليس ما يتداول عنها من “ازدواجية المعايير” في كافة القضايا الكبرى الراهنة، فهذه واضحة وضوح الشمس. اما ما ينبغي أن يثير حقا، انكشاف أزمة الديمقراطية ومؤسساتها الليبرالية في الغرب الأمبريالي عامة. ثمة مقولة قديمة نسبيا، واكبت عصرنا الحديث تحديدا مفادها ، ليس شعبا حرا من يحتل شعبا آخر . لأن الحرية و الديمقراطية إذا ما فقدا أو انفصلا عن جذرهما الاجتماعي الإنساني المساواتي والعادل، يتحولا إلى مجرد آلية تقنية لصالح أقلية حاكمة ما. ورغم كل المزايا النسبية المعروفة للديمقراطية الليبرالية و لحرياتها. فإذا ما توقف الجذر الاجتماعي الإنساني بذاك المعنى، توقف دينامو التقدم و التطور التاريخيين. فلا الحرية ولا الديمقراطية كعكة تؤكل في لقمة واحدة.
وليس مبالغة مفرطة مني، أن التناقضات الجارية في المجتمعات الغربية اليوم، تومئ بأن مؤسساتها الليبرالية قد استنفذت كل ما كان في مقدورها أن تعطيه لأهلها، إن نحن غضضنا النظر عن مجراها التاريخي الاستعماري. ولأن الموضوع وسيع للغاية، ويفيض عن حاجتنا الملحة، وريثما أتناوله في حلقة خاصة، أقف عند ملاحظات سريعة.
•بات على المكشوف تدخل السلطات في قمع كل أشكال حرية التعبير و الاحتجاج في البلدان الغربية الرئيسة، وهي الأساس الأولي للديمقراطية الليبرالية .
•ليس صدفة أن النظام الليبرالي الرأسمالي في جميع أزماته الكبرى يستولد دائما بديلا ارتداديا متطرفا لتكريس أيديولجية الاستلاب الدفينة و المتبقية في اللاوعي الجمعي كآلية مستقطبة و انقادية للنظام الرأسمالي. وهذا ما بينته ميولات انتخابات برلمان الاتحاد الأوروبي الأخيرة. وليس بعيدا عنها الوضعية الانتخابية الجارية في الولايات المتحدة، ولا أقل منها فوز حزب العمال البريطاني الذي تصهينت قياداته وزادت تبعية استعمارية وراء أمريكا. وأهم ما في هذه الظاهرة الجماعية ترهل النخب الحاكمة وانفصالها عن تطلعات ومشاعر شعوبها حتى و هي منتخبة.
•الانتخابات ومؤسساتها وقوانينها وصنمية الثقافة السياسية المستلبة الحاضنة لها ما عادت تنجب دينامكية اجتماعية ذات أبعاد تقدمية تاريخية سوى اللعب على بعض الفروقات الفئوية المصلحية الآنية التي تفرزها التناقضات الثانوية للنظام نفسه، وبما يبقي على السيطرة الكاملة لذوي النفود المالي وما يسمى تلفيقا بالدولة العميقة غير المنتخبة. ولهذا تظل التطلعات الشعبية المعارضة محجوزة النمو والسيادة، ما لم ترتق إلى امتلاك رؤية نقدية لكلية النظام الرأسمالي وطنيا وأمميا ودوليا.
في ضوء تلك الملاحظات السريعة، أرى ان النقاشات الجارية حول، إلى أي مدى ستؤثر حركات الاحتجاج والاعتراض المتعاطفة مع الحق الفلسطيني في أمريكا وأوروبا، أقول:لا شك لدي في انها ظاهرة تعكس الجدلية الموضوعية في الانفلات من معيقات الاستلاب، والذي مهما ساد وطال لا يمكنه ان يسد عليها ويقتلع جدليتها. ويمكن لهذه الحركة الاعتراضية حتى لو اقتصرت على الشأن الفلسطيني فقط أن تستمر وتنمو وتحقق النصر، كما حققته في أزمة الفيتنام. لكن سيظل الرهان قائما على مدى تغييرها للوعي الاجتماعي العام في بلدها نحو التحرر من كافة أشكال الاستلاب الأخرى. وعلى مدى تظافرها مع قوى التحرر في العالم.
****
ربما أطلت قليلا في التعريف بالإطار الفكري السياسي العام لما له من صلات قوية مع تطورات الصراع في فلسطين وعموم المنطقة. وها نحن أمام السؤال السابق: هل تعاني إسرائيل حقا من أزمة انحدار وتراجع؟
من الصعب في الحيز المتاح الممكن، أن أقدم تحليلا وافيا لجميع جبهات المعارك الميدانية والدبلوماسية وخصوصيات كل من مكوناتها وأطرافها. ولذلك سأكتفي ببعض العقد الرئيسة التي تبين الاتجاه العام لموازين القوى الشمولي. وهنا لا يساورني شك، لما تنطق به الوقائع العينية، أن إسرائيل تورطت في مخالفة لعقيدتها العسكرية الأصلية، في أطول حرب تخوضها ولا تستطيع أن تنجز أهدافها الاستراتيجية. وفي موازاة انغلاق أفقها الاستراتيجي، وبفعل تخبطاتها القاصرة، تتنامى في المجتمع شروخات تنم عن أزمة وجودية.
ويمكن لنا أن نختزل هذه الصورة المركبة بالإحالة إلى ما قالته وسربته قيادات الجيش والأمن الاستخباري في خلافاتهم مع قيادتهم التي تحتكر القرار السياسي في الحكومة. وعلى رأسهم نتانياهو. لأنها أصلب شهادة من أهلها وعلى أهلها. وجوهرها، أن الجيش منهك وغير قادر على استمرار الحرب في كل الجبهات. وأن استمرارها يهدد كيان الدولة والأمن المجتمعي. تلك التصريحات والتسريبات الصادرة عن قادة عسكريين وأمنيين سابقين وحاليين، ومن قادة المعارضة السياسية، كافية لوحدها أن تغنينا عن أي تحليل إضافي. حتى وهم يجمعون على عدائهم المطلق لحق الشعب الفلسطيني ولمقاومته، ولا يرغبون في أكثر من تسوية سلمية، ولو كانت مكلفة، توقف الحرب لزمن ما وبما يسمح بلئم الجروح النرجسية العميقة والاختلالات الكبرى التي أصابت الدولة والمجتمع.
هذا جانب وحسب من الصورة العامة لإسرائيل ، وثمة جانب مباشر آخر لا يقل أهمية في تشخيص الأزمة واستشفاف مآلها وتأثيراتها على الحرب النفسية كواجهة رئيسة من واجهات الحرب المادية. وهكذا، لو تمعنا جيدا في الخطاب السياسي والإعلامي الموظف لخدمة أهداف الحرب، لوجدنا أنه اعتمد ولا يزال على المبالغة القصوى في تحديد الأهداف والتعبير عن المنجزات والقدرات، والغاية، أن تظهر إسرائيل نفسها بأنها ما زالت قوة عظمى لجيش لا يقهر، بينما هي قوة مفوتة، كما أسلفت، فإذا ما استثنينا ما قامت به من قتل همجي وتدمير لمعظم بنى الحياة المجتمعية في غزة، واستنساخ ما يماثلها في الضفة أيضا، وما قامت به من اغتيالات لأطر وقيادات كبيرة، وهما هدفان لم يغيرا نوعيا في الميدان العسكري، فإن كل الباقي من أهداف وسرديات الخطاب ناظمه الوحيد المبالغة القصوى في رسم أهداف واهمة، وحمولته السردية الكذب المستمر الذي لا حدود لفضاضته في جل الوقائع والسرديات، وفي جميع الحالات، إذا كانت الحرب خدعة، كما يقال، فالحرب ليست كلها كذب، لأن حبله في ميزان القوى المادي قصير، وسرعان ما تتكشف حقائقه المادية المستورة.
وعلى النقيض من هذه الصورة الإسرائيلية المسخة، تعلو صورة المقاومة في جميع جبهاتها والقائمة على الصدق في القول والعمل. لا تدعي ما لا تقدر عليه ولا تبالغ فيما تنجزه، ولهذا نجحت في حربها النفسية المضادة، على الرغم من قلة إمكاناتها الإعلامية مقارنة بما لإسرائيل من موارد ووسائط دولية ضخمة في هذا المجال . ولا أدل على ذك من أن الرأي العام الإسرائيلي على عداوته الشديدة للمقاومة، يأخذ بجدية أكبر ما تقول به على ما تزغمه القيادة الإسرائيلية من منجزات ووعود. ومن السرديات الكاذبة الكبرى لإيجاد تبرير شرعي مّا لأحقيتها في الدفاع عن النفس، اتهام المقاومة في عملية طوفان الأقصى بالقتل الوحشي للمدنيين وبالاغتصاب وقطع رؤوس الأطفال، ثم الهجوم العسكري الوحشي على المرضى في مجمع الشفاء لاعتباره يخفي بين جنباته مقاتلين وتحته أنفاق للقيادة العليا في المقاومة، واتهام المقاومة اللبنانية بحادثة مجدل الشمس لإشعال فتنة طائفية والتمهيد لاغتيال القائد فؤاد شكر والقائد إسماعيل هنية وأخيرا وليس آخرا، المغالاة المفضوحة في ما اعتبرته عملية استباقية (كما في كل العمليات) أسقطت خلالها 6000 صاروخ موجه من المقاومة لتل أبيب، مع إنكارها التام لما وقع لقاعدتها الاستخبارية الأكبر و الأهم 8200.
لنأخذ الآن الوجه الرئيسي لأزمة إسرائيل المتمثل في انغلاق الأفق الاستراتيجي لحربها العدوانية، وهي تدور على محورين: من جهة، حصيلة الميدان العسكري. ومن جهة ثانية، الخلافات الأساسية الجارية في المفاوضات مع الوسطاء للوصول إلى تسوية ما قابلة للتنفيذ وقد ترضي الطرفين المتحاربين
وعلى هذا المستوى، يمكننا أن نستخلص بقدر كبير من الثقة، ما يلي :
أولا : بفعل الصدمة القوية التي أصابت الكيان الإسرائيلي صبيحة 7 أكتوبر، والتي أطاحت في ضربة واحدة بهيبته الردعية العسكرية والاستخباراتية، تعجلت القيادة الإسرائيلية، بدافع النرجسية العنصرية ردة فعلها لتستعيد هيبتها في حرب قد لا تدوم في تقديرها المستخف أكثر من خمسين يوما. لكنها فوجئت بما لم يكن في حسبانها من حيث أن المقاومة أعدت نفسها لحرب أطول غير متوقعة. وزادها قوة ومناعة انخراط جبهات الإسناد معها. ومن تم فقدت القيادة الإسرائيلية تماسكها الإستراتيجي الصلب، وصارت الحرب متقلبة الأهداف و الجبهات الآنية، تبحث في خلفياتها الفعلية، وبما لا يصرح به، عن مكسب سياسي ما ينقد ماء الوجه و يخفي ضعفها و خساراتها في الميدان .
وكما تآكلت في الميدان أهداف الحرب المعلنة، تآكلت معها سردياتها الكاذبة على المستوى الدولي. ومن بين ذلك ما وقع من تطورات غير مسبوقة الزخم لدى الرأي العام العالمي، بما فيه الأحكام المنتظرة لمحكمتي العدل والجنايات حتى و إن كانت ذات قوة قانونية و معنوية لا أكثر، وبما فيه خصوصا أن القضية الفلسطينية استعادت شرعيتها و مركزيتها في العالم .
ثانيا : إذا ما أخذنا التخبط السياسي والميداني، سواء في ما وضعته و أعلنته القيادة الإسرائيلية كمراحل في حربها على غزة، و أهمها البدء ولشهور بالتركيز على شمال غزة بهدف تصفية الوجود المقاوم كلية، أو بعدها في الانتقال إلى مرحلة ثانية ثم الى المرحلة الأخيرة بتركيز الهجوم الكاسح على رفح، ولنفس الهدف، وفي أجواء ضجيج أمريكي وغربي تحذيري لإسرائيل.
من العواقب اللاإنسانية لهذه العملية، ثم تبخر الضجيج، وابتلعت الألسن المحذرة، إلا من همسات تتواطأ مع قبولها بالأمر الواقع. وبعد حين، انضافت الى حرب غزة، شمالا ووسطا وجنوبا، تكثيف العمل العسكري الهمجي لاقتلاعوجود المقاومة، وتكاثر تنظيماتها في الضفة الغربية . وبموازاة هذا العمل العسكري الميداني، وضعت القيادة الإسرائيلية شروطا إدعانية شاملة لكل القضايا الكبرى في المفاوضات الجارية مع الوسطاء، وعن قصد جرى تضخيم إعلامي لما اعتبره نتنياهو مسألة حياة أو موت لإسرائيل، اذا ما انسحب الجيش من احتلاله لشريط فيلاديلفيا ومعبر رفح. بينما كان الخلاف مع المقاومة في كل القضايا المبدئية الأخرى ومنها الانسحاب الكلي من غزة.
لكن هذه النرجسية الفاشية الفائقة الحد، زجرتها الوقائع على الأرض. فلا المراحل التي لمحنا اليها أنجزت أهدافها في تقويض القوة القتالية للمقاومة، ولأنفاقها وكمائنها وقتالها من مسافة الصفر، ولا تمكنت من تحرير الأسرى بالقوة (عدا خمسة أحياء والباقي جثتا) ، وكان هذا هدفا تاليا يلي و يتحقق عبر انجاز النصر الكامل ( الذي لا يرضى عنه نتنياهو بديلا) بالقضاء المبرم على المقاومة ، كما إدعت وأصرت القيادة الاسرائيلية مرارا. وبينما كان الجيش الاسرائيلي يعود في كل مرة الى نفس المواقع التي زعم انه أنهاها. وهذا دليل على أن حركية المعاودة الدائرية لانتشاره لا تفيد قطعا أنه تحكم في السيطرة على الأرض، بل هو خاضع بالأحرى لحرب استنزاف متنقلة، المبادرة فيها للمقاومة ، وليس العكس. وهي تُنهك جيشه وتُفجر المئات من آلياته وتُحيد قتلاه ومعطوبيه بالألاف .
•ولم تكن الصورة العامة في الضفة أقل مما هي في غزة، الا من حيث تفاوت الامكانيات التسليحية للمقاومة هنا وهناك، ومن حيث اختلاف البنية السكانية لوجود تجمعات المستوطنين بها (حوالي 700. 000 ) وجلهم مسلح، ناهيك عن الحواجز العسكرية بالمآت، ومع ذلك فإن تكثيف الهجمة العسكرية على الضفة، وإدخالها كهدف عاجل لحرب الإبادة، ومن تم تخصيص فرقتين عسكريتين مدججة بكل أنواع الأسلحة الثقيلة وبتعاونها مع كافة الاجهزة المسلحة الأخرى من أجل اقتلاع بؤر المقاومة بهجمات متصلة لأيام على كل منها وعلى البيئات الحاضنة لها، ولا سيما بتجريف وتدمير جل مقومات استمرار بقاء الحياة الاجتماعية الأدنى في بقاعها . ومع شن حملات اعتقال عشوائية كبرى أزيد من 10,000 معتقل تعرضوا لأشد أنواع التعذيب الجسدي والتدمير النفسي. إلا ان الخط البياني لفعل المقاومة ما زاد إلا تصاعدا وفعالية واحتضانا من قبل جماهير الضفة من اقصاها الى أقصاها. وبدلا من أن تؤدي هذه الهجمة المسعورة الى انهاء المقاومة المسلحة ، والى إخماد أي إمكانية لانتفاضة شعبية أخرى كسابقتيها (وهي أكثر تسليحا في هذه المرة) صارت احتمالاتها أقرب وأقوى. كما ارتفع هول هاجس الأمن لدى المستوطنين، عندما حدثت ثلاث عمليات فرديه استشهادية واحدة منها في تل ابيب، واخرى من مناضل غيورأردني ، كان يعبر الي اسرائيل بحكم مهنته… وأعلنت فرق المقاومة انها ستلجأ الى هذا النوع من العمليات الاستشهادية مستقبلا ، فأضحى القلق الأمني الشديد في اسرائيل مطروحا من الجانب الاردني الذي يشهد غليانا شعبيا تضامنيا لا يمكن التنبؤ بمخاطره، و هو على أطول حدود تماس مع الكيان الاسرائيليالعاجز على تأمينها بالكامل.
لقد كان الهدف الأدنى من الحملة الإسرائيلية الهجومية العاجلة على الضفة استباقيا وقائيا، يسعى الى ضمان شروط احتلال استيطاني هادئ لا تنغص وجوده مقاومة أو انتفاضة، اذا ما توقفت الحرب على غزة. أما الهدف الأعلى في غزة والضفة معا، احتلال فلسطين التاريخية كاملة والسعي بكل الوسائل القسرية لتهجير سكانها أو التقليل الأقصى من أعدادهم الى الحد الذي يغير من نسبة نموهم الديموغرافي على المدى الطويل .
•ويظل السؤال هو نفسه : هل تستطيع اسرائيل الخروج من مأزقها الاستراتيجي؟ لعله أفضل تعبير موجز قرأته في توصيف هذا المأزق المسدود الافاق، أن »اسرائيل غير قادرة على تحقيق النصر، وغير قادرة على تحمل هزيمة ! « وبين هذين الحدين المتناقضين تحرك اسرائيل قوتها المفوتة في جملة من التكتيكات الآنية، هي أقرب الى ردود الفعل الإنكارية منها الى استراتيجية متماسكة الاهداف الممكنة واقعيا .
وبلا ضرورة لتحليل شروطها الادعانية، الرافضة لكل المبادئ التي تصر عليها المقاومة في المفاوضات مع الدول الثلاث الوسيطة، ومن أهمها، وقف الحرب والانسحاب الكامل من غزة وعودة النازحين الى أماكن اقامتهم الأصلية بلا قيود، وتبادل للأسرى مرضٍ وبلا شروط، وتوفير كل المواد الغذائية والدوائية والطاقية وغيرها من ما تحتاجه الوضعية اللاإنسانية الكارثية في غزة . واعتبار ما يسمى “باليوم التالي” قضية فلسطينية بحثة لا دخل لأي قوة خارجية فيها. وفي هذه القضية الأخيرة، جدير بالتذكير قولة نتنياهو، أنه لا يريد في غزة مستقبلا “لا فتحستان ولا حمستان” ولهذه الغاية عين حاكما عسكريا يتولى ادارة الشؤون المدنية في غزة ضمن رؤيته لاحتلال استيطاني كامل لغزة، وقبلها صوت البرلمان » كنيست « بشبه اجماع رافضا لأي دولة فلسطينية واردة في حل الدولتين، وبعد أن أقر في السابق قانونا يُرسم هوية الدولة اليهودية.
الورقة القوية التي تراهن عليها اسرائيل لفرض شروطها الإدعانية أمام عجزها الميداني في القضاء على المقاومة وتحرير أسراها، واستكمال مشروعها الاحتلالي الاستيطاني لفلسطين التاريخية، ليس الا ورقتها الدامية الفاشية في التدمير الهمجي الاقصى للبنى السكنية والبشرية والاجتماعية لغزة، ولا يقل عنهما يجري في الضفة الغربية المختلطة سكانيا . ولأن الكيان يستشعر أنها حرب لها ابعاد وجودية، ينبغي لها إذن أن تستمر مفتوحة بلا سقوف أخلاقية أو قانونية أو دولية، ولو أدت الى حرب إقليمية شاملة. والتعويل هنا على الدعم المتواصل والسخي من حاضنته الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين ، عسكريا و استخباريا وماليا ودبلوماسيا الى أن يتحقق لإسرائيل مخرج يمكن أن تُسوقه نصرا لها.
•ولأنها (إسرائيل) فشلت في انجاز أهم هدف عاجل لما توخته من هجماتها الدامية الهمجية في ان تحدث شروخا استسلامية تُفتت صمود الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، وتخلخل استمرار احتضانه والتفافه حول المقاومة، ولأن جبهتها الداخلية كانت في المقابل تزداد تفككا وصورتها الخارجية العالمية تزداد انحطاطا. ولأن استراتيجيتها مبنية على قفزات هروبية آنية، التفتت فجأة الى خساراتها المتراكمة في الجبهة الشمالية مع المقاومة اللبنانية. وهكذا، بعد تهديدات مزمجرة لم تتوقف طيلة الأشهر السابقة، أُعلن رسميا عن خطة حرب هجومية جديدة تجاه المقاومة اللبنانية، تستهدف إرجاع النازحين (ازيد من 100 ألف مستوطن) الى مستوطناتهم التي أفرغوها هربا من المعارك التي تخوضها المقاومة اللبنانية سندا للشعب الفلسطيني ولغزة. وللعجب لم تضع الخطة من أهدافها الصريحة، كما هو غرور العظمة المعتاد، إجبار المقاومة بالقوة على الانسحاب إلى ما وراء الليطاني، ولكنها تركته هدفا لمناورات خطابها السياسي ولضغوط الدبلوماسية الأمريكية وحلفائها، تحسبا منها، أن طرح هذا الهدف صراحة في الخطة العسكرية، يُلزم الجيش الاسرائيلي بخوض حرب برية على ارض لبنان يخشى تكاليفها الباهظة عليه.
وكما هو معلوم دشنت اسرائيل حربها المتجددة على لبنان ، بعملية اجرامية كبرى لم يسبق لها مثيل في الحروب المعاصرة، ويعتبرها جميع العارفين الصادقين انها ترقى الى جرائم حرب ضد الإنسانية من الدرجة الاولى، وانها اذا ما تم التساهل مع مرتكبيها، وعُممت، ستؤدي الى فوضى حروب همجيه لا يؤتمن فيها أحد على ما يستورده . وفي ضربتين متتاليتين ودقائق معدودة ، جرى تفجير إلكتروني لأكثر من 5000 أجهزة اتصال شخصية من نوع بيجر وأخرى لا سلكيه . استهدفت خصوصا البيئة الاجتماعية المدنية للمقاومة، ولبعض أطرها من المقاتلين ومعاونيها في مختلف القطاعات الخدماتية. وفي اليوم الثالث قامت اسرائيل بعملية اخرى صاروخية جوية على ما اعتبرته اجتماعا “لقيادة الرضوان” ذهب ضحيتها قياديان وبعض المقاتلين من المقاومة وعشرات الأسر من القاطنين في المبنيين المهدمين من جراء قصفهما الجوي. كان هذا الاستهلال الحربي المتوالي موجعا ومرعبا، وربما كان في التخطيط العدواني أن يكون ضربة قاسمة تصيب المقاومة وقياداتها بالشلل التام . هكذا قدمها الخطاب الاسرائيلي العسكري والمدني بزهو وانتشاء عم الكيان بجميع مكوناته واختلافاته. لكن الحقيقة الاكثر تواضعا سرعان ما انكشفت على غير مساحيق غرور العظمة. وما دام الشيء بالشيء يذكر، جدير بنا أن نستحضر العملية الأسبق والتي قامت بها المقاومة اللبنانية في ردها على اغتيال أحد قادتها الكبار “فؤاد شكر”، والتي استهدفت خصوصا أهم وأكبر قاعدة مركزية استخبارية في اسرائيل والمعروفة برقم 8200 وقد تأكد فيما بعد أنها أردت 24 ضابطا قتيلا ولربما كان منهم قائد القاعدة الذي قيل عنه مؤخرا أنه استقال من منصبه وأصابت 72 جنديا جريحا بدرجات متفاوتة الخطورة . ولأن الرقابة العسكرية الإسرائيلية صارمة في كل ما يتعلق بالمقاومة اللبنانية، لم يكن لعمليتها تلك نفس الصدى الاعلامي دوليا ، كالذي تجده العمليات الإسرائيلية، مع انها كانت ضربة قوية مضادة لا تقل وزرا وإتقانا في الحرب العسكرية والاستخباراتية والتقنية.
•ما يهمنا في هذه العجالة، ليس تفاصيل المعارك التي خاضتها المقاومة اللبنانية في مرافقتها من اليوم الثاني لانطلاق معركة طوفان الاقصى دعما لها ولمقاومتها . ما يهمنا الوصول اليه، المشهد العام للصراع في المنطقة ولاتجاهاته المحتملة. وسؤالي يظل هو نفسه هل اسرائيل قادرة على المضي في حرب لا هوادة فيها، والى أن تحقق جميع أهدافها حتى ولو جرها الى حرب إقليمية؟ الجلي في المشهد العام يقول :
أولا : نقلت اسرائيل مركز الثقل في حربها العدوانية، ولفترة ما، الى الجبهة اللبنانية ظنا منها، أنها قادرة على ارغام المقاومة اللبنانية على عودة النازحين الاسرائيليين الى مستوطناتهم في أيام قليلة، بعد الذي أصاب المقاومة من تلك العمليات الهجومية الكبرى. وفي هذا الصدد ، استدعى الجيش الاسرائيلي لواءين من الاحتياط أضافه لخمس فرق سابقة. وباشر في تنفيذ خطة حربية تقوم أساسا على استثمار التفوق الجوي الى مداه الأقصى في ضرب البيئة السكانية الحاضنة أو المساندة للمقاومة وعلى اوسع نطاق .
ثانيا : في جو محموم من العنترة والانتشاء والعدوانية المطلقة، والذي عم الكيان في مجمله ، بعد عملياته الهوليودية السابقة ، ما زال قاداته يتحسسون قدرات جيشهم على خوض حرب بريه على الأرض، وهم يختلفون بالرغم من ثرثرة المزايدات بينهم على احتمالات نجاحها، وذكريات الفشل في حرب 2006 ما زالت حاضرة في الأذهان .
ثالثا: لخصوصية طبيعة تناقضات الاجتماع الاسرائيلي الملموم في تكوينه، لا يمكن الوثوق بثبات نسبي للرأي العام فيه، لأنه اسرع تموجا وزئبقية من غيره. وعلى الرغم من العمى الجمعي المشترك في إنكاره لوجود ولحقوق الشعب الفلسطيني، وفي إحساسه الدفين بالغربة والتهديد الدائم في ومن المجال الحضاري الذي زرع فيه.
ولذلك بدأت توا الأسئلة لدى النخبة والعامة تكبر، وستكبر، ما طال أمد الحرب بدون نتائج محققه على الأرض، وأهمها عودة النازحين العاجلة الى مستوطناتهم وهم يتضاعفون بالآلاف، تماما كما جرى لعودة (الرهائن) حيث انتقل خلالها الرأي العام من إجماع متعصب أعمى، إلى انشقاق عمودي وفاعل كاد أن يقلب موازين القوى لولا القفزة الأخيرة المتعمدة لنفس السبب بالهجوم على لبنان ; والتي أعادت مؤقتا الكرة في دورة سيزيفية للعمى الجمعي الايديولوجي. لكن السؤال المؤرق لمضاجعهم سيكبر لا محاله : هل الأفق الوحيد هو اتساع رقعه الحرب الى أعماق اسرائيل بجميع تكاليفها المدنية والاقتصادية والعسكرية والى متى اذن؟!
أما المشهد على الجبهة اللبنانية، فهو يشير الى احتواء المقاومة اللبنانية لمضاعفات العمليتين الإرهابيتين المباغتتين ، من حيث أنها لم تؤثر كثيرا على منظومتها القتالية، ولم تصبها بالشلل أو حتى بالإرباك المعطل لفترة ما ، كما تصورت القيادة الفاشية الإسرائيلية. بينما كان العكس هو الصحيح . اذ أعلنت المقاومة فورا ، وهي تلملم جراحها أنها ماضية ولن تتنازل عن معاركها إلا بوقف الحرب في غزة، وأنها دخلت طورا جديدا أعلى في معاركها ، أسمته “بحرب الحسابات المفتوحة” »والعين على الميدان لا على ما تسمعونه »
وفي الميدان، تجلت الحسابات المفتوحة، في تصعيد متأني ومحسوب سياسيا ، لكي لا تُضيع المقاومة أي مكسب حققه طوفان الاقصى لصالح القضية الفلسطينية دوليا واقليميا ، وحتى لا يتم تغليب أي عنوان آخر للحرب غير عنوان فلسطين . وأيضا لكي لا يطال السوء الاجماع الوطني الحاصل في لبنان حول شرعية المقاومة في دفاعها عن لبنان المتلازم مع مساندتها لوقف الحرب على غزة. وهو إجماع وطني لبناني لم يسبق له مثيل في أي مرحلة سابقة بما فيها حرب 2006. وكذلك لحرص المقاومة على الوقت والفعل الكافيين لعودة نمو التناقضات الكامنة في دواخل الكيان الإسرائيلي . أما التصعيد المتأني فهو إن كان يسعى إلى تجنب الحرب الشاملة لبنانيا وإقليميا، فالمقاومة ملزمة بأن تكون مستعدة لكل الاحتمالات ، وبالأخص منها أن تحافظ على قدراتها الكاملة لمواجهة أي حرب برية على الأرض محتملة مع العدو الإسرائيلي. ولا يخفى علينا ان هذا الاحتمال ترحب به المقاومة، وتعتبره أفضل فرصة لتغيير موازين القوى كيفيا في طرق الحرب الجارية . ولا يمكن هنا أن نغفل عن دور الجبهات المساندة جميعا التي تعضد كل منها المقاومة الفلسطينية واللبنانية في تصعيد منسق ومتدرج يراعي خصوصية مجال الفعل لكل منها والتقدير السياسي الآني والبعيد المدى الجامع بينها.
الميدان نفسه بما ينطق به يحيل الى كل تلك الحسابات ، وهي في الجملة تقوم على خوض حرب دفاعية استنزافية طويلة الأمد لا تستعجل نتائجها ونهايتها في الحال. وقد لاحظنا أن المقاومة اللبنانية في نهجها المتاني والدقيق الحسابات السياسية والعسكرية ركزت على ضرب المواقع العسكرية والاستخباراتية وأجهزتها التقنية الدفاعية المستقاة من بنك الأهداف الدقيقة و الواسعة التي جمعتها “طائرات الهدهد” المسيرة. وعلى التوسيع المتصاعد لدائرة النار امتد قطرها لأزيد من 60 كلم ضمت الى الان مدينة رفح وصفد وعدة تجمعات استيطانية أخرى . وكان حدثا كبير الدلالة عندما وجهت المقاومة أول صاروخ باليستي على قاعدة استخباراية أخرى في ضاحية تل ابيب ، في رسالة مفادها ان المقاومة قادرة على ضرب تل ابيب بصلية كاملة من الصواريخ الدقيقة. والجميع يعرف أن لدى المقاومة مخزونا كبيرا من الصواريخ الدقيقة وغيرها من الأسلحة المتقدمة لم تحركها بعد، وانها لم تستهلك الى اليوم الا 10% في أقصى التقديرات، وعلى غير المزاعم الكاذبة للجيش الاسرائيلي ، كما هي عادته في أنه أنهى 50 الى 60% من قدرات المقاومة.
ما توخيته من تلك التلميحات الموجزة للحسابات المفتوحة في الحرب لدى المقاومة، أن المعارك التي تخوضها لا تحكمها عقلية الثأر من العدو و حسب. بل يحكمها كل تلك الاعتبارات السياسية التي ينبغي أن تراعيها و تنمي جوانبها الإيجابية في تصعيد عقلاني محكم نحو النصر العسكري و السياسي معا.
•وبموازاة المعارك الميدانية، رُوج لحملة دبلوماسية أمريكية فرنسية جديدة تبشر بمشروع متوازن وقابل للتنفيذ ، غرضه فتح المجال للعمل الدبلوماسي لإنهاء الحرب في المنطقة واطفاء بوادر اشتعالها في الاقليم برمته . وينص المشروع على هدنةلمدة 21 أو 24 يوما، تقوم خلالها هيئة الامم المتحدة بإنجاز الخطوات التنفيذية لوقف الحرب في غزة ولبنان على قاعدة قراري مجلس الأمن 1701 الخاص بلبنان و 2537 الخاص بغزة . وقد لقي المشروع دعما من العديد من الدول الغربية والعربية (قطر ومصر والسعودية) والحقيقة أنه توجه ذكي وأكثر توازنا مما كان يعد من قبل الوسطاء والولايات المتحدة منفردة . الجوهر الايجابي في المشروع، اذا صح ما لدينا عنه، أنه سيحيل الأمر كله الى هيئة الامم المتحدة وعلى قرارين مقبولين من لبنان دولة ومقاومة ومن قبل المقاومة الفلسطينية والسلطة الفلسطينية ايضا. وما كان لهذا المشروع أن يظهر بهذا التوجه نحو اعادة الاعتبار للشرعية الدولية لولا التقدير الجدي من قبل الولايات المتحدة وفرنسا ودول الغرب عامة، ان استمرار الحرب وهي على مشارف تدحرجها الى حرب اقليمية شاملة ليست حتما في مصلحة الكيان الاسرائيلي ولا هي في مصلحة الغرب عامة. ومن دون أن نسقط من حساباتنا أن التلويح بهذا المشروع الذى مازال لفظيا قد يكون مرة أخرى مجرد خداع دبلوماسي لشراء الوقت و للتغطية على الجرائم الإسرائيلية كما هي في الميدان. وهاهو العمى الإيديولوجي الصهيوني كالعادة جعل نتنياهو يرفض المشروع بعد أن وافق عليه كما قيل، لأنه وقع سجينا لتحالفاته الداخلية و للأهداف الخيالية التي سطرها طيلة حربه العدوانية في غزة ولبنان ، وقد بات يدعي ما هو أكبر ، في أنه سيغير وجهة الشرق الأوسط و موازين قواه، نحو شرق أوسط جديد أمريكي و اسرائيلي الهوى بالمطلق، وعلى غرار ما زعمته سابقته وزيرة الخارجية الأمريكية وقتها في حرب 2006 على لبنان، مشيرة على أنها ستلد شرقا أوسطيا جديدا. وفشلت الحرب و كانت أمريكا وقتها في أوج صعودها الانفرادي. هذه المسألة تحيلنا الى ارتباط المعركة في غزة و فلسطين و لبنان، وبقية جبهات المساندة بتطور الصراع وموازين القوى الدولية و الإقليمية، و هي قضية سنعود اليها في المقالة القادمة، ومع ذلك ينبغي التنويه بأن الاساطيل الحربية الأمريكية في المنطقة و قواعدها التي تعول عليها اسرائيل لا تخيف جبهات المقاومة، وامريكا تعرف جيدا ان تدخلها العسكري لن يكون نزهة متعة سليمة من الخسائر الفادحة، في أجواء حرب صارت فيها الصواريخ والطائرات المسيرة عماد الرد المضاد لجبهة المقاومة. وللخسارة الأمريكية البشرية طعم مر لدى رأيها العام من تجاربها السابقة. لننتظر أخيرا ما سيقع من تناقضات داخلية في اسرائيل وهي تتخبط في مأزقها الاستراتيجي ، وسوف نعود الى الموضوع من زاوية المظهر الثاني للأزمة الذي فجرته معركة طوفان الاقصى أي الازمة الوجودية للكيان الاسرائيليو الأيام والميدان أمامنا.
*****
لنترك هذا الموضوع الكبير عند هذا الحد، لكي ننتقل إلى ما يهمنا أساسا، وفي بدئه، أني اخترت في الأخير العنوان ( ليلة القبض على إسرائيل ). وهو تعبير مجازي، قصدت منه، أن معركة 7 أكتوبر في مجابهتها لحرب الإبادة، و في تعدد فعالية جبهات المساندة، قد وضعت إسرائيل في كماشة لا مخرج لها منها لأزمة انحدار يتفاقم استراتيجيا و وجوديا . هذه هي حال إسرائيل اليوم، بعد أن ورطت نفسها في معركة أكبر منها. لم يسبق لها مثيل في كل المعارك و الحروب السابقة. ولهذا تستحق ليلة 7 أكتوبر أن يطلق عليها مجازيا “ليلة القبض على إسرائيل” والسؤال هنا، هل هي فعلا في هذا المآل المهزوم سلفا؟
لنبدأ بسؤال فرعي تكرر طرحه طيلة هذه المعركة : من يحكم من، هل أمريكا أم إسرائيل ؟ كيفما قلبنا وجوه الترابط بين الولايات المتحدة وإسرائيل، تكون النتيجة لصالح الأقدم و الأكبر والأقوى على كافة الأصعدة، مهما كان دور العوامل الأخرى الثانوية المؤثرة ولكنها متغيرة أيضا،كهيمنة الإيديلوجية الصهيونية على قطاع كبير من النخبة و المجتمع ، و منها الدور الوظيفي المهيكل الذي تقوم به الطائفة المستحدثة المعروفة بالمسيحية الصهيونية، ويقدرها البعض بزهاء أربعين مليونا منتميا، ومنهم قادة ومسؤولونَ كبار، ثم فضلا عن النفود القوي للوبي الصهيوني “إيباك” لقوته المالية و الإعلامية ولانغراسه في كافة مؤسسات الدولة . ويزيدهما سلاسة لا مرئية الترسبات الباقية في اللاوعي الجمعي عن نشأة الدولة الأمريكية على أنقاض شعبها الأصيل، فيما يشبه قيام الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني. لكن لتلك الظواهر الواقعية حدودها النسبية إذا ما دعت المصلحة القومية الأمريكية لخلاف ما، وإذا ما تراجع النفود الأمبريالي الأمريكي عالميا. ولأن هذا النظام العالمي الأمبريالي يشهد في المرحلة الحالية صراعات تصبو إلى تغييره نحو عالم متعدد الأقطاب، يكون مفهوما لماذا يتسابق كل عتاة الأمبريالية لحماية إسرائيل، وفي مقدمتهم أمريكا، كي لا تضعف إسرائيل ويتراجع تفوقها ودورها الوظيفي كقوة ضاربة في المنطقة للنظام العالمي الوحيد القطب.
في هذه الأجواء، ثمة ظاهرة أخرى فرعية من المحبذ الالتفات إليها، وهي سمة ملازمة غالبا لأية دولة كبرى تكون في مرحلة التراجع لفقدان قدراتها الأكبر في الحفاظ على دورها و نفوذها السابقين. إذ في هذه الحالة يستمر بل يتضخم لديها غرور العظمة كرد فعل إنكاري لتراجعها الفعلي، ريثما تستفيق بعد وقت ما، من غيبوبتها و ردود فعلها اللاعقلانية على واقعها الجديد. وبهذا المعنى، تمارس لوقت ما سياسة تنبني فقط على القوة لكنها “قوة مفوتة “لأن عضلاتها تراخت و فقدت قدراتها على ما كانت عليه. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لم تستفق بريطانيا العظمى و (فرنسا) على واقعهما الجديد الذي خلفته موازين القوى للحرب العالمية الثانية، إلا بعد إدعانهما لوقف عدوانهما الثلاثي (مع إسرائيل )على مصر في سنة 1956 بإنذار من الولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفياتي من جهة ثانية وهما القطبان اللذان توليا قيادة العالم في المرحلة التالية.
هذه الملاحظة، كما بينت تبدو لي سارية المفعول على الوضع الحالي للولايات المتحدة ولحلفائها الأمبرياليين ولإسرائيل أيضا، باعتبارها قاعدة ضاربة في النظام العالمي الأمبريالي الوحيد القطب، ينطبق عليها ما ينطبق على مكوناته الأخرى الرئيسة. وباختصار شديد، أي تحليل يغفل عن مفهوم “الأمبريالية “في تحليله للنظام العالمي، وبما هو استخلاص لمنهجية أشمل في التحليل تعطي الأولوية للكشف عن مكامن الاستغلال والاستعباد في كلية البنيات الاجتماعية القائمة وطنيا و عالميا، ويهدف إلى تجاوزها والتحرر منها. أي إغفال من هذا النوع في أية منهجية أخرى، لن يقدم في أفضل الأحوال سوى صورة مسطحة أو فكروية تستلذ ذاتيا بتوالد الأفكار الغارقة في التجريد لكنها لا تحبل بأي مشروع إنساني تعبوي تغييري. ويحضرني هنا مثلا، تصورات نقدية كثيرة سقوفها ليبرالية تُحيل المآسي الإنسانية إلى الحداثة نفسها بدل أن تحيلها إلى معوقات بنى النظام الرأسمالي الذي أخد بعضا منها بالقدر الذي يسمح له بتكريس الاستغلال والاستلاب والاستعمار والهيمنة .
وبالعودة إلى موضوعنا المباشر، يبقى السؤال قائما، لماذا تبدو السياسة الأمريكية في المسالة الفلسطينية تابعة في التفاصيل العملية لما تريده الإدارة الفاشية لإسرائيل. ليس صعبا على أي متابع أن يتبين العنصرين الفاعلين المتناقضين في نفس اللحظة، واللذين يجران الولايات المتحدة إلى مسارها الديبلوماسي المتلعثم و الفاقد القدرة على كبح الفاشية الإسرائيلية. فمن جهة، أمريكا تخوض” حربا عالمية ” غير مباشرة في أوكرانيا مع روسيا الاتحادية و تستعد لها مع الصين، وإن مازالت ساحتها الرئيسة اقتصادية إلى اليوم، وهاجسها الاستراتيجي، العسكري و غيره، في أغلب بقاع العالم (وكما قلت مرارا) الأولوية للحفاظ على مكانتها على عرش النظام الدولي. وفي هذا السياق، لا يمكنها قطعا أن تقبل بأي شكل لهزيمة متوقعة لأداتها الضاربة إسرائيل لما سيتلو ذلك من تغيرات لموازين القوى في المنطقة عامة، ولما سيحدثه بالتالي من تأثير قوي على مجمل الصراعات العالمية أيضا. والثغرة الاستراتيجية المستعصية على الحل لدى أمريكا وحلفائها، أن الأمر لا يتوقف على تحريك ما لديهم من عناصر ” القوة المفوتة” لدعم إسرائيل، وإنما أساسا على صمود الشعب الفلسطيني و مقاومته، وعلى جبهات الإسناد، بل وعلى كل الطاقات التي ما زالت كامنة لدول المنطقة و لشعوبها، إذا ما طالت حرب الإبادة . ومن جهة ثانية، تجد الإدارة الأمريكية القائمة نفسها، وهي تخوض هذه المعركة بجانب إسرائيل في ظرفية انتخابية رئاسية غير ملائمة و ضاغطة عليها . فإذا كان الوضع الانتخابي يكاد يكون متعادلا في تارجحاته الممكنة كما تظهر ذلك استطلاعات الرأي بين المرشحين ” الديمقراطي و الجمهوري”، فإن الحزب الجمهوري أكثر اطمئنانا على كتلته الانتخابية الصلبة في نسبة كبيرة منها، بينما على الحزب الديمقراطي أن يحسب ألف حساب بين الوزن الانتخابي الكبير للنفوذ و الهيمنة الأيديلوجية الصهيونية، على النخب و قطاعات واسعة في المجتمع، وبين المعارضة النامية لصالح فلسطين داخله و خارجه من جماهيره الناخبة وفي طليعتهم الشبيبة الطلابية الجامعية . و يظهر أن الإدارة الأمريكية قد غلبت في تقديراتها الانتخابية (مع ترشيح كمالا هاريس) مصلحتها العالمية في دعم إسرائيل ، و رجحت في حساباتها الوزن الثقيل للصهيونية على الحياة السياسية العامة، تاركة دور المعارضة الداخلية لاحتواء تبعاتها للتعاملات الظرفية . ولهذا جميع العمليات الإجرامية المنفلتة التي قامت بها إسرائيل، بعد خطاب “نتنياهو” أمام مهرجان الكونغريس التكريمي لفاشيته، كانت بمباركة أمريكية لها، بعد أن تنصلت الإدارة الأمريكية من خطوتها الفريدة المتوازنة فيما عرف بمشروع بايدن للسلام في غزة، والذي تبني أسسه قرار مجلس الأمن، واستندت حماس والمقاومة عليهما في موقفها الإيجابي منهما معا.
قد لا تكون هناك فائدة كبرى في تفكيك اللغة الديبلوماسية الإنشائية المنمقة لأمريكا ولحلفائها. فمن الواضح لدينا أن، بعد اندفاعهم الجماعي الأعمى بجانب السردية الصهيونية بالكامل طيلة الأشهر الأولى من الحرب على غزة، بدأ لحنهم يتغير قليلا تجاه الهمجية الإبادية الإسرائيلية،لاحتواء التحركات الشعبية الضخمة المناصرة لفلسطين في بلدانهم ، و لفشل العدوان الإسرائيلي في تحقيق أهدافه حتى النصر الكامل. صلب هذه الديبلوماسية المبنية على مصلحة رجعية عالمية عارية، لا أخلاق و لا قوانين دولية، تضبطها و تلزمها، أن الزمن لديها مطاط لا قيمة إنسانية له، مهما كانت التضحيات الفلسطينية غالية ودامية. ما دام البحث جاريا على صورة ما لنصر سياسي إسرائيلي مزعوم .
ولعل ما يثير الفضول أكثر في السياسات الدولية الغربية عامة، ليس ما يتداول عنها من “ازدواجية المعايير” في كافة القضايا الكبرى الراهنة، فهذه واضحة وضوح الشمس. اما ما ينبغي أن يثير حقا، انكشاف أزمة الديمقراطية ومؤسساتها الليبرالية في الغرب الأمبريالي عامة. ثمة مقولة قديمة نسبيا، واكبت عصرنا الحديث تحديدا مفادها ، ليس شعبا حرا من يحتل شعبا آخر . لأن الحرية و الديمقراطية إذا ما فقدا أو انفصلا عن جذرهما الاجتماعي الإنساني المساواتي والعادل، يتحولا إلى مجرد آلية تقنية لصالح أقلية حاكمة ما. ورغم كل المزايا النسبية المعروفة للديمقراطية الليبرالية و لحرياتها. فإذا ما توقف الجذر الاجتماعي الإنساني بذاك المعنى، توقف دينامو التقدم و التطور التاريخيين. فلا الحرية ولا الديمقراطية كعكة تؤكل في لقمة واحدة.
وليس مبالغة مفرطة مني، أن التناقضات الجارية في المجتمعات الغربية اليوم، تومئ بأن مؤسساتها الليبرالية قد استنفذت كل ما كان في مقدورها أن تعطيه لأهلها، إن نحن غضضنا النظر عن مجراها التاريخي الاستعماري. ولأن الموضوع وسيع للغاية، ويفيض عن حاجتنا الملحة، وريثما أتناوله في حلقة خاصة، أقف عند ملاحظات سريعة.
•بات على المكشوف تدخل السلطات في قمع كل أشكال حرية التعبير و الاحتجاج في البلدان الغربية الرئيسة، وهي الأساس الأولي للديمقراطية الليبرالية .
•ليس صدفة أن النظام الليبرالي الرأسمالي في جميع أزماته الكبرى يستولد دائما بديلا ارتداديا متطرفا لتكريس أيديولجية الاستلاب الدفينة و المتبقية في اللاوعي الجمعي كآلية مستقطبة و انقادية للنظام الرأسمالي. وهذا ما بينته ميولات انتخابات برلمان الاتحاد الأوروبي الأخيرة. وليس بعيدا عنها الوضعية الانتخابية الجارية في الولايات المتحدة، ولا أقل منها فوز حزب العمال البريطاني الذي تصهينت قياداته وزادت تبعية استعمارية وراء أمريكا. وأهم ما في هذه الظاهرة الجماعية ترهل النخب الحاكمة وانفصالها عن تطلعات ومشاعر شعوبها حتى و هي منتخبة.
•الانتخابات ومؤسساتها وقوانينها وصنمية الثقافة السياسية المستلبة الحاضنة لها ما عادت تنجب دينامكية اجتماعية ذات أبعاد تقدمية تاريخية سوى اللعب على بعض الفروقات الفئوية المصلحية الآنية التي تفرزها التناقضات الثانوية للنظام نفسه، وبما يبقي على السيطرة الكاملة لذوي النفود المالي وما يسمى تلفيقا بالدولة العميقة غير المنتخبة. ولهذا تظل التطلعات الشعبية المعارضة محجوزة النمو والسيادة، ما لم ترتق إلى امتلاك رؤية نقدية لكلية النظام الرأسمالي وطنيا وأمميا ودوليا.
في ضوء تلك الملاحظات السريعة، أرى ان النقاشات الجارية حول، إلى أي مدى ستؤثر حركات الاحتجاج والاعتراض المتعاطفة مع الحق الفلسطيني في أمريكا وأوروبا، أقول:لا شك لدي في انها ظاهرة تعكس الجدلية الموضوعية في الانفلات من معيقات الاستلاب، والذي مهما ساد وطال لا يمكنه ان يسد عليها ويقتلع جدليتها. ويمكن لهذه الحركة الاعتراضية حتى لو اقتصرت على الشأن الفلسطيني فقط أن تستمر وتنمو وتحقق النصر، كما حققته في أزمة الفيتنام. لكن سيظل الرهان قائما على مدى تغييرها للوعي الاجتماعي العام في بلدها نحو التحرر من كافة أشكال الاستلاب الأخرى. وعلى مدى تظافرها مع قوى التحرر في العالم.
****
ربما أطلت قليلا في التعريف بالإطار الفكري السياسي العام لما له من صلات قوية مع تطورات الصراع في فلسطين وعموم المنطقة. وها نحن أمام السؤال السابق: هل تعاني إسرائيل حقا من أزمة انحدار وتراجع؟
من الصعب في الحيز المتاح الممكن، أن أقدم تحليلا وافيا لجميع جبهات المعارك الميدانية والدبلوماسية وخصوصيات كل من مكوناتها وأطرافها. ولذلك سأكتفي ببعض العقد الرئيسة التي تبين الاتجاه العام لموازين القوى الشمولي. وهنا لا يساورني شك، لما تنطق به الوقائع العينية، أن إسرائيل تورطت في مخالفة لعقيدتها العسكرية الأصلية، في أطول حرب تخوضها ولا تستطيع أن تنجز أهدافها الاستراتيجية. وفي موازاة انغلاق أفقها الاستراتيجي، وبفعل تخبطاتها القاصرة، تتنامى في المجتمع شروخات تنم عن أزمة وجودية.
ويمكن لنا أن نختزل هذه الصورة المركبة بالإحالة إلى ما قالته وسربته قيادات الجيش والأمن الاستخباري في خلافاتهم مع قيادتهم التي تحتكر القرار السياسي في الحكومة. وعلى رأسهم نتانياهو. لأنها أصلب شهادة من أهلها وعلى أهلها. وجوهرها، أن الجيش منهك وغير قادر على استمرار الحرب في كل الجبهات. وأن استمرارها يهدد كيان الدولة والأمن المجتمعي. تلك التصريحات والتسريبات الصادرة عن قادة عسكريين وأمنيين سابقين وحاليين، ومن قادة المعارضة السياسية، كافية لوحدها أن تغنينا عن أي تحليل إضافي. حتى وهم يجمعون على عدائهم المطلق لحق الشعب الفلسطيني ولمقاومته، ولا يرغبون في أكثر من تسوية سلمية، ولو كانت مكلفة، توقف الحرب لزمن ما وبما يسمح بلئم الجروح النرجسية العميقة والاختلالات الكبرى التي أصابت الدولة والمجتمع.
هذا جانب وحسب من الصورة العامة لإسرائيل ، وثمة جانب مباشر آخر لا يقل أهمية في تشخيص الأزمة واستشفاف مآلها وتأثيراتها على الحرب النفسية كواجهة رئيسة من واجهات الحرب المادية. وهكذا، لو تمعنا جيدا في الخطاب السياسي والإعلامي الموظف لخدمة أهداف الحرب، لوجدنا أنه اعتمد ولا يزال على المبالغة القصوى في تحديد الأهداف والتعبير عن المنجزات والقدرات، والغاية، أن تظهر إسرائيل نفسها بأنها ما زالت قوة عظمى لجيش لا يقهر، بينما هي قوة مفوتة، كما أسلفت، فإذا ما استثنينا ما قامت به من قتل همجي وتدمير لمعظم بنى الحياة المجتمعية في غزة، واستنساخ ما يماثلها في الضفة أيضا، وما قامت به من اغتيالات لأطر وقيادات كبيرة، وهما هدفان لم يغيرا نوعيا في الميدان العسكري، فإن كل الباقي من أهداف وسرديات الخطاب ناظمه الوحيد المبالغة القصوى في رسم أهداف واهمة، وحمولته السردية الكذب المستمر الذي لا حدود لفضاضته في جل الوقائع والسرديات، وفي جميع الحالات، إذا كانت الحرب خدعة، كما يقال، فالحرب ليست كلها كذب، لأن حبله في ميزان القوى المادي قصير، وسرعان ما تتكشف حقائقه المادية المستورة.
وعلى النقيض من هذه الصورة الإسرائيلية المسخة، تعلو صورة المقاومة في جميع جبهاتها والقائمة على الصدق في القول والعمل. لا تدعي ما لا تقدر عليه ولا تبالغ فيما تنجزه، ولهذا نجحت في حربها النفسية المضادة، على الرغم من قلة إمكاناتها الإعلامية مقارنة بما لإسرائيل من موارد ووسائط دولية ضخمة في هذا المجال . ولا أدل على ذك من أن الرأي العام الإسرائيلي على عداوته الشديدة للمقاومة، يأخذ بجدية أكبر ما تقول به على ما تزغمه القيادة الإسرائيلية من منجزات ووعود. ومن السرديات الكاذبة الكبرى لإيجاد تبرير شرعي مّا لأحقيتها في الدفاع عن النفس، اتهام المقاومة في عملية طوفان الأقصى بالقتل الوحشي للمدنيين وبالاغتصاب وقطع رؤوس الأطفال، ثم الهجوم العسكري الوحشي على المرضى في مجمع الشفاء لاعتباره يخفي بين جنباته مقاتلين وتحته أنفاق للقيادة العليا في المقاومة، واتهام المقاومة اللبنانية بحادثة مجدل الشمس لإشعال فتنة طائفية والتمهيد لاغتيال القائد فؤاد شكر والقائد إسماعيل هنية وأخيرا وليس آخرا، المغالاة المفضوحة في ما اعتبرته عملية استباقية (كما في كل العمليات) أسقطت خلالها 6000 صاروخ موجه من المقاومة لتل أبيب، مع إنكارها التام لما وقع لقاعدتها الاستخبارية الأكبر و الأهم 8200.
لنأخذ الآن الوجه الرئيسي لأزمة إسرائيل المتمثل في انغلاق الأفق الاستراتيجي لحربها العدوانية، وهي تدور على محورين: من جهة، حصيلة الميدان العسكري. ومن جهة ثانية، الخلافات الأساسية الجارية في المفاوضات مع الوسطاء للوصول إلى تسوية ما قابلة للتنفيذ وقد ترضي الطرفين المتحاربين
وعلى هذا المستوى، يمكننا أن نستخلص بقدر كبير من الثقة، ما يلي :
أولا : بفعل الصدمة القوية التي أصابت الكيان الإسرائيلي صبيحة 7 أكتوبر، والتي أطاحت في ضربة واحدة بهيبته الردعية العسكرية والاستخباراتية، تعجلت القيادة الإسرائيلية، بدافع النرجسية العنصرية ردة فعلها لتستعيد هيبتها في حرب قد لا تدوم في تقديرها المستخف أكثر من خمسين يوما. لكنها فوجئت بما لم يكن في حسبانها من حيث أن المقاومة أعدت نفسها لحرب أطول غير متوقعة. وزادها قوة ومناعة انخراط جبهات الإسناد معها. ومن تم فقدت القيادة الإسرائيلية تماسكها الإستراتيجي الصلب، وصارت الحرب متقلبة الأهداف و الجبهات الآنية، تبحث في خلفياتها الفعلية، وبما لا يصرح به، عن مكسب سياسي ما ينقد ماء الوجه و يخفي ضعفها و خساراتها في الميدان .
وكما تآكلت في الميدان أهداف الحرب المعلنة، تآكلت معها سردياتها الكاذبة على المستوى الدولي. ومن بين ذلك ما وقع من تطورات غير مسبوقة الزخم لدى الرأي العام العالمي، بما فيه الأحكام المنتظرة لمحكمتي العدل والجنايات حتى و إن كانت ذات قوة قانونية و معنوية لا أكثر، وبما فيه خصوصا أن القضية الفلسطينية استعادت شرعيتها و مركزيتها في العالم .
ثانيا : إذا ما أخذنا التخبط السياسي والميداني، سواء في ما وضعته و أعلنته القيادة الإسرائيلية كمراحل في حربها على غزة، و أهمها البدء ولشهور بالتركيز على شمال غزة بهدف تصفية الوجود المقاوم كلية، أو بعدها في الانتقال إلى مرحلة ثانية ثم الى المرحلة الأخيرة بتركيز الهجوم الكاسح على رفح، ولنفس الهدف، وفي أجواء ضجيج أمريكي وغربي تحذيري لإسرائيل.
من العواقب اللاإنسانية لهذه العملية، ثم تبخر الضجيج، وابتلعت الألسن المحذرة، إلا من همسات تتواطأ مع قبولها بالأمر الواقع. وبعد حين، انضافت الى حرب غزة، شمالا ووسطا وجنوبا، تكثيف العمل العسكري الهمجي لاقتلاعوجود المقاومة، وتكاثر تنظيماتها في الضفة الغربية . وبموازاة هذا العمل العسكري الميداني، وضعت القيادة الإسرائيلية شروطا إدعانية شاملة لكل القضايا الكبرى في المفاوضات الجارية مع الوسطاء، وعن قصد جرى تضخيم إعلامي لما اعتبره نتنياهو مسألة حياة أو موت لإسرائيل، اذا ما انسحب الجيش من احتلاله لشريط فيلاديلفيا ومعبر رفح. بينما كان الخلاف مع المقاومة في كل القضايا المبدئية الأخرى ومنها الانسحاب الكلي من غزة.
لكن هذه النرجسية الفاشية الفائقة الحد، زجرتها الوقائع على الأرض. فلا المراحل التي لمحنا اليها أنجزت أهدافها في تقويض القوة القتالية للمقاومة، ولأنفاقها وكمائنها وقتالها من مسافة الصفر، ولا تمكنت من تحرير الأسرى بالقوة (عدا خمسة أحياء والباقي جثتا) ، وكان هذا هدفا تاليا يلي و يتحقق عبر انجاز النصر الكامل ( الذي لا يرضى عنه نتنياهو بديلا) بالقضاء المبرم على المقاومة ، كما إدعت وأصرت القيادة الاسرائيلية مرارا. وبينما كان الجيش الاسرائيلي يعود في كل مرة الى نفس المواقع التي زعم انه أنهاها. وهذا دليل على أن حركية المعاودة الدائرية لانتشاره لا تفيد قطعا أنه تحكم في السيطرة على الأرض، بل هو خاضع بالأحرى لحرب استنزاف متنقلة، المبادرة فيها للمقاومة ، وليس العكس. وهي تُنهك جيشه وتُفجر المئات من آلياته وتُحيد قتلاه ومعطوبيه بالألاف .
•ولم تكن الصورة العامة في الضفة أقل مما هي في غزة، الا من حيث تفاوت الامكانيات التسليحية للمقاومة هنا وهناك، ومن حيث اختلاف البنية السكانية لوجود تجمعات المستوطنين بها (حوالي 700. 000 ) وجلهم مسلح، ناهيك عن الحواجز العسكرية بالمآت، ومع ذلك فإن تكثيف الهجمة العسكرية على الضفة، وإدخالها كهدف عاجل لحرب الإبادة، ومن تم تخصيص فرقتين عسكريتين مدججة بكل أنواع الأسلحة الثقيلة وبتعاونها مع كافة الاجهزة المسلحة الأخرى من أجل اقتلاع بؤر المقاومة بهجمات متصلة لأيام على كل منها وعلى البيئات الحاضنة لها، ولا سيما بتجريف وتدمير جل مقومات استمرار بقاء الحياة الاجتماعية الأدنى في بقاعها . ومع شن حملات اعتقال عشوائية كبرى أزيد من 10,000 معتقل تعرضوا لأشد أنواع التعذيب الجسدي والتدمير النفسي. إلا ان الخط البياني لفعل المقاومة ما زاد إلا تصاعدا وفعالية واحتضانا من قبل جماهير الضفة من اقصاها الى أقصاها. وبدلا من أن تؤدي هذه الهجمة المسعورة الى انهاء المقاومة المسلحة ، والى إخماد أي إمكانية لانتفاضة شعبية أخرى كسابقتيها (وهي أكثر تسليحا في هذه المرة) صارت احتمالاتها أقرب وأقوى. كما ارتفع هول هاجس الأمن لدى المستوطنين، عندما حدثت ثلاث عمليات فرديه استشهادية واحدة منها في تل ابيب، واخرى من مناضل غيورأردني ، كان يعبر الي اسرائيل بحكم مهنته… وأعلنت فرق المقاومة انها ستلجأ الى هذا النوع من العمليات الاستشهادية مستقبلا ، فأضحى القلق الأمني الشديد في اسرائيل مطروحا من الجانب الاردني الذي يشهد غليانا شعبيا تضامنيا لا يمكن التنبؤ بمخاطره، و هو على أطول حدود تماس مع الكيان الاسرائيليالعاجز على تأمينها بالكامل.
لقد كان الهدف الأدنى من الحملة الإسرائيلية الهجومية العاجلة على الضفة استباقيا وقائيا، يسعى الى ضمان شروط احتلال استيطاني هادئ لا تنغص وجوده مقاومة أو انتفاضة، اذا ما توقفت الحرب على غزة. أما الهدف الأعلى في غزة والضفة معا، احتلال فلسطين التاريخية كاملة والسعي بكل الوسائل القسرية لتهجير سكانها أو التقليل الأقصى من أعدادهم الى الحد الذي يغير من نسبة نموهم الديموغرافي على المدى الطويل .
•ويظل السؤال هو نفسه : هل تستطيع اسرائيل الخروج من مأزقها الاستراتيجي؟ لعله أفضل تعبير موجز قرأته في توصيف هذا المأزق المسدود الافاق، أن »اسرائيل غير قادرة على تحقيق النصر، وغير قادرة على تحمل هزيمة ! « وبين هذين الحدين المتناقضين تحرك اسرائيل قوتها المفوتة في جملة من التكتيكات الآنية، هي أقرب الى ردود الفعل الإنكارية منها الى استراتيجية متماسكة الاهداف الممكنة واقعيا .
وبلا ضرورة لتحليل شروطها الادعانية، الرافضة لكل المبادئ التي تصر عليها المقاومة في المفاوضات مع الدول الثلاث الوسيطة، ومن أهمها، وقف الحرب والانسحاب الكامل من غزة وعودة النازحين الى أماكن اقامتهم الأصلية بلا قيود، وتبادل للأسرى مرضٍ وبلا شروط، وتوفير كل المواد الغذائية والدوائية والطاقية وغيرها من ما تحتاجه الوضعية اللاإنسانية الكارثية في غزة . واعتبار ما يسمى “باليوم التالي” قضية فلسطينية بحثة لا دخل لأي قوة خارجية فيها. وفي هذه القضية الأخيرة، جدير بالتذكير قولة نتنياهو، أنه لا يريد في غزة مستقبلا “لا فتحستان ولا حمستان” ولهذه الغاية عين حاكما عسكريا يتولى ادارة الشؤون المدنية في غزة ضمن رؤيته لاحتلال استيطاني كامل لغزة، وقبلها صوت البرلمان » كنيست « بشبه اجماع رافضا لأي دولة فلسطينية واردة في حل الدولتين، وبعد أن أقر في السابق قانونا يُرسم هوية الدولة اليهودية.
الورقة القوية التي تراهن عليها اسرائيل لفرض شروطها الإدعانية أمام عجزها الميداني في القضاء على المقاومة وتحرير أسراها، واستكمال مشروعها الاحتلالي الاستيطاني لفلسطين التاريخية، ليس الا ورقتها الدامية الفاشية في التدمير الهمجي الاقصى للبنى السكنية والبشرية والاجتماعية لغزة، ولا يقل عنهما يجري في الضفة الغربية المختلطة سكانيا . ولأن الكيان يستشعر أنها حرب لها ابعاد وجودية، ينبغي لها إذن أن تستمر مفتوحة بلا سقوف أخلاقية أو قانونية أو دولية، ولو أدت الى حرب إقليمية شاملة. والتعويل هنا على الدعم المتواصل والسخي من حاضنته الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين ، عسكريا و استخباريا وماليا ودبلوماسيا الى أن يتحقق لإسرائيل مخرج يمكن أن تُسوقه نصرا لها.
•ولأنها (إسرائيل) فشلت في انجاز أهم هدف عاجل لما توخته من هجماتها الدامية الهمجية في ان تحدث شروخا استسلامية تُفتت صمود الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، وتخلخل استمرار احتضانه والتفافه حول المقاومة، ولأن جبهتها الداخلية كانت في المقابل تزداد تفككا وصورتها الخارجية العالمية تزداد انحطاطا. ولأن استراتيجيتها مبنية على قفزات هروبية آنية، التفتت فجأة الى خساراتها المتراكمة في الجبهة الشمالية مع المقاومة اللبنانية. وهكذا، بعد تهديدات مزمجرة لم تتوقف طيلة الأشهر السابقة، أُعلن رسميا عن خطة حرب هجومية جديدة تجاه المقاومة اللبنانية، تستهدف إرجاع النازحين (ازيد من 100 ألف مستوطن) الى مستوطناتهم التي أفرغوها هربا من المعارك التي تخوضها المقاومة اللبنانية سندا للشعب الفلسطيني ولغزة. وللعجب لم تضع الخطة من أهدافها الصريحة، كما هو غرور العظمة المعتاد، إجبار المقاومة بالقوة على الانسحاب إلى ما وراء الليطاني، ولكنها تركته هدفا لمناورات خطابها السياسي ولضغوط الدبلوماسية الأمريكية وحلفائها، تحسبا منها، أن طرح هذا الهدف صراحة في الخطة العسكرية، يُلزم الجيش الاسرائيلي بخوض حرب برية على ارض لبنان يخشى تكاليفها الباهظة عليه.
وكما هو معلوم دشنت اسرائيل حربها المتجددة على لبنان ، بعملية اجرامية كبرى لم يسبق لها مثيل في الحروب المعاصرة، ويعتبرها جميع العارفين الصادقين انها ترقى الى جرائم حرب ضد الإنسانية من الدرجة الاولى، وانها اذا ما تم التساهل مع مرتكبيها، وعُممت، ستؤدي الى فوضى حروب همجيه لا يؤتمن فيها أحد على ما يستورده . وفي ضربتين متتاليتين ودقائق معدودة ، جرى تفجير إلكتروني لأكثر من 5000 أجهزة اتصال شخصية من نوع بيجر وأخرى لا سلكيه . استهدفت خصوصا البيئة الاجتماعية المدنية للمقاومة، ولبعض أطرها من المقاتلين ومعاونيها في مختلف القطاعات الخدماتية. وفي اليوم الثالث قامت اسرائيل بعملية اخرى صاروخية جوية على ما اعتبرته اجتماعا “لقيادة الرضوان” ذهب ضحيتها قياديان وبعض المقاتلين من المقاومة وعشرات الأسر من القاطنين في المبنيين المهدمين من جراء قصفهما الجوي. كان هذا الاستهلال الحربي المتوالي موجعا ومرعبا، وربما كان في التخطيط العدواني أن يكون ضربة قاسمة تصيب المقاومة وقياداتها بالشلل التام . هكذا قدمها الخطاب الاسرائيلي العسكري والمدني بزهو وانتشاء عم الكيان بجميع مكوناته واختلافاته. لكن الحقيقة الاكثر تواضعا سرعان ما انكشفت على غير مساحيق غرور العظمة. وما دام الشيء بالشيء يذكر، جدير بنا أن نستحضر العملية الأسبق والتي قامت بها المقاومة اللبنانية في ردها على اغتيال أحد قادتها الكبار “فؤاد شكر”، والتي استهدفت خصوصا أهم وأكبر قاعدة مركزية استخبارية في اسرائيل والمعروفة برقم 8200 وقد تأكد فيما بعد أنها أردت 24 ضابطا قتيلا ولربما كان منهم قائد القاعدة الذي قيل عنه مؤخرا أنه استقال من منصبه وأصابت 72 جنديا جريحا بدرجات متفاوتة الخطورة . ولأن الرقابة العسكرية الإسرائيلية صارمة في كل ما يتعلق بالمقاومة اللبنانية، لم يكن لعمليتها تلك نفس الصدى الاعلامي دوليا ، كالذي تجده العمليات الإسرائيلية، مع انها كانت ضربة قوية مضادة لا تقل وزرا وإتقانا في الحرب العسكرية والاستخباراتية والتقنية.
•ما يهمنا في هذه العجالة، ليس تفاصيل المعارك التي خاضتها المقاومة اللبنانية في مرافقتها من اليوم الثاني لانطلاق معركة طوفان الاقصى دعما لها ولمقاومتها . ما يهمنا الوصول اليه، المشهد العام للصراع في المنطقة ولاتجاهاته المحتملة. وسؤالي يظل هو نفسه هل اسرائيل قادرة على المضي في حرب لا هوادة فيها، والى أن تحقق جميع أهدافها حتى ولو جرها الى حرب إقليمية؟ الجلي في المشهد العام يقول :
أولا : نقلت اسرائيل مركز الثقل في حربها العدوانية، ولفترة ما، الى الجبهة اللبنانية ظنا منها، أنها قادرة على ارغام المقاومة اللبنانية على عودة النازحين الاسرائيليين الى مستوطناتهم في أيام قليلة، بعد الذي أصاب المقاومة من تلك العمليات الهجومية الكبرى. وفي هذا الصدد ، استدعى الجيش الاسرائيلي لواءين من الاحتياط أضافه لخمس فرق سابقة. وباشر في تنفيذ خطة حربية تقوم أساسا على استثمار التفوق الجوي الى مداه الأقصى في ضرب البيئة السكانية الحاضنة أو المساندة للمقاومة وعلى اوسع نطاق .
ثانيا : في جو محموم من العنترة والانتشاء والعدوانية المطلقة، والذي عم الكيان في مجمله ، بعد عملياته الهوليودية السابقة ، ما زال قاداته يتحسسون قدرات جيشهم على خوض حرب بريه على الأرض، وهم يختلفون بالرغم من ثرثرة المزايدات بينهم على احتمالات نجاحها، وذكريات الفشل في حرب 2006 ما زالت حاضرة في الأذهان .
ثالثا: لخصوصية طبيعة تناقضات الاجتماع الاسرائيلي الملموم في تكوينه، لا يمكن الوثوق بثبات نسبي للرأي العام فيه، لأنه اسرع تموجا وزئبقية من غيره. وعلى الرغم من العمى الجمعي المشترك في إنكاره لوجود ولحقوق الشعب الفلسطيني، وفي إحساسه الدفين بالغربة والتهديد الدائم في ومن المجال الحضاري الذي زرع فيه.
ولذلك بدأت توا الأسئلة لدى النخبة والعامة تكبر، وستكبر، ما طال أمد الحرب بدون نتائج محققه على الأرض، وأهمها عودة النازحين العاجلة الى مستوطناتهم وهم يتضاعفون بالآلاف، تماما كما جرى لعودة (الرهائن) حيث انتقل خلالها الرأي العام من إجماع متعصب أعمى، إلى انشقاق عمودي وفاعل كاد أن يقلب موازين القوى لولا القفزة الأخيرة المتعمدة لنفس السبب بالهجوم على لبنان ; والتي أعادت مؤقتا الكرة في دورة سيزيفية للعمى الجمعي الايديولوجي. لكن السؤال المؤرق لمضاجعهم سيكبر لا محاله : هل الأفق الوحيد هو اتساع رقعه الحرب الى أعماق اسرائيل بجميع تكاليفها المدنية والاقتصادية والعسكرية والى متى اذن؟!
أما المشهد على الجبهة اللبنانية، فهو يشير الى احتواء المقاومة اللبنانية لمضاعفات العمليتين الإرهابيتين المباغتتين ، من حيث أنها لم تؤثر كثيرا على منظومتها القتالية، ولم تصبها بالشلل أو حتى بالإرباك المعطل لفترة ما ، كما تصورت القيادة الفاشية الإسرائيلية. بينما كان العكس هو الصحيح . اذ أعلنت المقاومة فورا ، وهي تلملم جراحها أنها ماضية ولن تتنازل عن معاركها إلا بوقف الحرب في غزة، وأنها دخلت طورا جديدا أعلى في معاركها ، أسمته “بحرب الحسابات المفتوحة” »والعين على الميدان لا على ما تسمعونه »
وفي الميدان، تجلت الحسابات المفتوحة، في تصعيد متأني ومحسوب سياسيا ، لكي لا تُضيع المقاومة أي مكسب حققه طوفان الاقصى لصالح القضية الفلسطينية دوليا واقليميا ، وحتى لا يتم تغليب أي عنوان آخر للحرب غير عنوان فلسطين . وأيضا لكي لا يطال السوء الاجماع الوطني الحاصل في لبنان حول شرعية المقاومة في دفاعها عن لبنان المتلازم مع مساندتها لوقف الحرب على غزة. وهو إجماع وطني لبناني لم يسبق له مثيل في أي مرحلة سابقة بما فيها حرب 2006. وكذلك لحرص المقاومة على الوقت والفعل الكافيين لعودة نمو التناقضات الكامنة في دواخل الكيان الإسرائيلي . أما التصعيد المتأني فهو إن كان يسعى إلى تجنب الحرب الشاملة لبنانيا وإقليميا، فالمقاومة ملزمة بأن تكون مستعدة لكل الاحتمالات ، وبالأخص منها أن تحافظ على قدراتها الكاملة لمواجهة أي حرب برية على الأرض محتملة مع العدو الإسرائيلي. ولا يخفى علينا ان هذا الاحتمال ترحب به المقاومة، وتعتبره أفضل فرصة لتغيير موازين القوى كيفيا في طرق الحرب الجارية . ولا يمكن هنا أن نغفل عن دور الجبهات المساندة جميعا التي تعضد كل منها المقاومة الفلسطينية واللبنانية في تصعيد منسق ومتدرج يراعي خصوصية مجال الفعل لكل منها والتقدير السياسي الآني والبعيد المدى الجامع بينها.
الميدان نفسه بما ينطق به يحيل الى كل تلك الحسابات ، وهي في الجملة تقوم على خوض حرب دفاعية استنزافية طويلة الأمد لا تستعجل نتائجها ونهايتها في الحال. وقد لاحظنا أن المقاومة اللبنانية في نهجها المتاني والدقيق الحسابات السياسية والعسكرية ركزت على ضرب المواقع العسكرية والاستخباراتية وأجهزتها التقنية الدفاعية المستقاة من بنك الأهداف الدقيقة و الواسعة التي جمعتها “طائرات الهدهد” المسيرة. وعلى التوسيع المتصاعد لدائرة النار امتد قطرها لأزيد من 60 كلم ضمت الى الان مدينة رفح وصفد وعدة تجمعات استيطانية أخرى . وكان حدثا كبير الدلالة عندما وجهت المقاومة أول صاروخ باليستي على قاعدة استخباراية أخرى في ضاحية تل ابيب ، في رسالة مفادها ان المقاومة قادرة على ضرب تل ابيب بصلية كاملة من الصواريخ الدقيقة. والجميع يعرف أن لدى المقاومة مخزونا كبيرا من الصواريخ الدقيقة وغيرها من الأسلحة المتقدمة لم تحركها بعد، وانها لم تستهلك الى اليوم الا 10% في أقصى التقديرات، وعلى غير المزاعم الكاذبة للجيش الاسرائيلي ، كما هي عادته في أنه أنهى 50 الى 60% من قدرات المقاومة.
ما توخيته من تلك التلميحات الموجزة للحسابات المفتوحة في الحرب لدى المقاومة، أن المعارك التي تخوضها لا تحكمها عقلية الثأر من العدو و حسب. بل يحكمها كل تلك الاعتبارات السياسية التي ينبغي أن تراعيها و تنمي جوانبها الإيجابية في تصعيد عقلاني محكم نحو النصر العسكري و السياسي معا.
•وبموازاة المعارك الميدانية، رُوج لحملة دبلوماسية أمريكية فرنسية جديدة تبشر بمشروع متوازن وقابل للتنفيذ ، غرضه فتح المجال للعمل الدبلوماسي لإنهاء الحرب في المنطقة واطفاء بوادر اشتعالها في الاقليم برمته . وينص المشروع على هدنةلمدة 21 أو 24 يوما، تقوم خلالها هيئة الامم المتحدة بإنجاز الخطوات التنفيذية لوقف الحرب في غزة ولبنان على قاعدة قراري مجلس الأمن 1701 الخاص بلبنان و 2537 الخاص بغزة . وقد لقي المشروع دعما من العديد من الدول الغربية والعربية (قطر ومصر والسعودية) والحقيقة أنه توجه ذكي وأكثر توازنا مما كان يعد من قبل الوسطاء والولايات المتحدة منفردة . الجوهر الايجابي في المشروع، اذا صح ما لدينا عنه، أنه سيحيل الأمر كله الى هيئة الامم المتحدة وعلى قرارين مقبولين من لبنان دولة ومقاومة ومن قبل المقاومة الفلسطينية والسلطة الفلسطينية ايضا. وما كان لهذا المشروع أن يظهر بهذا التوجه نحو اعادة الاعتبار للشرعية الدولية لولا التقدير الجدي من قبل الولايات المتحدة وفرنسا ودول الغرب عامة، ان استمرار الحرب وهي على مشارف تدحرجها الى حرب اقليمية شاملة ليست حتما في مصلحة الكيان الاسرائيلي ولا هي في مصلحة الغرب عامة. ومن دون أن نسقط من حساباتنا أن التلويح بهذا المشروع الذى مازال لفظيا قد يكون مرة أخرى مجرد خداع دبلوماسي لشراء الوقت و للتغطية على الجرائم الإسرائيلية كما هي في الميدان. وهاهو العمى الإيديولوجي الصهيوني كالعادة جعل نتنياهو يرفض المشروع بعد أن وافق عليه كما قيل، لأنه وقع سجينا لتحالفاته الداخلية و للأهداف الخيالية التي سطرها طيلة حربه العدوانية في غزة ولبنان ، وقد بات يدعي ما هو أكبر ، في أنه سيغير وجهة الشرق الأوسط و موازين قواه، نحو شرق أوسط جديد أمريكي و اسرائيلي الهوى بالمطلق، وعلى غرار ما زعمته سابقته وزيرة الخارجية الأمريكية وقتها في حرب 2006 على لبنان، مشيرة على أنها ستلد شرقا أوسطيا جديدا. وفشلت الحرب و كانت أمريكا وقتها في أوج صعودها الانفرادي. هذه المسألة تحيلنا الى ارتباط المعركة في غزة و فلسطين و لبنان، وبقية جبهات المساندة بتطور الصراع وموازين القوى الدولية و الإقليمية، و هي قضية سنعود اليها في المقالة القادمة، ومع ذلك ينبغي التنويه بأن الاساطيل الحربية الأمريكية في المنطقة و قواعدها التي تعول عليها اسرائيل لا تخيف جبهات المقاومة، وامريكا تعرف جيدا ان تدخلها العسكري لن يكون نزهة متعة سليمة من الخسائر الفادحة، في أجواء حرب صارت فيها الصواريخ والطائرات المسيرة عماد الرد المضاد لجبهة المقاومة. وللخسارة الأمريكية البشرية طعم مر لدى رأيها العام من تجاربها السابقة. لننتظر أخيرا ما سيقع من تناقضات داخلية في اسرائيل وهي تتخبط في مأزقها الاستراتيجي ، وسوف نعود الى الموضوع من زاوية المظهر الثاني للأزمة الذي فجرته معركة طوفان الاقصى أي الازمة الوجودية للكيان الاسرائيليو الأيام والميدان أمامنا.