HakaikPress - حقائق بريس - جريدة الكترونية مستقلة

كيف تَفسُدُ أخلاق مدينة؟


هشام المكي
الثلاثاء 9 يوليوز 2024




حينما يمر شخص مسالم بحي جانبي ويتعرض للسرقة تحت تهديد السلاح الأبيض، فليعلم أن ذلك الاعتداء الذي تعرض له هو مجرد نتيجة لمسلسل طويل من التراجعات الأخلاقية والتنموية التي صنعت ذلك الاعتداء قبل سنوات.. وليس مجرد موقف معزول.. دعوني أوضح لكم كيف يحدث ذلك…



لكن قبل ذلك، أعترف أن الدافع الأساس وراء كتابة هذا المقال، هو خبر افتتاح محل لبيع الخمور في مدينة جرسيف، مسقط رأسي.. وهو الحدث الذي جاء مترابطا مع مقالي السابق في أسبوعية الأيام (عدد 1086) حول تأثير الكثير من القرارات في تغيير قيم المجتمع ونمط عيشه، عنوانه: “كيف تجعل بعض قرارات المؤسسات العمومية حياتنا أسوأ؟”، وهو موجود في موقع “الأيام 24” لمن أراد الاطلاع عليه.



مدينة جرسيف هي إحدى مدن شرق المملكة، تشكلت هويتها بالامتزاج الجميل بين المنازل وبساتين الزيتون والمشمش، والسواقي التي تنساب في كل مكان، تراها حينا وتختفي تحت الأرض أحيانا؛ وبين طيبة الناس وحبهم لمعرفة أخبارك كلها (ورغم ما يعتقده البعض من أنها ظاهرة مزعجة، إلا أنها الوجه الثاني لتماسك المجتمع الجرسيفي وتضامنه)، والأمان الذي كان إلى وقت قريب مفخرة المدينة، وحب أهل جرسيف للخيل والفروسية، والاندماج الجميل بين الوافدين من القبائل المختلفة المحيطة بالمدينة… وأشياء كثيرة تمتزج وتجعل المدينة على ما هي عليه.. فكيف تتغير المدينة؟ وكيف تفسد أخلاقها وأحوالها؟





نشأت في حي شعبي حقيقي، حيث كنا نخرج من بيوتنا لنجد أنفسنا مباشرة في بساتين الزيتون، أو في ظل شجرة أوكاليبتوس عملاقة نجلس على جذورها ونضع أقدامنا في ماء الساقية.. وكان الحي مثالا لحسن الجوار والتكافل، فهو أسرة كبيرة بالمعنى الفعلي للكلمة. والغريب في الأمر، أن أحد منازل الحي كان يبيع الخمور، ولأول مرة وأنا أكتب هذا المقال، أنتبه إلى أن وجود ذلك المنزل، لم يؤثر نهائيا في هوية الحي ولا في أخلاقه.. لسبب واحد أساسي: هو الحياء!





فالزبناء الراغبون في اقتناء الخمر كانوا يتسللون في الغالب من جهة غير مسكونة، عبر أشجار الزيتون ويصلون إلى البيت مباشرة، يأخذون ما يريدون، ويخفونه بخجل ثم يتسللون إلى حال سبيلهم.. وكانت أسرة البائع تحرص على الاندماج في القواعد الضمنية للحي وتحترمها، ولا تخدش حياء الحي ولا براءة أطفاله ولا وقار نسائه بأي ممارسات غير أخلاقية.. فنشأنا على أن الخمور محرمة في ديننا، وعلى أنها مرفوضة أخلاقيا واجتماعيا وعقليا.. وكان خجل شاربيها، واستتار بائعيها ومشتريها يؤكد هذه القاعدة.



الآن، حينما يرخص مسؤول عبقري لمحل بيع الخمور في مدينة صغيرة جدا، تفتقر إلى مشاريع تنموية، وإلى مرافق تحترم كرامة مواطنيها، وإلى فرص عمل تستوعب شبابها، وإلى بنية تحتية أساسية، ولا يوجد بها سياح ولا أجانب، فما الذي يريد فعله بهذه المدينة؟
يفترض أن في المدينة مسؤولين، يحترمون أنفسهم أولا، ويحترمون المواطنين ثانيا، ويعرفون وضع المدينة وما تحتاجه.. ومن العيب ألا يتدخلوا لمنع ذلك.. إذ نعلم جميعا أن الخمور تباع بشكل غير قانوني، والذين يرغبون في اقتنائها يعرفون جيدا، ومنذ سنوات طوال، كيف ومن أين يحصلون عليها؛ فهل هناك حاجة حقيقية لافتتاح محل رسمي لبيع الخمور؟



تضررت المدينة طويلا مما لم يفعله مسؤولوها الذين يخونون ثقة الطيبين الذين يصوتون عليهم في كل موسم انتخابي؛ تضررت المدينة من تقصير هؤلاء واهتمامهم بمراكمة الأراضي وبمشاريعهم المختلفة، وعنادهم في صراعاتهم الحزبية، ومن نسيانهم لواجباتهم ومن سباتهم “المصلحي” طيلة ولاياتهم الانتخابية.. والآن نشهد طفرة في الفشل، حيث لم تعد المدينة تتضرر فقط من عدم القيام بالواجب، بل أصبحت المدينة تتضرر مما يفعله المسؤولون ومما يرتكبونه من أخطاء، خصوصا حينما يتعاملون دون تقدير للعواقب، مع أوراق رسمية لا تحمل تاريخ المدينة ولا ظروفها ولا أحوال سكانها، فيرخصون بناء على وثائق بيروقراطية لمحل خمور سيدمر ما تبقى لهذه المدينة المسكينة من خير ومن قيم..



إن هذا المحل المشؤوم، لا يبيع الخمر فقط، بل يبيع معه تطبيع شباب المدينة وأطفالها مع ظاهرة مضرة ومرفوضة دينيا واجتماعيا وصحيا؛ ويبيع معه نماذج سيئة للاقتداء تجعل المراهقين أكثر جرأة: فالحصول على زجاجة خمر سابقا كان عملية معقدة، نربح معها عدم قدرة المراهقين على اقتنائها، وأيضا ضعف وتيرة الشرب عند المدمنين، أما الآن فباستطاعة أي مجموعة مراهقين صغيرة جمع دريهمات قليلة لاقتناء زجاجة خمر وعيش التجربة!



إن هذا المحل المشؤوم، ومع كل زجاجة خمر تخرج منه، يخرج من المدينة حياؤها، ويفقد السكيرون خجلهم مما يفعلون، فيشاركون بفعلهم في توجيه الشباب والمراهقين نحو تعاطي الخمور؛



إن هذا المحل المشؤوم، يعلم المدمنين كيف يدخلونه ويشترون بوجه مكشوف ودون حياء من الجيران ومن معارفهم، فيقطعون حبل الستر مع الله عز وجل، ويقتلون في قلوبهم ذلك الإحساس الجميل بالذنب، وبأنهم مخطئون وسيتوبون إلى الله يوما ما وستصلح أحوالهم؛
إن هذا المحل المشؤوم، حتما سيضر حتى بزبنائه الأوفياء حينما يُفسد أخلاق أبنائهم، لأنني أعلم يقينا أن أي أحد منهم، مهما عاند وكابر في حديث المقاهي، ففطرته ترفض ما يفعله، وهو يرغب في أن يكون ابنه ناجحا في حياته، ومتفوقا في دراسته، ولا يتعاطى الخمور ولا المخدرات.. لكن وجود هذا المحل سيجر عشرات الأطفال والشباب نحو تعاطي الخمور ويضاعف احتمالات إدمانهم؛



إن هذا المحل المشؤوم، سيحرج أي أب يسأله ابنه: ماذا يبيع هذا المحل؟ أو ماذا يحمل هذا الشخص الخارج من هذا المحل في يده؟ وسيهدم توازن أطفالنا القيمي، وسيجعل مهمة تربيتهم على مكارم الأخلاق أصعب بكثير، وهي صعبة أصلا في هذا الزمان!
الأطفال أذكياء بفطرتهم، وسيكون أول تعليق لهم: الخمر مضر وحرام، فلماذا يسمحون ببيعه؟ ولماذا لا تقبض الشرطة على صاحب المحل وعلى زبنائه؟ أرجو من المسؤول العبقري الذي رخص للمحل بأن يقترح علي جوابا ملائما، يكون مقنعا لطفلي، ولا ينتقص من تقديره لرجال الأمن ومن هيبة الدولة أمامه (ومن هنا تبنى المواطنة والوطنية في قلبه)، ولا يهدم فيه توازنه الأخلاقي والقيمي الذي زرعته في نفسه منذ سنوات.. فبم سأجيبه؟





يعتقد بعض الطيبين من محللي مواقع التواصل الاجتماعي ومتخصصي تعليقات الفيسبوك، أن الأمر لا يضر، فكما أن المساجد موجودة فمحلات بيع الخمور موجودة أيضا، ويبقى للفرد حرية الاختيار؛ وهم مخطئون في ذلك: فأما حرية الاختيار فهي حق للجميع طبعا؛ لكن افتتاح محل واحد لبيع الخمور في مدينة صغيرة مثل جرسيف، هو توجيه سلبي لكل المدينة، وتغيير لهويتها، وعبث بنمط عيشها، حيث سيغير ذلك بشكل عميق قيم المجتمع المحلي وعقليته وعاداته الاجتماعية نحو الأسوأ، وسيضر بالأطفال والنشء على نحو كبير، وينتهك حق الأطفال والقاصرين في طفولة بريئة، وحق الساكنة في مجتمع آمن ومتماسك، ويحفز الظواهر الإجرامية ويشجع على ظهورها وتفاقمها…





إلى مسؤولي المدينة: النموذج التنموي الجديد يوصيكم بتوجيه المستثمرين المحليين نحو المشاريع المنتجة للقيمة، وليس المشاريع المحفزة للتدهور الاجتماعي؛ فالمدينة تحتاج إلى مشاريع تنموية، وبنية تحتية، ومرافق تحترم كرامة المواطنين، وليس إلى محل لبيع الخمور!



إلى صاحب المحل: أخاطب فيك وطنيتك ورجولتك، أنت لا تدير تجارة وإنما تفسد أخلاق مدينة، أتمنى أن تفكر في مشروع آخر تستفيد منه وتستفيد منه المدينة أيضا.

         Partager Partager

تعليق جديد
Twitter

شروط نشر التعليقات بموقع حقائق بريس : مرفوض كليا الإساءة للكاتب أو الصحافي أو للأشخاص أو المؤسسات أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم وكل ما يدخل في سياقها

أخبار | رياضة | ثقافة | حوارات | تحقيقات | آراء | خدمات | افتتاحية | فيديو | اقتصاد | منوعات | الفضاء المفتوح | بيانات | الإدارة و التحرير