نظمت محكمة النقض بمقرها بالرباط يوم الاربعاء 09 اكتوبر 2013 لقاءا تواصليا
تحت شعار " التعاون القضائي: مبادرة، تواصل وشراكة " مع وفود رفيعة المستوى تنتمى لمؤسسات قضائية وحقوقية بتخصصات مختلفة ،وقد افتتح هذا اللقاء التواصلي الهام رئيس محكمة النقض الاستاذ مصطفى فارس بكلمة جاء فيها ما يلي:
يطيب لي في مستهل هذه الكلمة أن أعبر لكم عن سعادتي باستقبالكم والترحيب بكم في بلدكم الثاني المغرب أرض اللقاءات وملتقى الحضارات عبر التاريخ.
ولا شك أن مشاعر الود والاعتزاز بزيارتكم لنا في رحاب هذا الصرح القضائي العتيد محكمة النقض، لا يضاهيها إلا إحساسنا العميق بمسؤوليتنا في تكريس كافة روابط الإخاء والصداقة والتعاون وقيم التضامن والشراكة البناءة وتحقيق التقدم المشترك عبر العالم والتي نعتبرها أيضا خيارا استراتيجيا مضمنا في مقدمة تصدير وثيقتنا الدستورية.
فمرحبا بكم بيننا ضيوفا كراما وزملاء أعزاء وشركاء متميزين من أجل مستقبل أفضل للعدالة ببلداننا.
الحضور الكريم؛
لا يخفى عليكم أن المغرب وعلى امتداد سنوات العشرية الأخيرة من القرن الماضي وضع مخطط إصلاحي كبير وأسس لمشروع مجتمعي مقدام يروم بناء دولة الحق والمؤسسات وتكريس مجتمع الحرية والكرامة والمواطنة والمساواة فانخرط في أوراش تنموية كبرى على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وأوجد آليات لضمان الحقوق والحريات الفردية والجماعية وحرر الفضاء السمعي البصري وانفرد بتجربة عالمية رائدة في إطار العدالة التصالحية من خلال آلية هيئة الإنصاف والمصالحة، كما طور تجربة المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الدستوري وأنشأ محاكم متخصصة للبت في القضايا الإدارية وأخرى للقضايا التجارية وأقساما خاصة بالقضاء الأسري وبجرائم الفساد المالي والكل مع تحديث ترسانته القانونية وشفافية معاملته المالية وتأهيل عنصره البشري وتطوير إمكاناته اللوجيستيكية.
وكانت سنة 2011، سنة حاسمة في تاريخ المؤسسات ببلادنا من خلال تصويت المغاربة بالموافقة على دستور يوليوز 2011 الذي قاده صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله حيث جاء في إطار مقاربة تشاركية ساهمت فيها كل القوى السياسية والفعاليات الحقوقية والمجتمع المدني وأكد فيه المغاربة مستوى النضج الذي وصلوا إليه بعد سنوات من التراكمات على مستوى الإصلاحات السياسية والاجتماعية والثقافية والحقوقية.
هذا الدستور الذي يعد من الأجيال الجديدة التي تعرف بدساتير الحقوق حيث تضمن حوالي 150 حقا، وأحاطها بضمانات مؤسساتية متعددة مرتقيا بالقضاء إلى سلطة مستقلة بآليات مختلفة وتفاصيل دقيقة تؤكد على محورية هذه السلطة في حماية هذه الحقوق والحريات ودورها في التطبيق العادل للقانون وإصدار الأحكام داخل آجال معقولة في ظل حكامة عادلة تعزز المساواة وتقر المناصفة وتؤدي إلى تخليق الحياة العامة عن طريق ربط المسؤولية بالمحاسبة والسهر على إلزام الجميع أفرادا ومؤسسات باحترام الأحكام القضائية وتنفيذها.
وأمام هذا الحدث الهام وهذه المتغيرات المجتمعية والحقوقية كان من اللازم على العدالة ببلادنا أن تتجاوب مع مغرب الألفية الثالثة بخياراته التنموية وحمولاته الحقوقية الكبرى والتزاماته الدولية المتعددة، فارتأى النظر السديد لصاحب الجلالة الملك محمد السادس تنصيب هيئة عليا بتركيبة متنوعة ومتميزة سهرت على إدارة وتسيير أشغال حوار وطني دام أكثر من سنة بمحاور محددة وجزئيات دقيقة ساهمت في مناقشتها وإغنائها جميع مكونات أسرة العدالة وكذا فعاليات المجتمع المدني والحقوقي وخبراء قانونيون وفقهاء ومتخصصون في علم النفس والاجتماع إضافة إلى خبرات دولية لنخلص في الأخير وبعد نقاش معمق مستفيض إلى توحيد رؤانا في إطار ميثاق وطني لإصلاح العدالة تم الإعلان عن تفاصيله وإجراءات تنفيذه وجدولته الزمنية شهر شتنبر الماضي.
الحضور الكريم؛
سيتضح لكم من خلال هذه الإطلالة الموجزة أن المغرب اختار التقدم نحو المستقبل بهمة عالية مستلهما من رصيده التاريخي وأقدامه على أرضية حاضر قوي متوازن في إطار مقاربة تشاركية مندمجة يتحمل فيها الجميع مسؤوليته الوطنية بضمير وإخلاص على اعتبار أن العدالة ورش مجتمعي عام.
ولا شك أن اختياركم لبلدنا كي يحتضن أشغال برامجكم التكوينية المتميزة جاء منسجما مع هذا المشروع الإصلاحي العميق والشامل لمنظومة العدالة ببلادنا وسيكون بالتأكيد قيمة مضافة لا يمكننا إلا أن ننوه بها على استعدادنا التام ونشدد على أهمية استمرارها ومؤكدين لكم لتوفير كافة الشروط لإنجاحها وغيرها من مثل هذه اللقاءات العلمية والعملية الهامة
خاصة إن السياسة القضائية لمحكمة النقض في السنوات الأخيرة أصبحت ترتكز بالخصوص على أربعة محاور أساسية وهي تطوير آليات الحكامة القضائية من أجل نزع الصفة المادية على جميع الأعمال والمستندات والسجلات الخاصة بالإدارة القضائية، وضمان الانسجام القضائي وتأمين الجودة من خلال عدة آليات مندمجة وفق خطة إستراتيجية واضحة سيتم التعرض لتفاصيلها فيما بعد، كما جعلنا من خيار التواصل والانفتاح منهجا لإعادة الثقة والمساهمة في الحراك القانوني والقضائي والحقوقي بكل فعالية وجدية سواء دوليا أو وطنيا وهي كلها تندرج ضمن المحاور التي تشتغلون عليها وتعملون على ترقيتها وأكتفي هنا بالإشارة إلى أننا كنا سباقين إلى خلق مؤسسة قاضي مكلف بالتواصل وبادرنا - في حدث لقي استحسانا كبيرا – إلى توفير تكوين قانوني عبر دورتين لفائدة ممثلي عدد كبير من وسائل الإعلام على اختلاف دعامتها ( سمعية، بصرية، ورقية والكترونية عمومية وخاصة) وهو ما أصبح يشكل فضاءً للتواصل والإنصات ومدخلا لتفعيل الحق في المعلومة المنصوص عليه دستوريا ونحن مقبلون بإذن الله على الدورة التكوينية الثالثة كما أننا الآن في المراحل المتقدمة لإطلاق قناة خاصة بمحكمة النقض على مستوى شبكة الانترنت بهدف إخباري توعوي تواصلي مع كافة الفعاليات وشرائح المجتمع.
هذه المبادرات والمشاريع كلها نعتقد بضرورة الاشتغال على تطويرها والاستفادة من تجاربنا المشتركة بخصوصها.
الحضور الكريم؛
أتمنى لكم مقاما طيبا ببلدكم المغرب وأن تحفكم مشاعر الأخوة وتلقائية الضيافة المغربية.
هذا البلد الذي كان مهوى أفئدة عدد كبير من العلماء والأدباء والفنانين عبر العالم كالأديب الأمريكي الشهير بول بولز Paul BAWLS الذي سكن بمدينة طنجة منذ أن زارها سنة 1931 إلى أن توفي بها سنة 1999 وترك لنا فيها مؤلفاته الرائعة مثل " Thé au sahara " و "السماء الواقية"، وهو نفس العشق الذي جعل المخرج الأمريكي المشهور أورسن ويلز ليشارك باسم المغرب في مهرجان كان السنيمائي سنة 1952 بفيلمه الشهير عطيل (Othelo) الذي تم تصويره بمدينة الصويرة.
هي إذن العلاقات الإنسانية الصادقة والتعاون الجاد الذي جعل الأعمال الكبرى الخالدة عبر الأجيال وهو ما نسعى إليه جميعا من خلال لقاءات كهاته.
دعائي لكم بالتوفيق والنجاح والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وفي مداخلة للاستاذ محمد الخضراوي:استقلال السلطة القضائية جاء ما يلي:
على غرار باقي الدول الديمقراطية يعتبر «استقلال السلطة القضائية» وتطوير آلياتها وتحديد أهدافها وتقوية ميكانزمات اشتغالها من أكثر المواضيع راهنية في المغرب والتي حظيت باهتمام كبير سواء على مستويات مؤسسات الدولة أو باقي فعاليات المجتمع المدني من خلال فتح نقاش عمومي جاد بشأنها ساهم فيه جميع المتدخلين والمهتمين بشأن العدالة. مما يجعلنا بكل موضوعية نعتبره «رهــان أمـة».
وتقتضي الأمانة والنزاهة الفكرية توثيق حقيقة تاريخية مقتضاها أن المؤسسة الملكية في المغرب ومنذ الاستقلال بادرت باستمرار وبعزم أكيد إلى بناء قضاء مقتدر فعال نزيه ومستقل، قضاء مواطن يلبي انتظارات المجتمع ويتوج الجهود التنموية التي تسير فيها بلادنا بخطى ثابتة على أساس التحديث المؤسسي والديمقراطي. ويبقى تاريخ 20 غشت 2009 علامة فارقة في مجال العدالة المغربية بعدما أدخل الخطاب الملكي السامي بمناسبة ثورة الملك والشعب موضوع الإصلاح الشمولي والعميق للقضاء إلى مرحلة جديدة بتدقيقات مفصلة.
مرحلة دخلت بمسار الإصلاح إلى مرحلة التفعيل الميداني والانتهاء من مرحلة التشخيص والتشاور والتنظير وذلك عبر تحديد ستة مجالات ذات أولوية وبمنظور جديد يضع قطيعة مع التراكمات السلبية للمقاربات الأحادية والجزئية، وبإنجاز المطلوب في الأجل المنتظر.
وقد وضع موضوع دعم ضمانات استقلال القضاء على رأس هذه المجالات الست ذات الأسبقية التي يجب الاشتغال عليها باعتبارها هي المحور المركزي للإصلاح والتي كانت قطب الرحى في التعديلات الدستورية الأخيرة لسنة 2011.
فكيف إذن يمكن مقاربة موضوع استقلال القضاء في المغرب؟ وما هي محتوياته النظرية؟
المحور الأول : ما هو المحتوى النظري لاستقلال القضاء من خلال التجربة المغربية؟
إن محاولة الإجابة على هذا التساؤل الكبير تقتضي الوقوف على بعض المنطلقات الأولية قبل الخوض في شروط ومحاور الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة:
منطلقات أولية مؤطرة للموضوع
أولا- في إطار الثوابت المرجعية للمملكة فإن القضاء وإقامة العدل تعد من وظائف الإمامة، والملك بصفته أمير المؤمنين هو الضامن دستوريا لاستقلال القضاء. (الفصل 107 من الدستور المغربي الجديد).
ومن هذا المنطلق فقد عبرت الإرادة الملكية السامية بشكل واضح من خلال العديد من الخطب الرسمية عن الخيار الاستراتيجي الذي لا مجال للتراجع عنه ألا وهو إصلاح القضاء ضمانا لحرمته ولجعل أحكامه تستهدف الإنصاف في إطار من الاستقلال عن كل أشكال الضغوط المادية والمعنوية، وباعتبار مبدأ استقلال القضاء قاعدة ديموقراطية لكفالة حسن سير العدالة وسيادة القانون ومساواة الجميع أمامه في جميع الظروف والأحوال .
ثانيا- رغم وجود العديد من المواثيق والإعلانات والنصوص العالمية والقارية والجهوية المرتبطة باستقلال القضاء التي صادق المغرب على البعض منها، فإنه ليس هناك مفهوم واحد لاستقلال السلطة القضائية في التجارب العالمية، حيث تختلف التسميات والتطبيقات والآليات والضمانات من دولة لأخرى حتى بالنسبة لتلك المنتمية لنفس المنظومة القانونية (اللاتينية، الجرمانية، الأنجلو ساكسونية، الاسكندنافية...)، وبالتالي فإننا مطالبين بأن نضع تصورنا الخاص بعناصر هذا الورش وآليات تطبيقه بما يتلاءم والثوابت المرجعية للمملكة وذلك قصد تطوير نموذجنا الديموقراطي التنموي المتميز كما جاء في الخطاب الملكي يوم 10 مارس 2011 بمناسبة تنصيب اللجنة الاستشارية المكلفة بإعداد مشروع الدستور..
ثالثا- إذا كان التقسيم الكلاسيكي للسلط يرتب السلطة القضائية في المرتبة الثالثة فذلك ليس لأنها أقلهم درجة ولكن لأنها أقل خطرا في باب التعسف في استعمال السلطة لأن هدفها ليس القيادة وإنما المراقبة والتدقيق والتطبيق العادل للقانون.
«Elle n’est pas une force mais un frein«
ومن ثم فإن المطلوب هو إيجاد الآليات التي تكفل فصل وتوازن وتعاون بين السلط (الفصل يتضمن الاستقلال والتوازن يستتبع وضع الحدود ويجنب الانحراف والتعاون يقصي المواجهة) وهو ماقرره الدستور المغربي الجديد في فصله الأول حيث جاء فيه: "يقوم النظام الدستوري بالمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها والديموقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة".
رابعا- البحث عن توطيد أسس استقلال القضاء واستقلالية القضاة في أبعاده المختلفة هو ليس بحثا عن امتياز للسلطة القضائية وإنما هو حق للمواطن في المقام الأول، وهدفه الحفاظ على ثقة الأفراد في المؤسسة وهو ما تسعى إليه العديد من التجارب القضائية العالمية.
ويبدو أن المشرع الدستوري كان واضعا نصب عينيه هذا المعطى حيث أنه بعد ما أسس في المحور الأول لاستقلال القضاء ثم تناول في المحور الثاني مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية برئاسة صاحب الجلالة باعتباره الضامن لهذا الاستقلال فإنه في المحور الثالث تناول حقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة وكأنه يريد أن يؤكد بأن هذا الاستقلال وهذه المؤسسة الدستورية ليسا إلا وسيلة لضمان حق المواطن في المحاكمة العادلة.
شروط عامة أساسية للارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة
من المتفق عليه من خلال تراكم التجارب الدستورية والتشريعية والقضائية والرصيد الكبير للاتفاقيات والإعلانات والمواثيق الدولية والقارية والإقليمية والجهوية أن هناك قواسم وشروط مشتركة لابد منها للارتقاء بالقضاء كسلطة وهي :
مناخ سياسي ديموقراطي حر
حركة قانونية شاملة تبدأ من القوانين التأسيسية وتصل إلى كل ما له علاقة بالنظام القانوني (قوانين، مراسيم، مناشير، قرارات...).
ممارسة عملية ملموسة تقر بأن السلطة القضائية ليست فرعا من أصل وإنما هي أصل قائم بذاته، مع ما يرتبط بذلك من إشراك مختلف الفاعلين في قطاع العدالة في إنجاح هذا الورش الإصلاحي الشمولي.
محاور الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة
إن الحديث عن استقلال القضاء هو في عمقه طرح لسؤال أولي بسيط :
"من يملك اليوم السلطة أو القدرة على التأثير على القضاء والقضاة؟ "
وعناصر الجواب عليه يمكن استخلاصها من الرسالة الملكية الموجهة لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء (أبريل 2004) والتي حددها في الجهات التالية:
• السلطة التنفيذية.
• السلطة التشريعية.
• باقي السلط الشديدة الإغواء ومنها :
سلطة المال المغرية بالارتشاء
سلطة النفس الأمارة بالسوء
سلطة الإعلام.
وبالتالي أية مقاربة حقيقية وشمولية وعميقة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار هذه الجهات المؤثرة التي يمكن أن نضيف إليها أيضا التأثيرات الصادرة من داخل الجهاز القضائي نفسه.
ولابد من التذكير هنا بأننا تجاوزنا مرحلة التشخيص منذ مدة غير يسيرة، وذلك بعدما أفرزت الساحة القانونية والحقوقية والإعلامية عدة انتقادات صادرة عن جهات ومؤسسات وطنية مختلفة (مؤسسات رسمية، مهنية، مجتمع مدني، أحزاب، سياسية...) اتفقت كلها حول وجود عراقيل قانونية وواقعية تمس باستقلال القضاء بالمغرب نوجزها – دون الدخول في الجزئيات – في عنوانين أساسيين :
-النصوص الدستورية (السابقة) كانت غير كافية وتفتح ثغرات واسعة للمساس باستقلال القضاء.
-الهيمنة القانونية للسلطة التنفيذية في شخص مؤسسة وزير العدل على القضاء ومؤسساته (المجلس الأعلى للقضاء / المحاكم / السياسة الجنائية، المعهد العالي للقضاء...).
الضمانات الدستورية الحالية لتعزيز استقلال السلطة القضائية
لقد سمحت المقاربة التشاركية التي اعتمدها المغرب كسياسة عليا، ومساهمة كافة الفاعلين في الشأن القضائي والتراكمات المعرفية التي أنتجتها هيئات المجتمع المدني والإعلام والأحزاب السياسية والهيئات الحقوقية الوطنية، إلى انبثاق وثيقة دستورية أسست لسلطة قضائية مستقلة بضمانات وآليات متعددة وفلسفة جديدة يمكن الوقوف على بعض ملامحها كالآتي :
أولا- خصص المشرع الدستوري في بابه السابع ستة فصول كاملة تتعلق باستقلال القضاء (المواد من 107 إلى 112) أكد فيها من جهة خصوصية التجربة المغربية وراعى فيها من جهة أخرى المبادئ الأساسية المتعارف عليها عالميا في مجال استقلال القضاء، فنص على أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية وان الملك هو الضامن لهذا الاستقلال، ومنع بشكل صارم التدخل أو التأثير على القضاة بشان مهمتهم القضائية أو إعطائهم أي تعليمات أو أوامر أو إخضاعهم لأي ضغط وأدخل كل ذلك ضمن دائرة التجريم، ملزما القضاة بالدفاع عن استقلالهم من خلال التبليغ عن كل ما يهدد هذا الاستقلال تحت طائلة اعتبار التهاون في هذا الأمر خطأ مهنيا جسيما.
كما أكد أن قضاة الحكم لا يعزلون ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون ولا يلزمون إلا بتطبيقه، كما خول لقضاة النيابة العامة الحق في عدم الالتزام إلا بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها، ومكن القضاة من حقهم في حرية التعبير والانتماء إلى الجمعيات وإنشاء جمعيات مهنية في إطار احترام القيم والأخلاقيات القضائية.
ثانيا- أسس الدستور الجديد لمجلس أعلى للسلطة القضائية يرأسه الملك بتركيبة موسعة تشمل قضاة منتخبين من طرف زملائهم وآخرين معينين بقوة القانون مع ضمان تمثيلية نسوية، وأعضاء آخرين خارج قطاع القضاء من الشخصيات المشهود لهم بالكفاءة والتجرد والنزاهة والعطاء المتميز في سبيل استقلال القضاء وسيادة القانون. مما يؤكد بالفعل أن القضاء شأن مجتمعي عام يشتغل بما تقتضيه آليات الحكامة القضائية من شفافية ونزاهة ووضوح.
كما لم يعد لوزير العدل أي صفة داخل هذه المؤسسة الدستورية التي جعل من مهامها السهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة ولا سيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم وجعل قراراتها المتعلق بالوضعية الفردية قابلة للطعن بسبب الشطط في استعمال السلطة أمام أعلى هيئة قضائية بالمملكة.
ولا شك أن هذه المقتضيات الدستورية الهامة ستشكل إطارا مؤسسيا هاما لتفعيل حقيقي لمفهوم استقلال القضاء وحلقة أساسية ضمن مسلسل إصلاح السلطة القضائية.
تحت شعار " التعاون القضائي: مبادرة، تواصل وشراكة " مع وفود رفيعة المستوى تنتمى لمؤسسات قضائية وحقوقية بتخصصات مختلفة ،وقد افتتح هذا اللقاء التواصلي الهام رئيس محكمة النقض الاستاذ مصطفى فارس بكلمة جاء فيها ما يلي:
يطيب لي في مستهل هذه الكلمة أن أعبر لكم عن سعادتي باستقبالكم والترحيب بكم في بلدكم الثاني المغرب أرض اللقاءات وملتقى الحضارات عبر التاريخ.
ولا شك أن مشاعر الود والاعتزاز بزيارتكم لنا في رحاب هذا الصرح القضائي العتيد محكمة النقض، لا يضاهيها إلا إحساسنا العميق بمسؤوليتنا في تكريس كافة روابط الإخاء والصداقة والتعاون وقيم التضامن والشراكة البناءة وتحقيق التقدم المشترك عبر العالم والتي نعتبرها أيضا خيارا استراتيجيا مضمنا في مقدمة تصدير وثيقتنا الدستورية.
فمرحبا بكم بيننا ضيوفا كراما وزملاء أعزاء وشركاء متميزين من أجل مستقبل أفضل للعدالة ببلداننا.
الحضور الكريم؛
لا يخفى عليكم أن المغرب وعلى امتداد سنوات العشرية الأخيرة من القرن الماضي وضع مخطط إصلاحي كبير وأسس لمشروع مجتمعي مقدام يروم بناء دولة الحق والمؤسسات وتكريس مجتمع الحرية والكرامة والمواطنة والمساواة فانخرط في أوراش تنموية كبرى على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وأوجد آليات لضمان الحقوق والحريات الفردية والجماعية وحرر الفضاء السمعي البصري وانفرد بتجربة عالمية رائدة في إطار العدالة التصالحية من خلال آلية هيئة الإنصاف والمصالحة، كما طور تجربة المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الدستوري وأنشأ محاكم متخصصة للبت في القضايا الإدارية وأخرى للقضايا التجارية وأقساما خاصة بالقضاء الأسري وبجرائم الفساد المالي والكل مع تحديث ترسانته القانونية وشفافية معاملته المالية وتأهيل عنصره البشري وتطوير إمكاناته اللوجيستيكية.
وكانت سنة 2011، سنة حاسمة في تاريخ المؤسسات ببلادنا من خلال تصويت المغاربة بالموافقة على دستور يوليوز 2011 الذي قاده صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله حيث جاء في إطار مقاربة تشاركية ساهمت فيها كل القوى السياسية والفعاليات الحقوقية والمجتمع المدني وأكد فيه المغاربة مستوى النضج الذي وصلوا إليه بعد سنوات من التراكمات على مستوى الإصلاحات السياسية والاجتماعية والثقافية والحقوقية.
هذا الدستور الذي يعد من الأجيال الجديدة التي تعرف بدساتير الحقوق حيث تضمن حوالي 150 حقا، وأحاطها بضمانات مؤسساتية متعددة مرتقيا بالقضاء إلى سلطة مستقلة بآليات مختلفة وتفاصيل دقيقة تؤكد على محورية هذه السلطة في حماية هذه الحقوق والحريات ودورها في التطبيق العادل للقانون وإصدار الأحكام داخل آجال معقولة في ظل حكامة عادلة تعزز المساواة وتقر المناصفة وتؤدي إلى تخليق الحياة العامة عن طريق ربط المسؤولية بالمحاسبة والسهر على إلزام الجميع أفرادا ومؤسسات باحترام الأحكام القضائية وتنفيذها.
وأمام هذا الحدث الهام وهذه المتغيرات المجتمعية والحقوقية كان من اللازم على العدالة ببلادنا أن تتجاوب مع مغرب الألفية الثالثة بخياراته التنموية وحمولاته الحقوقية الكبرى والتزاماته الدولية المتعددة، فارتأى النظر السديد لصاحب الجلالة الملك محمد السادس تنصيب هيئة عليا بتركيبة متنوعة ومتميزة سهرت على إدارة وتسيير أشغال حوار وطني دام أكثر من سنة بمحاور محددة وجزئيات دقيقة ساهمت في مناقشتها وإغنائها جميع مكونات أسرة العدالة وكذا فعاليات المجتمع المدني والحقوقي وخبراء قانونيون وفقهاء ومتخصصون في علم النفس والاجتماع إضافة إلى خبرات دولية لنخلص في الأخير وبعد نقاش معمق مستفيض إلى توحيد رؤانا في إطار ميثاق وطني لإصلاح العدالة تم الإعلان عن تفاصيله وإجراءات تنفيذه وجدولته الزمنية شهر شتنبر الماضي.
الحضور الكريم؛
سيتضح لكم من خلال هذه الإطلالة الموجزة أن المغرب اختار التقدم نحو المستقبل بهمة عالية مستلهما من رصيده التاريخي وأقدامه على أرضية حاضر قوي متوازن في إطار مقاربة تشاركية مندمجة يتحمل فيها الجميع مسؤوليته الوطنية بضمير وإخلاص على اعتبار أن العدالة ورش مجتمعي عام.
ولا شك أن اختياركم لبلدنا كي يحتضن أشغال برامجكم التكوينية المتميزة جاء منسجما مع هذا المشروع الإصلاحي العميق والشامل لمنظومة العدالة ببلادنا وسيكون بالتأكيد قيمة مضافة لا يمكننا إلا أن ننوه بها على استعدادنا التام ونشدد على أهمية استمرارها ومؤكدين لكم لتوفير كافة الشروط لإنجاحها وغيرها من مثل هذه اللقاءات العلمية والعملية الهامة
خاصة إن السياسة القضائية لمحكمة النقض في السنوات الأخيرة أصبحت ترتكز بالخصوص على أربعة محاور أساسية وهي تطوير آليات الحكامة القضائية من أجل نزع الصفة المادية على جميع الأعمال والمستندات والسجلات الخاصة بالإدارة القضائية، وضمان الانسجام القضائي وتأمين الجودة من خلال عدة آليات مندمجة وفق خطة إستراتيجية واضحة سيتم التعرض لتفاصيلها فيما بعد، كما جعلنا من خيار التواصل والانفتاح منهجا لإعادة الثقة والمساهمة في الحراك القانوني والقضائي والحقوقي بكل فعالية وجدية سواء دوليا أو وطنيا وهي كلها تندرج ضمن المحاور التي تشتغلون عليها وتعملون على ترقيتها وأكتفي هنا بالإشارة إلى أننا كنا سباقين إلى خلق مؤسسة قاضي مكلف بالتواصل وبادرنا - في حدث لقي استحسانا كبيرا – إلى توفير تكوين قانوني عبر دورتين لفائدة ممثلي عدد كبير من وسائل الإعلام على اختلاف دعامتها ( سمعية، بصرية، ورقية والكترونية عمومية وخاصة) وهو ما أصبح يشكل فضاءً للتواصل والإنصات ومدخلا لتفعيل الحق في المعلومة المنصوص عليه دستوريا ونحن مقبلون بإذن الله على الدورة التكوينية الثالثة كما أننا الآن في المراحل المتقدمة لإطلاق قناة خاصة بمحكمة النقض على مستوى شبكة الانترنت بهدف إخباري توعوي تواصلي مع كافة الفعاليات وشرائح المجتمع.
هذه المبادرات والمشاريع كلها نعتقد بضرورة الاشتغال على تطويرها والاستفادة من تجاربنا المشتركة بخصوصها.
الحضور الكريم؛
أتمنى لكم مقاما طيبا ببلدكم المغرب وأن تحفكم مشاعر الأخوة وتلقائية الضيافة المغربية.
هذا البلد الذي كان مهوى أفئدة عدد كبير من العلماء والأدباء والفنانين عبر العالم كالأديب الأمريكي الشهير بول بولز Paul BAWLS الذي سكن بمدينة طنجة منذ أن زارها سنة 1931 إلى أن توفي بها سنة 1999 وترك لنا فيها مؤلفاته الرائعة مثل " Thé au sahara " و "السماء الواقية"، وهو نفس العشق الذي جعل المخرج الأمريكي المشهور أورسن ويلز ليشارك باسم المغرب في مهرجان كان السنيمائي سنة 1952 بفيلمه الشهير عطيل (Othelo) الذي تم تصويره بمدينة الصويرة.
هي إذن العلاقات الإنسانية الصادقة والتعاون الجاد الذي جعل الأعمال الكبرى الخالدة عبر الأجيال وهو ما نسعى إليه جميعا من خلال لقاءات كهاته.
دعائي لكم بالتوفيق والنجاح والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وفي مداخلة للاستاذ محمد الخضراوي:استقلال السلطة القضائية جاء ما يلي:
على غرار باقي الدول الديمقراطية يعتبر «استقلال السلطة القضائية» وتطوير آلياتها وتحديد أهدافها وتقوية ميكانزمات اشتغالها من أكثر المواضيع راهنية في المغرب والتي حظيت باهتمام كبير سواء على مستويات مؤسسات الدولة أو باقي فعاليات المجتمع المدني من خلال فتح نقاش عمومي جاد بشأنها ساهم فيه جميع المتدخلين والمهتمين بشأن العدالة. مما يجعلنا بكل موضوعية نعتبره «رهــان أمـة».
وتقتضي الأمانة والنزاهة الفكرية توثيق حقيقة تاريخية مقتضاها أن المؤسسة الملكية في المغرب ومنذ الاستقلال بادرت باستمرار وبعزم أكيد إلى بناء قضاء مقتدر فعال نزيه ومستقل، قضاء مواطن يلبي انتظارات المجتمع ويتوج الجهود التنموية التي تسير فيها بلادنا بخطى ثابتة على أساس التحديث المؤسسي والديمقراطي. ويبقى تاريخ 20 غشت 2009 علامة فارقة في مجال العدالة المغربية بعدما أدخل الخطاب الملكي السامي بمناسبة ثورة الملك والشعب موضوع الإصلاح الشمولي والعميق للقضاء إلى مرحلة جديدة بتدقيقات مفصلة.
مرحلة دخلت بمسار الإصلاح إلى مرحلة التفعيل الميداني والانتهاء من مرحلة التشخيص والتشاور والتنظير وذلك عبر تحديد ستة مجالات ذات أولوية وبمنظور جديد يضع قطيعة مع التراكمات السلبية للمقاربات الأحادية والجزئية، وبإنجاز المطلوب في الأجل المنتظر.
وقد وضع موضوع دعم ضمانات استقلال القضاء على رأس هذه المجالات الست ذات الأسبقية التي يجب الاشتغال عليها باعتبارها هي المحور المركزي للإصلاح والتي كانت قطب الرحى في التعديلات الدستورية الأخيرة لسنة 2011.
فكيف إذن يمكن مقاربة موضوع استقلال القضاء في المغرب؟ وما هي محتوياته النظرية؟
المحور الأول : ما هو المحتوى النظري لاستقلال القضاء من خلال التجربة المغربية؟
إن محاولة الإجابة على هذا التساؤل الكبير تقتضي الوقوف على بعض المنطلقات الأولية قبل الخوض في شروط ومحاور الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة:
منطلقات أولية مؤطرة للموضوع
أولا- في إطار الثوابت المرجعية للمملكة فإن القضاء وإقامة العدل تعد من وظائف الإمامة، والملك بصفته أمير المؤمنين هو الضامن دستوريا لاستقلال القضاء. (الفصل 107 من الدستور المغربي الجديد).
ومن هذا المنطلق فقد عبرت الإرادة الملكية السامية بشكل واضح من خلال العديد من الخطب الرسمية عن الخيار الاستراتيجي الذي لا مجال للتراجع عنه ألا وهو إصلاح القضاء ضمانا لحرمته ولجعل أحكامه تستهدف الإنصاف في إطار من الاستقلال عن كل أشكال الضغوط المادية والمعنوية، وباعتبار مبدأ استقلال القضاء قاعدة ديموقراطية لكفالة حسن سير العدالة وسيادة القانون ومساواة الجميع أمامه في جميع الظروف والأحوال .
ثانيا- رغم وجود العديد من المواثيق والإعلانات والنصوص العالمية والقارية والجهوية المرتبطة باستقلال القضاء التي صادق المغرب على البعض منها، فإنه ليس هناك مفهوم واحد لاستقلال السلطة القضائية في التجارب العالمية، حيث تختلف التسميات والتطبيقات والآليات والضمانات من دولة لأخرى حتى بالنسبة لتلك المنتمية لنفس المنظومة القانونية (اللاتينية، الجرمانية، الأنجلو ساكسونية، الاسكندنافية...)، وبالتالي فإننا مطالبين بأن نضع تصورنا الخاص بعناصر هذا الورش وآليات تطبيقه بما يتلاءم والثوابت المرجعية للمملكة وذلك قصد تطوير نموذجنا الديموقراطي التنموي المتميز كما جاء في الخطاب الملكي يوم 10 مارس 2011 بمناسبة تنصيب اللجنة الاستشارية المكلفة بإعداد مشروع الدستور..
ثالثا- إذا كان التقسيم الكلاسيكي للسلط يرتب السلطة القضائية في المرتبة الثالثة فذلك ليس لأنها أقلهم درجة ولكن لأنها أقل خطرا في باب التعسف في استعمال السلطة لأن هدفها ليس القيادة وإنما المراقبة والتدقيق والتطبيق العادل للقانون.
«Elle n’est pas une force mais un frein«
ومن ثم فإن المطلوب هو إيجاد الآليات التي تكفل فصل وتوازن وتعاون بين السلط (الفصل يتضمن الاستقلال والتوازن يستتبع وضع الحدود ويجنب الانحراف والتعاون يقصي المواجهة) وهو ماقرره الدستور المغربي الجديد في فصله الأول حيث جاء فيه: "يقوم النظام الدستوري بالمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها والديموقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة".
رابعا- البحث عن توطيد أسس استقلال القضاء واستقلالية القضاة في أبعاده المختلفة هو ليس بحثا عن امتياز للسلطة القضائية وإنما هو حق للمواطن في المقام الأول، وهدفه الحفاظ على ثقة الأفراد في المؤسسة وهو ما تسعى إليه العديد من التجارب القضائية العالمية.
ويبدو أن المشرع الدستوري كان واضعا نصب عينيه هذا المعطى حيث أنه بعد ما أسس في المحور الأول لاستقلال القضاء ثم تناول في المحور الثاني مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية برئاسة صاحب الجلالة باعتباره الضامن لهذا الاستقلال فإنه في المحور الثالث تناول حقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة وكأنه يريد أن يؤكد بأن هذا الاستقلال وهذه المؤسسة الدستورية ليسا إلا وسيلة لضمان حق المواطن في المحاكمة العادلة.
شروط عامة أساسية للارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة
من المتفق عليه من خلال تراكم التجارب الدستورية والتشريعية والقضائية والرصيد الكبير للاتفاقيات والإعلانات والمواثيق الدولية والقارية والإقليمية والجهوية أن هناك قواسم وشروط مشتركة لابد منها للارتقاء بالقضاء كسلطة وهي :
مناخ سياسي ديموقراطي حر
حركة قانونية شاملة تبدأ من القوانين التأسيسية وتصل إلى كل ما له علاقة بالنظام القانوني (قوانين، مراسيم، مناشير، قرارات...).
ممارسة عملية ملموسة تقر بأن السلطة القضائية ليست فرعا من أصل وإنما هي أصل قائم بذاته، مع ما يرتبط بذلك من إشراك مختلف الفاعلين في قطاع العدالة في إنجاح هذا الورش الإصلاحي الشمولي.
محاور الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة
إن الحديث عن استقلال القضاء هو في عمقه طرح لسؤال أولي بسيط :
"من يملك اليوم السلطة أو القدرة على التأثير على القضاء والقضاة؟ "
وعناصر الجواب عليه يمكن استخلاصها من الرسالة الملكية الموجهة لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء (أبريل 2004) والتي حددها في الجهات التالية:
• السلطة التنفيذية.
• السلطة التشريعية.
• باقي السلط الشديدة الإغواء ومنها :
سلطة المال المغرية بالارتشاء
سلطة النفس الأمارة بالسوء
سلطة الإعلام.
وبالتالي أية مقاربة حقيقية وشمولية وعميقة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار هذه الجهات المؤثرة التي يمكن أن نضيف إليها أيضا التأثيرات الصادرة من داخل الجهاز القضائي نفسه.
ولابد من التذكير هنا بأننا تجاوزنا مرحلة التشخيص منذ مدة غير يسيرة، وذلك بعدما أفرزت الساحة القانونية والحقوقية والإعلامية عدة انتقادات صادرة عن جهات ومؤسسات وطنية مختلفة (مؤسسات رسمية، مهنية، مجتمع مدني، أحزاب، سياسية...) اتفقت كلها حول وجود عراقيل قانونية وواقعية تمس باستقلال القضاء بالمغرب نوجزها – دون الدخول في الجزئيات – في عنوانين أساسيين :
-النصوص الدستورية (السابقة) كانت غير كافية وتفتح ثغرات واسعة للمساس باستقلال القضاء.
-الهيمنة القانونية للسلطة التنفيذية في شخص مؤسسة وزير العدل على القضاء ومؤسساته (المجلس الأعلى للقضاء / المحاكم / السياسة الجنائية، المعهد العالي للقضاء...).
الضمانات الدستورية الحالية لتعزيز استقلال السلطة القضائية
لقد سمحت المقاربة التشاركية التي اعتمدها المغرب كسياسة عليا، ومساهمة كافة الفاعلين في الشأن القضائي والتراكمات المعرفية التي أنتجتها هيئات المجتمع المدني والإعلام والأحزاب السياسية والهيئات الحقوقية الوطنية، إلى انبثاق وثيقة دستورية أسست لسلطة قضائية مستقلة بضمانات وآليات متعددة وفلسفة جديدة يمكن الوقوف على بعض ملامحها كالآتي :
أولا- خصص المشرع الدستوري في بابه السابع ستة فصول كاملة تتعلق باستقلال القضاء (المواد من 107 إلى 112) أكد فيها من جهة خصوصية التجربة المغربية وراعى فيها من جهة أخرى المبادئ الأساسية المتعارف عليها عالميا في مجال استقلال القضاء، فنص على أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية وان الملك هو الضامن لهذا الاستقلال، ومنع بشكل صارم التدخل أو التأثير على القضاة بشان مهمتهم القضائية أو إعطائهم أي تعليمات أو أوامر أو إخضاعهم لأي ضغط وأدخل كل ذلك ضمن دائرة التجريم، ملزما القضاة بالدفاع عن استقلالهم من خلال التبليغ عن كل ما يهدد هذا الاستقلال تحت طائلة اعتبار التهاون في هذا الأمر خطأ مهنيا جسيما.
كما أكد أن قضاة الحكم لا يعزلون ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون ولا يلزمون إلا بتطبيقه، كما خول لقضاة النيابة العامة الحق في عدم الالتزام إلا بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها، ومكن القضاة من حقهم في حرية التعبير والانتماء إلى الجمعيات وإنشاء جمعيات مهنية في إطار احترام القيم والأخلاقيات القضائية.
ثانيا- أسس الدستور الجديد لمجلس أعلى للسلطة القضائية يرأسه الملك بتركيبة موسعة تشمل قضاة منتخبين من طرف زملائهم وآخرين معينين بقوة القانون مع ضمان تمثيلية نسوية، وأعضاء آخرين خارج قطاع القضاء من الشخصيات المشهود لهم بالكفاءة والتجرد والنزاهة والعطاء المتميز في سبيل استقلال القضاء وسيادة القانون. مما يؤكد بالفعل أن القضاء شأن مجتمعي عام يشتغل بما تقتضيه آليات الحكامة القضائية من شفافية ونزاهة ووضوح.
كما لم يعد لوزير العدل أي صفة داخل هذه المؤسسة الدستورية التي جعل من مهامها السهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة ولا سيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم وجعل قراراتها المتعلق بالوضعية الفردية قابلة للطعن بسبب الشطط في استعمال السلطة أمام أعلى هيئة قضائية بالمملكة.
ولا شك أن هذه المقتضيات الدستورية الهامة ستشكل إطارا مؤسسيا هاما لتفعيل حقيقي لمفهوم استقلال القضاء وحلقة أساسية ضمن مسلسل إصلاح السلطة القضائية.